
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في هذه الآية: هل نزلت مرادًا بها كل مشركة، أم مراد بحكمها بعض المشركات دون بعض؟ (١) وهل نسخ منها بعد وجوب الحكم بها شيء أم لا؟
فقال بعضهم: نزلت مرادًا بها تحريم نكاح كل مشركة على كلّ مسلم من أيّ أجناس الشِّرك كانت، عابدةَ وثن كانت، (٢) أو كانت يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو من غيرهم من أصناف الشرك، ثم نسخ تحريم نكاح أهل الكتاب بقوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) إلى (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [سورة المائدة: ٤-٥]
* ذكر من قال ذلك:
٤٢١٢ - حدثني علي بن واقد قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ"، ثم استثنى نساءَ أهل الكتاب فقال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) حِلٌّ لكم (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ). (٣)
٤٢١٣ - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين
(٢) في المطبوعة: "عابدة وثن أو كانت يهودية... "، وفي المخطوطة: "عابدة وثن كانت يهودية... "، وكلاهما مضطرب، والصواب ما أثبت بزيادة"كانت".
(٣) الأثر: ٤٢١٢- في المخطوطة والمطبوعة"حدثني علي بن واقد، قال حدثني عبد الله ابن صالح"، والصواب ما أثبت. وهذا إسناد كثير الدوران فيما مضى وفيما سيأتي، وأقربه رقم: ٤٢٠٤. والآية في المطبوعة والمخطوطة كما أثبتها، بين جزئي الآية بقوله: "حل لكم"، وإسقاط قوله تعالى"من قبلكم"، وأخشى أن يكون ناسخ قد تصحف عليه فجعل هذه هذه. ولكني أثبت ما اتفقت عليه النسخ.

بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ"، فنُسخ من ذلك نساء أهل الكتاب، أحلّهُن للمسلمين.
٤٢١٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن"، قال: نساءُ أهل مكة ومن سواهنّ من المشركين، ثم أحل منهن نساء أهل الكتاب.
٤٢١٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
٤٢١٦ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" ولا تنكحوا المشركات" إلى قوله:" لعلهم يتذكرون"، قال: حرم الله المشركات في هذه الآية، ثم أنزل في"سورة المائدة"، فاستثنى نساء أهل الكتاب فقال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).
* * *
وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية مرادًا بحكمها مشركات العرب، لم ينسخ منها شيء ولم يُستثن، وإنما هي آية عامٌّ ظاهرُها، خاصٌّ تأويلها. (١)
* ذكر من قال ذلك:
٤٢١٧ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن"، يعني: مشركات العرب اللاتي ليس فيهن كتاب يقرأنه. (٢)
٤٢١٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
(٢) في المخطوطة، "يقرأ به" وتلك أجود.

معمر، عن قتادة قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ"، قال: المشركات، مَنْ ليس من أهل الكتاب، وقد تزوج حذيفة يهودية أو نصرانية. (١)
٤٢١٩ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ"، يعني مشركات العرب اللاتي ليس لهن كتابٌ يقرأنه.
٤٢٢٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ"، قال: مشركات أهل الأوثان.
* * *
وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية مرادًا بها كل مشركة من أيّ أصناف الشرك كانت، غير مخصوص منها مشركةٌ دون مشركة، وثنيةً كانت أو مجوسية أو كتابيةً، ولا نُسخ منها شيء.
* ذكر من قال ذلك:
٤٢٢١ - حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري قال، حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: نهى رسول الله ﷺ عن أصناف النساء، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، وحرَّم كل ذات دين غير الإسلام، وقال الله تعالى ذكره: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [سورة المائدة: ٥]، وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضبًا شديدًا، حتى همّ بأن يسطُو عليهما. فقالا نحن نطلِّق يا أمير المؤمنين،

ولا تغضب! فقال: لئن حل طلاقُهن لقد حل نكاحهن، ولكن أنتزعهن منكم صَغَرة قِماءً. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله قتادة: من أن الله تعالى ذكره عنى بقوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ" من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات = وأن الآية عام ظاهرها خاص باطنها، لم ينسخ منها شيء = وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها. وذلك أنّ الله تعالى ذكره أحل بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) - للمؤمنين من نكاح محصناتهن، مثلَ الذي أباح لهم من نساء المؤمنات.
وقد بينا في غير هذا الموضع من كتابنا هذا، وفي كتابنا (كتاب اللطيف من البيان) :(٢) أن كل آيتين أو خبرين كان أحدهما نافيًا حكم الآخر في فطرة العقل، فغير جائز أن يقضَى على أحدهما بأنه ناسخ حكم الآخر، إلا بحجة من خبر قاطع للعذر مَجيئُه. وذلك غير موجود، أن قوله: (٣) (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) ناسخٌ ما كان قد وجبَ تحريمه من النساء بقوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ". فإذ لم يكن ذلك موجودًا كذلك، (٤) فقول القائل:"هذه ناسخة هذه"، دعوى لا برهان له عليها، والمدعي دعوَى
والصغرة جمع صاغر: هو الراضي بالذل. وقماء جمع قميء: وهو الذليل الصاغر وإن لم يكن قصيرًا. والقميء: القصير. وفي المخطوطة وابن كثير"قمأة"، وليس جمعًا قياسيا، ولا هو وارد في كتب اللغة، ولكن إن صح الخبر، فهو إتباع لقوله: "صغرة" ومثله كثير في كلامهم.
(٢) انظر ما سلف ٢: ٥٣٤- ٥٣٥/ ثم ٣: ٣٨٥، ٥٦٣.
(٣) في المطبوعة: "بأن قوله": وأثبت ما في المخطوطة، وهو أعرق في العربية.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة: "فإن لم يكن ذلك"، وهو خطأ صرف، والصواب ما أثبت. وإلا تناقض كلام أبي جعفر.

لا برهان له عليها متحكم، والتحكم لا يعجز عنه أحدٌ. (١)
* * *
وأما القول الذي روي عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه: من تفريقه بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتين كانتا كتابيتين، فقولٌ لا معنى له - لخلافه ما الأمة مجتمعة على تحليله بكتاب الله تعالى ذكره، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول خلاف ذلك، بإسناد هو أصح منه، وهو ما:-
٤٢٢٢ - حدثني به موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا محمد بن بشر قال، حدثنا سفيان بن سعيد، عن يزيد بن أبي زياد، عن زيد بن وهب قال، قال عمر: المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة. (٢)
* * *
وإنما ذكره عمر لطلحة وحذيفة رحمة الله عليهم نكاحَ اليهودية والنصرانية، حذارًا من أن يقتدي بهما الناس في ذلك، فيزهدوا في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني، فأمرهما بتخليتهما. كما:
٤٢٢٣ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا الصلت بن بهرام، عن شقيق قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر:" خلِّ سبيلها"، فكتب إليه:" أتزعُمُ أنها حرامٌ فأخلي سبيلها؟ "، فقال:" لا أزعم
(٢) الحديث: ٤٢٢٢- هذا إسناد صحيح متصل إلى عمر.
محمد بن بشر بن الفرافصة بن المختار العبدي الحافظ: ثقة باتفاقهم. سفيان بن سعيد: هو الثوري. زيد بن وهب الجهني. تابعي كبير مخضرم، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقبض وهو في الطريق. وهو ثقة كثير الحديث. له ترجمة في تاريخ بغداد ٨: ٤٤٠- ٤٤٢، والإصابة ٣: ٤٦- ٤٧.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى ٧: ١٧٢، من طريق سفيان -وهو الثوري- بهذا الإسناد.
وذكره ابن كثير ١: ٥٠٧- ٥٠٨، عن رواية الطبري، وصحح إسناده.

أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن". (١)
وقد:-
٤٢٢٤ - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن أشعث بن سوار، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوَّجون نساءَنا. (٢)
* * *
فهذا الخبر - وإن كان في إسناده ما فيه - فالقول به، لإجماع الجميع على صحة القول به، أولى من خبر عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب.
* * *
فمعنى الكلام إذًا: ولا تنكحوا أيها المؤمنون مشركاتٍ، غير أهل الكتاب، حتى يؤمنَّ فيصدِّقن بالله ورسوله وما أنزل عليه.
* * *
شقيق: هو ابن سلمة الأسدي، التابعي الكبير المشهور. مضى في: ١٧٧.
والخبر رواه البيهقي أيضًا ٧: ١٧٢، من طريق سفيان، بهذا الإسناد.
وذكره ابن كثير ١: ٥٠٧، عن رواية الطبري، وقال: "وهذا إسناد صحيح. وروى الخلال، عن محمد بن إسماعيل، عن وكيع، عن الصلت، نحوه". وذكره السيوطي ١: ٢٥٦، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق.
وذكره الجصاص في أحكام القرآن ١: ٣٣٣، والقرطبي في تفسيره: ٣: ٦٨، بدون إسناد. ووقع في المطبوعة هنا، وفي ابن كثير، والسيوطي"المؤمنات"!! بدل"المومسات". وهو تحريف غريب، في ثلاثة كتب. وصوابه وتصححه من البيهقي والجصاص والقرطبي.
(٢) الحديث: ٤٢٢٤- إسحق الأزرق: هو إسحق بن يوسف، مضى في: ٣٣٢. شريك: هو ابن عبد الله النخعي القاضي، مضى في: ٢٥٢٧. الحسن: هو البصري.
وهذا الحديث لم أجده في شيء من دواوين الحديث، غير هذا الموضع. ونقله عنه ابن كثير ١: ٥٠٨ ثم نقل كلام الطبري الذي عقبه، ثم قال: "كذا قال ابن جرير رحمه الله".
وتعقيب ابن جرير بأنه"وإن كان في إسناده ما فيه" - لعله يشير رحمه الله إلى القول بأن الحسن البصري لم يسمع من جابر. ففي المراسيل لابن أبي حاتم، ص: ١٣"حدثنا محمد بن أحمد بن البراء، قال: قال علي بن المديني: الحسن لم يسمع من جابر بن عبد الله شيئًا. سئل أبو زرعة: الحسن لقي جابر بن عبد الله؟ قال: لا. حدثنا محمد بن سعيد بن بلج، قال: سمعت عبد الرحمن بن الحكم يقول سمعت جريرًا يسأل بهزًا عن الحسن: من لقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لم يسمع من جابر بن عبد الله. سألت أبي: سمع الحسن من جابر؟ قال: ما أرى، ولكن هشام بن حسان يقول: عن الحسن، حدثنا جابر بن عبد الله، وأنا أنكر هذا، إنما الحسن عن جابر كتاب، مع أنه أدرك جابرًا".
وأنا أرى أن رواية هشام بن حسان كافية في إثبات سماع الحسن من جابر. فقد قال ابن عيينة: "كان هشام أعلم الناس بحديث الحسن".
ومعنى هذا الحديث ثابت عن جابر، موقوفا عليه من كلامه. رواه الشافعي في الأم ج ٥ ص ٦، من رواية أبي الزبير، عن جابر، وكذلك رواه البيهقي ٧: ١٧٢، من طريق الشافعي.
والموقوف -عندنا- لا يعلل به المرفوع، بل هو يؤيده ويثبته، كما بينا ذلك في غير موضع من كتبنا. والحمد لله.

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" ولأمة مؤمنة" بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، خيرٌ عند الله وأفضل من حرة مشركة كافرة، وإن شرُف نسبها وكرُم أصلها. يقول: ولا تبتغوا المناكح في ذوات الشرف من أهل الشرك بالله، فإنّ الإماء المسلمات عند الله خير مَنكحًا منهن.
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل نكح أمة، فعُذل في ذلك، وعُرضت عليه حرة مشركة.
* ذكر من قال ذلك:
٤٢٢٥ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم"، قال: نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداءُ، وأنه غضب عليها فلطمها. ثم فزع فأتى النبي ﷺ فأخبره بخبرها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ما هي يا عبد الله؟ قال: يا رسول الله، هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوءَ وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال:

هذه مؤمنة! فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتِقنَّها ولأتزوجنَّها! ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: تزوج أمة!! وكانوا يريدون أن يَنكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنزل الله فيهم:" ولأمةٌ مؤمنة خيرٌ من مشركة" و" عبدٌ مؤمن خيرٌ من مشرك".
٤٢٢٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج قال، قال ابن جريج في قوله:" ولا تنكحوا إلى المشركات حتى يؤمنَّ"، قال: المشركات - لشرفهن - حتى يؤمن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وإن أعجبتكم المشركة من غير أهل الكتاب في الجمال والحسب والمال، فلا تنكحوها، فإن الأمة المؤمنة خيرٌ عند الله منها.
* * *
وإنما وضعت"لو" موضع"إن" لتقارب مخرجيهما، ومعنييهما، ولذلك تجاب كل واحدة منهما بجواب صَاحبتها، على ما قد بينا فيما مضى قبْل. (١)
* * *

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك، أن الله قد حرَّم على المؤمنات أن ينكحن مشركًا كائنًا من كان المشرك، ومن أيّ أصناف الشرك كان، فلا تنكحوهنَّ أيها المؤمنون منهم، فإنّ ذلك حرام عليكم، ولأن تزوجوهن من عبدٍ مؤمن مصدق بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، خير لكم من أن تزوجوهن من حر مشرك، ولو شرُف نسبه وكرم أصله، وإن أعجبكم حسبه ونسبه.
* * *
وكان أبو جعفر محمد بن عليّ يقول: هذا القولُ من الله تعالى ذكره، دلالةٌ على أن أولياء المرأة أحق بتزويجها من المرأة.
٤٢٢٧ - حدثنا محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي قال، أخبرنا حفص بن غياث، عن شيخ لم يسمه، قال أبو جعفر: النكاح بوليّ في كتاب الله، ثم قرأ:" ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا" برفع التاء.
٤٢٢٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة والزهري في قوله:" ولا تنكحوا المشركين"، قال: لا يحل لك أن تنكح يهوديًّا أو نصرانيًّا ولا مشركًا من غير أهل دينك.
٤٢٢٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج:" ولا تنكحوا المشركين" - لشرفهم -" حتى يؤمنوا".
٤٢٣٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري:" ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا"، قال: حرَّم المسلمات على رجالهم - يعني رجال المشركين.
* * *

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" أولئك"، هؤلاء الذين حرمت عليكم أيها المؤمنون مناكحتهم من رجال أهل الشرك ونسائهم، يدعونكم إلى النار = يعني: يدعونكم إلى العمل بما يدخلكم النار، وذلك هو العمل الذي هم به عاملون من الكفر بالله ورسوله. يقول: ولا تقبلوا منهم ما يقولون، ولا تستنصحوهم، ولا تنكحوهم ولا تنكحوا إليهم، فإنهم لا يألونكم خبالا ولكن اقبلوا من الله ما أمركم به فاعملوا به، وانتهوا عما نهاكم عنه، فإنه يدعوكم إلى الجنة = يعني بذلك يدعوكم إلى العمل بما يدخلكم الجنة، ويوجب لكم النجاة إن عملتم به من النار، وإلى ما يمحو خطاياكم أو ذنوبكم، فيعفو عنها ويسترها عليكم.
* * *
وأما قوله:" بإذنه"، (١) فإنه يعني: أنه يدعوكم إلى ذلك بإعلامه إياكم سبيلَه وطريقَه الذي به الوصول إلى الجنة والمغفرة.
* * *
ثم قال تعالى ذكره:" ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون"، يقول: ويوضح حججه وأدلته في كتابه الذي أنزله على لسان رسوله لعباده، ليتذكروا فيعتبروا، ويميزوا بين الأمرين اللذين أحدهما دَعَّاءٌ إلى النار والخلود فيها، والآخر دَعَّاءٌ إلى الجنة وغفران الذنوب، فيختاروا خيرهما لهم. ولم يجهل التمييز بين هاتين إلا غبيّ [غَبين] الرأي مدخول العقل.
* * *