آيات من القرآن الكريم

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ۗ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ

وقول اللَّه تبارك وتعالى: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ نصبت، ومنهم من يرفع «وَيُهْلِكَ» رفع لا يردّه على «لِيُفْسِدَ» ولكنه يجعله مردودا على قوله: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ- وَيُهْلِكَ» والوجه الأول أحسن.
وقوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ... (٢٠٥)
من العرب من يقول: فسد الشيء فسودا، مثل قولهم: ذهب ذهوبا وذهابا، وكسد كسودا وكسادا.
وقوله: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ... (٢٠٨)
أي لا تتبعوا آثاره فإنها معصية.
وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ... (٢١٠)
رفع مردود على (الله) تبارك وتعالى، وقد خفضها بعض «١» أهل المدينة. يريد «فِي ظللٍ من الغمام وفي الملائكة». والرفع أجود لأنها فِي قراءة عَبْد اللَّه «هَلْ يَنْظُرونَ إِلّا أن يأتيهم اللَّه والملائكة فى ظلل من الغمام».
وقوله: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ... (٢١١)
لا تهمز «٢» فِي شيءٍ من القرآن لأنها لو همزت كانت «اسأل» بألفٍ. وإنما (ترك همزها) «٣» فِي الأمر خاصة لأنها كثيرة الدور فى الكلام فلذلك ترك همزه كما

(١) هو أبو جعفر يزيد بن القعقاع. وانظر البحر ٢/ ١٢٥
(٢) أي الكلمة «سلى».
(٣) فى ج. وش: «تزول همزتها».

صفحة رقم 124

قَالُوا: كل، وخذ، فلم يهمزوا في الأمر، وهمزوه فِي النهى وما سواه. وقد تهمزه العرب. فأما فِي القرآن فقد جاء بترك الهمز. وكان حمزة الزيات يهمز الأمر إذا كانت فِيهِ الفاء أو الواو مثل قوله: «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها» «١» ومثل قوله:
«فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ» «٢» ولست أشتهى ذلك لأنها لو كانت مهموزة لكتبت فيها الألف كما كتبوها فِي قوله «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً» «٣»، «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا» «٤» بالألف.
وقوله: كَمْ آتَيْناهُمْ... (٢١١)
معناه: جئناهم به [من آية] «٥». والعرب تقول: أتيتك بآيةٍ، فإذا ألقوا الباء قَالُوا: آتيتك آية كما جاء فِي الكهف «آتِنا غَداءَنا» «٦» والمعنى: ايتنا بغدائنا.
وقوله: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا... (٢١٢)
ولم يقل «زينت» وذلك جائز، وإنما ذكر الفعل والاسم مؤنث لأنه مشتق من فعل فِي مذهب مصدر. فمن أنث أخرج الكلام على اللفظ، ومن ذكر ذهب إلى تذكير المصدر. ومثله «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى» «٧» و «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ» «٨»، «وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» «٩» على ما فسرت لك.
فأما فِي الاسماء الموضوعة فلا تكاد العرب تذكر فعل مؤنثٍ إلا فى الشعر لضرورته.

(١) آية ٨٢ سورة يوسف.
(٢) آية ٩٤ سورة يونس.
(٣) آية ٧٧ سورة طه.
(٤) آية ١٣ سورة يس.
(٥) زيادة فى أ.
(٦) آية ٦٢ سورة الكهف. [.....]
(٧) آية ٢٧٥ سورة البقرة.
(٨) آية ١٠٤ سورة الأنعام.
(٩) آية ٦٧ سورة هود.

صفحة رقم 125

وقد يكون الاسم غير مخلوقٍ من فعلٍ، ويكون فِيهِ معنى تأنيثٍ وهو مذكر فيجوز فِيهِ تأنيث الفعل وتذكيره على اللفظ مرة وعلى المعنى مرّة من ذلك قوله عز وجل «وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ» «١» ولم يقل «كذبت» ولو قيلت لكان صوابا كما قال «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ» «٢» و «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ» «٣» ذهب إلى تأنيث الأمة، ومثله من الكلام فِي الشعر كثير منه قول الشاعر:

فإن كلابا هذه عشر أبطن وأنت برىء من قبائلها العشر «٤»
وكان ينبغي أن يقول: عشرة أبطنٍ لأن البطن ذكر، ولكنه فِي هذا الموضع فِي معنى قبيلة، فأنث لتأنيث القبيلة فِي المعنى. وكذلك قول الآخر:
وقائع فِي مضرٍ تسعة وفي وائلٍ كانت العاشره
فقال: تسعة، وكان ينبغي له أن يقول: تسع لأن الوقعة أنثى، ولكنه ذهب إلى الأيام لأن العرب تقول فِي معنى الوقائع: الأيام فيقال هُوَ عالم بأيام العرب، يريد وقائعها. فأما قول اللَّه تبارك وتعالى: «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» «٥» فإنه أريد به- والله أعلم-: جمع الضياءان. وليس قولهم: إنما ذكر فعل الشمس لأن الوقوف لا يحسن فِي الشمس حَتَّى يكون معها القمر بشيءٍ «٦»، ولو كان هذا على ما قيل لقالوا: الشمس جمع والقمر. ومثل هذا غير جائز، وإن شئت ذكّرته
(١) آية ٦٦ سورة الأنعام.
(٢) آية ١٠٥ سورة الشعراء.
(٣) آية ١٦٠ سورة الشعراء.
(٤) فى العيني: «قائله رجل من بنى كلاب يسمى النوّاح» وورد فى اللسان (بطن) من غير عزو.
(٥) آية ٩ سورة القيامة.
(٦) خبر قوله: «ليس قولهم..».

صفحة رقم 126

لأن الشمس اسم مؤنث ليس فيها هاء تدل على التأنيث، والعرب ربما ذكرت فعل المؤنث إذا سقطت منه علامات التأنيث. قال الفراء: أنشدني بعضهم:
فهي أحوى من الربعي خاذلة... والعين بالإثمد الحاري مكحول «١»
ولم يقل: مكحولة والعين أنثى للعلة التي أنبأتك بها. قال: وأنشدني بعضهم:
فلا مزنة ودقت ودقها... ولا أرض أبقل إبقالها «٢»
قال: وأنشدني يونس- يعني النحوي الْبَصْرِيّ- عن العرب قول الأعشى:
إلى رجلٍ منهم أسيفٍ كأنما... يضم إلى كشحيه كفا مخضبا «٣»
وأما قوله: «السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ» «٤» فإن شئت جعلت السماء مؤنثة بمنزلة العين فلما لم يكن فيها هاء مما يدل على التأنيث ذكر فعلها كما فعل بالعين والأرض فى البيتين.

(١) فى سيبويه ١/ ٢٤٠، وهو فيه لطفيل الغنوي. والشطر الأوّل فيه هكذا:
إذ هى أحوى من الربعىّ حاجبه وكذلك هو فى ديوان طفيل ٢٩، وقبله- وهو أوّل القصيدة-:
هل حبل شماء قبل البين موصول... أم ليس للصرم عن شماء معدول
أم ما تسائل عن شماء ما فعلت... وما تحاذر من شماء مفعول
وتراه يشبه شماء بأحوى من الظباء، وهو الذي فى ظهره وجنبتى أنفه سواد، وذكر أن حاجب عينه وعينه مكحولان، واقتصر فى الخبر على أحدهما، ورواية الفرّاء: «خاذلة» فى مكان «حاجبه» والخاذلة:
الظبية تنفرد عن صواحباتها، وتقوم على ولدها، وذلك أجمل لها. شبهها أولا بالظبى، ثم راعى أنها أنثى فجعلها ظبية. فقوله: «خاذلة» ليس من وصف «أحوى» وإنما هو خبر ثان.
(٢) هذا فى سيبويه ١/ ٢٤٠، وقد نسب لعامر بن جوين الطائي. وقال الأعلم: «وصف أرضا مخصبة لكثرة ما نزل بها من الغيث. والودق: المطر. والمزنة: السحاب». وانظر الخزانة ١/ ٢١.
(٣) البيت فى ديوان الأعشى طبع أوربا:
أرى رجلا منكم أسيفا...
والأسيف من الأسف وهو الحزن. وقوله: «كأنما يضم... » أي كأنه قطعت يده فخضبت كفه بالدم، فهو لذلك أسيف حزين.
(٤) آية ١٨ سورة المزمّل.

صفحة رقم 127

ومن العرب من يذكر السماء لأنه جمع كأن واحدته سماوة أو سماءة. قال:
وأنشدني بعضهم:

فلو رفع السماء إليه قوما لحقنا بالسماء مع السحاب «١»
فإن قال قائل: أرأيت الفعل إذا جاء بعد المصادر المؤنثة أيجوز تذكيره بعد الأسماء كما جاز قبلها؟ قلت: ذلك قبيح وهو جائز. وإنما قبح لأن الفعل إذا أتى بعد الاسم كان فِيهِ مكنى من الاسم فاستقبحوا أن يضمروا مذكرا قبله مؤنث، والذين استجازوا ذلك قَالُوا: يذهب به إلى المعنى، وهو فِي التقديم والتأخير سواء قال الشاعر:
فإن تعهدي لامرئ لمةً فإن الحوادث أزرى بها «٢»
ولم يقل: أزرين بها ولا أزرت بها. والحوادث جمع ولكنه ذهب بها إلى معنى الحدثان. وكذلك قال الآخر:
هنيئا لسعدٍ ما اقتضى بعد وقعتى بناقة سعد والعشية بارد
كأن العشية فِي معنى العشي ألا ترى قول اللَّه «أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا» «٣» وقال الآخر:
إن السماحة والشجاعة ضمنا قبرا بمرو على الطريق الواضح»
(١) ورد فى اللسان (سما) من غير عزو. [.....]
(٢) فى سيبويه ١/ ٢٣٩، وفيه بدل الشطر الأول:
فإما ترى لمتى بدّلت وهو من قصيدة للأعشى فى الصبح المنير ١٢٠ يمدح فيها رهط قيس بن معديكرب ويزيد بن عبد المدان.
واللمة: الشعر يلم بالمنكب. وإزراء الحوادث بها: تغييرها من السواد إلى البياض. وقوله: «فإن تعهدى» أي إن كنت تعهدين ذلك فيما مضى من الزمن.
(٣) آية ١١ سورة مريم.
(٤) لزياد الأعجم فى رثاء المغيرة بن المهلب. وبعده:
فإذا مررت بقبره فاعقر به كوم الهجان وكل طرف سابح
وانظر الأغانى ١٤/ ١٠٢، وذيل الأمالى ٨.

صفحة رقم 128

ولم يقل: ضمنتا، والسماحة والشجاعة مؤنثتان للهاء التي فيهما. قال: فهل يجوز أن تذهب بالحدثان إلى الحوادث فتؤنث فعله قبله فتقول أهلكتنا الحدثان؟ قلت نعم أنشدني الكسائي:

ألا هلك الشهاب المستنير ومدرهنا الكمىّ إذا نغير «١»
وحمال المئين إذا ألمت بنا الحدثان والأنف النصور
فهذا كافٍ مما يحتاج إليه من هذا النوع.
وأما قوله: «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ» «٢» ولم يقل «بطونها» والأنعام هِيَ مؤنثة لأنه ذهب به إلى النعم والنعم ذكر. وإنما جاز أن تذهب به إلى واحدها لأن الواحد يأتي فِي المعنى على معنى الجمع كما قال الشاعر:
إذا رَأَيْت أنجمًا من الأسد جَبْهته أو الخرات والكتد «٣»
بال سهيل فِي الفضيخ ففسد وطاب ألبان اللقاح فبرد
ألا ترى أن اللبن جمع يكفى من الألبان. وقد كان الكسائي يذهب بتذكير الأنعام إلى مثل قول الشاعر:
ولا تذهبن عيناك فِي كل شرمح طوالٍ فإن الأقصرين أمازره «٤»
(١) ورد البيتان فى اللسان (حدث) من غير عزو. وفيه «وهاب» بدل «حمال» فى البيت الثاني.
(٢) آية ٦٦ سورة النحل.
(٣) الأسد أحد البروج الاثني عشر. والخرات أحد نجمين من كواكب الأسد يقال لهما الخراتان. والتاء فى الخرات أصلية على أحد وجهين، ومن ثم كتبت التاء مفتوحة، كما فى اللسان (جبه). قال ابن سيده: لا يعرف الخراتان إلا مثنى. والكتد- بفتحتين- نجم أيضا من الأسد. والفضيخ البسر المشدوخ. يقول: لما طلع سهيل ذهب زمن البسر وأرطب فكأنه بال فيه. واللقاح: النوق إلى أن يفصل عنها ولدها. وذلك عند طلوع سهيل. فيرد:
صار هنيئا. رجع بقوله فبرد إلى معنى اللبن، والألبان تكون فى معنى واحد.
(٤) الشرمح من الرجال القوى الطويل. والأمازر جمع أمزر وهو اسم تفضيل للمزير وهو الشديد القلب القوى النافذ. وقبل البيت:
إليك ابنةَ الأعيار خافي بسالة ال رجال وأصلال الرجال أقاصره
ونقل عن الفراء أن المزير الظريف وأنشد البيت كما فى اللسان.

صفحة رقم 129

ولم يقل: أمازرهم، فذكر وهو يريد أمازر ما ذكرنا. ولو كان كذلك لجاز أن تقول هُوَ أحسنكم وأجمله، ولكنه ذهب إلى أن هذا الجنس يظهر مع نكرةٍ غير مؤقتة يضمر فيها مثل معنى النكرة فلذلك قَالَتِ العرب: هُوَ أحسن الرجلين وأجمله لأن ضمير الواحد يصلح فِي معنى الكلام أن تقول هُوَ أحسن رَجُل فِي الاثنين، وكذلك قولك هِيَ أحسن النساء وأجمله. من قال وأجمله قال: أجمل شيء فِي النساء، ومن قال: وأجملهن أَخْرَجَهُ على اللفظ واحتج بقول الشاعر:
مثل الفراخ نتقت حواصله «١» ولم يقل حواصلها. وإنما ذكر لأن الفراخ جمع لم يبن على واحده، فجاز أن يذهب بالجمع إلى الواحد. قال الفراء: أنشدني المفضل:

ألا إن جيراني العشية رائح دعتهم دواعٍ من هوى ومنازح
فقال: رائح ولم يقل رائحون لأن الجيران قد خرج مخرج الواحد من الجمع إذ لم يبن جمعه على واحده.
فلو قلت: الصالحون فإن ذلك لم يجز لأن الجمع منه قد بنى على صورة واحدة. وكذلك الصالحات نقول، ذاك غير جائز لأن صورة الواحدة فِي الجمع قد ذهب عَنْهُ توهم الواحدة. ألا ترى أن العرب تقول: عندي عشرون صالحون فيرفعون ويقولون عندي عشرون جيادا فينصبون الجياد لأنها لم تبن على واحدها، فذهب بها إلى الواحد ولم يفعل ذلك بالصالحين قال عنترة:
فيها اثنتان وأربعونَ حَلُوبةً سُودا كخافية الغراب الأسحم «٢»
(١) «نتقت» أي سمنت. وانظر رسالة الغفران ٤١٦.
(٢) من معلقته. والضمير فى «فيها» يرجع إلى «حمولة أهلها» فى قوله:
ما راعنى إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخم
والحمولة: الإبل عليها الأثقال، يريد تهيؤ أهلها للسفر. والحلوبة الناقة ذات اللبن، والسود من الإبل عزيزة. وانظر الحزانة ٣/ ٣١٠

صفحة رقم 130

فقال: سودا ولم يقل: سود «١» وهي من نعت الاثنتين والاربعين للعلة التي أخبرتك بها. وقد قرأ بعض القرّاء «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا» ويقال إنه مجاهد فقط.
وقوله: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ... (٢١٣)
ففيها معنيان أحدهما أن تجعل اختلافهم كفر بعضهم بكتاب بعضٍ «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» للإيمان بما أنزل كله وهو حق. والوجه الآخر أن تذهب باختلافهم إلى التبديل كما بدلت التوراة. ثُمَّ قال «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» به للحق مما اختلفوا فِيهِ. وجاز «٢» أن تكون اللام فِي الاختلاف ومن فِي «٣» الحق كما قال اللَّه تعالى: «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ» والمعنى- والله أعلم- كمثل المنعوق به لأنه وصفهم فقال تبارك وتعالى: «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ» كمثل البهائم، وقال الشاعر «٤» :
كانت فريضة ما تقول كما... كان الزناء فريضة الرجم
وإنما الرجم فريضة الزناء، وقال:
إن سراجًا لكريم مفخره... تَحْلَى بِهِ الْعَيْنُ إذا ما تجهره

(١) وقد روى هذا فى البيت أي رفع سود.
(٢) يريد أن الأصل فى تأليف الآية:
فهدى الله الذين آمنوا مما اختلفوا فيه للحق، فجعل كل الحرفين من واللام فى مكان صاحبه، على طريقة القلب المكانىّ. وقد أبان أن هذا منهج مألوف فى القرآن وكلام العرب.
(٣) سقط هذا الحرف (فى) فى أ.
(٤) انظر ص ٩٩ من هذا الجزء لهذا البيت وما بعده.

صفحة رقم 131

والعين لا تحلى إنما يحلى بها سراج، لأنك تقول: حليت بعيني، ولا تقول حليت عيني بك إلا فِي الشعر.
وقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ... (٢١٤)
استفهم بأم فِي ابتداءٍ ليس قبله ألف «١» فيكون أم ردا عليه، فهذا مما أعلمتك «٢» أنه يجوز إذا كان قبله كلام يتصل به. ولو كان ابتداء ليس قبله كلام كقولك للرجل: أعندك خير؟ لم يجز هاهنا أن تقول: أم عندك خير.
ولو قلت: أنت رَجُل لا تنصف أم لك سلطان تدل به، لجاز ذلك إذ تقدمه كلام فاتصل به.
وقوله: أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [معناه «٣» :
أظننتم أن تدخلوا الجنة ولم يصبكم مثل ما أصاب الذين قبلكم] فتختبروا. ومثله:
«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» «٤» وكذلك فِي التوبة «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» «٥».
وقوله: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ... (٢١٤)
قرأها القراء بالنصب إلا مجاهدا وبعض «٦» أهل المدينة فإنهما رفعاها.
ولها وجهان فِي العربية: نصب، ورفع. فأما النصب فلان الفعل الَّذِي قبلها مما يتطاول «٧» كالترداد. فإذا كان الفعل على ذلك المعنى نصب بعده بحتى وهو

(١) يريد همزة الاستفهام. [.....]
(٢) انظر ص ٧٢ من هذا الجزء.
(٣) زيادة فى أ.
(٤) آية ١٤٢ سورة آل عمران.
(٥) آية ١٦ من السورة.
(٦) هو نافع.
(٧) قوله «يتطاول كالترداد» يعنى ما فيه امتداد الفعل قال ابن عادل فى تفسيره عن الزجاج:
«أصل الزلزلة فى اللغة من زلّ الشيء عن مكانه. فإذا قلت: زلزلته فتأويله أنك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه كمضاعفة معناه لأن ما فيه تكرير تكرر فيه الفعل نحو صرّ وصر صر وصل وصلصل وكف وكفكف». قال الطبري: الزلزلة فى هذا الموضع الخوف لا زلزلة الأرض، فلذلك كانت متطاولة، وكان النصب فى يقول أهم.

صفحة رقم 132

فِي المعنى ماضٍ. فإذا كان الفعل الَّذِي قبل حَتَّى لا يتطاول وهو ماضٍ رفع الفعل بعد حَتَّى إذا كان ماضيا.
فأما الفعل الَّذِي يتطاول وهو ماضٍ فقولك: جعل فلان يديم النظر حَتَّى يعرفك ألا ترى أن إدامة النظر تطول. فإذا طال ما قبل حَتَّى ذهب بما بعدها إلى النصب إن كان ماضيا بتطاوله. قال: وأنشدني [بعض العرب وهو] «١» المفضل:

مطوت بهم حَتَّى تكل غزاتهم وحتى الجياد ما يقدن بأرسان «٢»
فنصب (تكل) والفعل الَّذِي أداه قبل حَتَّى ماض لأن المطو بالابل يتطاول حَتَّى تكل عَنْهُ. ويدلك على أنه ماض أنك تقول: مطوت بهم حَتَّى كلت غزاتهم.
فبحسن «٣» فعل مكان يفعل تعرف الماضي من المستقبل. ولا يحسن مكان المستقبل فعل ألا ترى أنك لا تقول: أضرب زيدا حَتَّى أقر، لأنك تريد: حَتَّى يكون ذلك منه.
وإنما رفع مجاهد لأن فعل يحسن فِي مثله من الكلام كقولك: زلزلوا حَتَّى قال الرَّسُول. وقد كان الكسائي قرأ بالرفع دهرا ثُمَّ رجع إلى النصب. وهي في قراءة عَبْد اللَّه: «وزلزلوا ثُمَّ زلزلوا ويقول الرَّسُول» وهو دليل على معنى النصب.
(١) زيادة فى أ.
(٢) البيت لامرئ القيس: المطو: الجدّ والنجاء فى السير. والغزاة جمع غاز، والذي فى ديوانه:
حتى تكل مطيهم، والذي فى اللسان فى (مطا) :«غريهم» بالراء وهو تحريف صوابه: «غزيهم» بالزاي كما فى اللسان (غزا) والغزىّ: الغزاة. وأراد بقوله: ما يقدن إلخ أن الجياد بلغ بها الإعياء أشدّه فعجزت عن السير.
(٣) فى الأصول: «فيحسن» وهو تحريف.

صفحة رقم 133

ولحتى ثلاثة معان فِي يفعل، وثلاثة معان فِي الاسماء.
فإذا رَأَيْت قبلها فعل ماضيا وبعدها يفعل فِي معنى مضى وليس ما قبل (حَتَّى يفعل) يطول «١» فارفع يفعل بعدها كقولك جئت حَتَّى أكون معك قريبا، وكان أكثر النحويين ينصبون الفعل بعد حَتَّى وإن كان ماضيا إذا كان لغير الأول، فيقولون: سرت حَتَّى يدخلها زَيْدُ فزعم الكسائي أنه سمع العرب تقول: سرنا حَتَّى تطلع لنا الشمس بزبالة «٢»، فرفع والفعل للشمس، وسمع: إنا لجلوس فما نشعر حتى يسقط حجر بيننا، رفعا. قال: وأنشدني «٣» الكسائي:

وقد خضن الهجير وعمن حَتَّى يفرج ذاك عنهن المساء
وأنشد (قول الآخر) «٤» :
وننكر يوم الروع ألوان خيلنا من الطعن حَتَّى نحسب الجون أشقرا «٥»
فنصب هاهنا لأن الإنكار يتطاول. وهو الوجه الثاني من باب حَتَّى.
وذلك أن يكون ما قبل حَتَّى وما بعدها ماضيين، وهما مما يتطاول، فيكون يفعل فِيهِ وهو ماضٍ فِي المعنى أحسن من فعل، فنصب وهو ماضٍ لحسن يفعل فِيهِ. قال الكسائي: سمعت العرب تقول: إن البعير ليهرم حَتَّى يجعل إذا شرب الماء مجه. وهو أمر قد مضى، و (يجعل) فيه أحسن من (جعل). وإنّما حسنت
(١) هذا خبر ليس.
(٢) زبالة كثمالة منزلة من مناهل طريق مكة.
(٣) فى أ: «أنشدنا».
(٤) سقط ما بين القوسين فى ش.
(٥) من قصيدة للنابغة الجعدىّ فى مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، ومطلعها:
خليلى عوجا ساعة وتهجرا ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا
وقبل بيت الشاهد:
وإنا لقوم ما نعوّد خيلنا إذا ما التقينا أن تحبد وتنفرا
[.....]

صفحة رقم 134

لأنها صفة تكون فِي الواحد على معنى الجميع، معناه: إن هذا ليكون كثيرا فِي الإبل.
ومثله: إن الرجل ليتعظم حتى يمر فلا «١» يسلم على الناس. فتنصب (يمر) لحسن يفعل فِيهِ وهو ماضٍ وأنشدني أَبُو ثروان:

أحب لحبها السودان حَتَّى أحب لحبها سود الكلاب «٢»
ولو رفع لمضيه فِي المعنى لكان صوابا. وقد أنشدنيه بعض بني أسد رفعا. فإذا أدخلت فِيهِ «لا» اعتدل «٣» فِيهِ الرفع والنصب كقولك: إن الرجل ليصادقك حَتَّى لا يكتمك سرا، ترفع لدخول «لا» إذا كان المعنى ماضيا. والنصب مع دخول لا جائز.
ومثله ما يرفع وينصب إذ دخلت «لا» فِي قول اللَّه تبارك وتعالى:
«وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ» «٤» رفعا ونصبا. ومثله: «أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» «٥» ينصبان ويرفعان، وإذا ألقيت منه «لا» لم يقولوه إلا نصبا وذلك أن «ليس» تصلح مكان «لا» فيمن رفع بحتّى وفيمن رفع ب (أن) ألا ترى أنك تقول: إنه ليؤاخيك حَتَّى ليس يكتمك شيئًا، وتقول فِي «أن» : حسبت أن لست تذهب فتخلفت. وكل موضع حسنت فِيهِ «ليس» مكان «لا» فافعل به هذا: الرفع مرة، والنصب مرة. ولو رفع الفعل
(١) فى أ: «فما».
(٢) ورد فى عيون الأخبار ٤/ ٤٣ غير معزوّ.
(٣) أي جاز على اعتدال واستواء.
(٤) آية ١٧ سورة المائدة، قرأ بالرفع أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب، على أن أن المخففة من الثقيلة. وقرأ الباقون بالنصب، فتكون أن هى الثنائية الناصبة للمضارع.
(٥) آية ٨٩ سورة طه. والرفع هو قراءة الجمهور. وهو الوجه. وورد النصب فى قراءة أبى حيوة وغيره. وهى قراءة شاذة. والرؤية عليه بصرية. وانظر البحر ٦/ ٢٦٩

صفحة رقم 135

فِي «أن» بغير «لا» لكان صوابا كقولك حسبت أن تقول ذاك لأن الهاء تحسن فِي «أن» فتقول حسبت أنه يقول ذاك وأنشدنى القاسم «١» بن معن:
إنى زعيم يا نوي... قة إن نجوت من الزواح «٢»
وسلمت من عرض الحتو... ف من الغدو إلى الرواح «٣»
أن تهبطين بلاد قو... م يرتعون من الطلاح «٤»
فرفع (أن تهبطين) ولم يقل: أن تهبطى.
فإذا كانت «لا» لا تصلح مكانها «ليس» فِي «حَتَّى» ولا فِي «أن» فليس إلا النصب، مثل قولك: لا أبرح حَتَّى لا أحكم أمرك. ومثله فِي «أن» : أردت أن لا تقول ذاك. لا يجوز هاهنا الرفع.
والوجه الثالث فِي يفعل من «حَتَّى» أن يكون ما بعد «حَتَّى» مستقبلا، - ولا تبال كيف كان الَّذِي قبلها- فتنصب كقول الله جل وعز «لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى» «٥»، و «فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي» «٦» وهو كثير فى القرآن.
وأمّا الأوجه الثلاثة فِي الاسماء فأن ترى بعد حَتَّى اسما وليس قبلها شيء يشاكله يصلح عطف ما بعْد حَتَّى عليه، أو أن ترى بعدها اسما وليس قبلها شىء.

(١) هو قاضى الكوفة، من ذرية عبد الله بن مسعود رضى الله عنه. توفى سنة ١٧٥، وانظر شذرات الذهب.
(٢) فى ش: الزراح. وهو شدة الضعف فى الإبل حتى تلصق بالأرض فلم يكن بها تهوض، والزواح هو الذهاب، وأزاحه عن موضعه: نحاه. وكتب على هامش أ، جأى الموت وهو تفسير للزواح.
(٣) «من الغدو» فى أ، ش: «مع الغدوّ». والعرض: ما يحدث من أحداث الدهر. والحتوف جمع الحنف وهو الموت.
(٤) الطلاح واحدها طلحة وهى شجرة طويلة لها طل يستظل بها الإنسان والإبل.
(٥) آية ٩١ سورة طه.
(٦) آية ٨٠ من سورة يوسف.

صفحة رقم 136

فالحرف بعد حَتَّى مخفوض فِي الوجهين من ذلك قول اللَّه تبارك وتعالى «تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ» «١» و «سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» «٢» لا يكونان إلا خفَضا لأنه ليس قبلهما اسم يعطف عليه ما بعد حَتَّى، فذهب بحتى إلى معنى «إلى». والعرب تقول: أضمنه حَتَّى الاربعاء أو الخميس، خفضا لا غير، وأضمن القوم حَتَّى الاربعاء.
والمعنى: أن أضمن القوم فِي الاربعاء لأن الأربعاء يوم من الأيام، وليس بمشاكل للقوم فيعطف عليهم.
والوجه الثاني أن يكون ما قبل حتى من الأسماء عددا يكثر ثُمَّ يأتي بعد ذلك الاسم الواحد أو القليل من الاسماء. فإذا كان كذلك فانظر إلى ما بعد حَتَّى فإن كانت الاسماء التي بعدها قد وقع عليها من الخفض والرفع والنصب ما قد وقع على ما قبل حَتَّى ففيها وجهان: الخفض والاتباع لما قبل حتى من ذلك: قد ضرب القوم حَتَّى كبيرهم، وحتى كبيرهم، وهو مفعول به، فِي الوجهين قد أصابه الضرب.
وذلك أن إلى قد تحسن فيما قد أصابه الفعل، وفيما لم يصبه من ذلك أن تقول:
أعتق عبيدك حَتَّى أكرمهم عليك. تريد: وأعتق أكرمهم عليك، فهذا مما يحسن فِيهِ إلى، وقد أصابه الفعل. وتقول فيما لا يحسن فِيهِ أن يصيب الفعل ما بعد حَتَّى:
الأيام تصام كلها حَتَّى يوم الفطر وأيام التشريق. معناه يمسك عن هذه الأيام فلا تصام. وقد حسنت فيها إلى.
والوجه الثالث أن يكون ما بعد حَتَّى لم يصبه شيء مما أصاب ما قبل حَتَّى فذلك خفض لا يجوز غيره كقولك: هُوَ يصوم النهار حَتَّى الليل، لا «٣» يكون الليل إلا خفضا، وأكلت السمكة حَتَّى رأسها، إذا لم يؤكل الرأس لم يكن إلا خفضا.

(١) آية ٤٣ سورة الذاريات.
(٢) آية ٥ سورة القدر.
(٣) فى ش، ج: «ولا». [.....]

صفحة رقم 137

وأما قول الشاعر:
فيا عجبا حَتَّى كليب تسبني... كأن أباها نهشل أو مجاشع «١»
فإن الرفع فِيهِ جيد وإن لم يكن قبله اسم لأن الاسماء التي تصلح بعد حَتَّى منفردة إنما تأتي من المواقيت كقولك: أقم حَتَّى الليل. ولا تقول أضرب حَتَّى زيدٍ لأنه ليس بوقت فلذلك لم يحسن إفراد زَيْدُ وأشباهه، فرفع بفعله، فكأنه قال:
يا عجبا أتسبني اللئام حَتَّى يسبني كليبي «٢». فكأنه عطفه على نية أسماء قبله. والذين خفضوا توهموا فِي كليبٍ ما توهموا فِي المواقيت، وجعلوا الفعل كأنه مستأنف بعد كليبٍ كأنه قال: قد انتهى بي «٣» الأمر إلى كليبٍ، فسكت، ثم قال: تسبنى.
وقوله: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ... (٢٠٥)
تجعل «ما» فِي موضع نصب وتوقع عليها «يُنْفِقُونَ»، ولا تنصبها ب (يسألونك) لأن المعنى: يسألونك أي شيء ينفقون. وإن شئت رفعتها من وجهين أحدهما أن تجعل «ذا» اسما يرفع ما، كأنك قلت: ما الَّذِي ينفقون.
والعرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الَّذِي فيقولون: ومن ذا يقول ذاك؟
فِي معنى: من الَّذِي يقول ذاك؟ وأنشدوا «٤» :
«٥»
عَدَسْ ما لعبادٍ عليكِ إمارة... أمِنتِ وهذا تحملين طليق

(١) من قصيدة للفرزدق هجا بها جريرا. وكليب رهط جرير. ونهشل ومجاشع ابنا دارم بن مالك ابن حنظلة. ومجاشع قبيلة الفرزدق، وانظر الخزانة ٣/ ١٦٩
(٢) كذا فى ش، ج. والأنسب:
«كليب».
(٣) فى ش، ج: «فى».
(٤) فى أ: «أنشدونا».
(٥) عدس:
اسم صوت لزجر البغل. وعباد هو ابن زياد. وهذا من شعر قاله يزيد بن مفرّغ الحميرى فى عباد. وكان يزيد قد أكثر من هجوه، حتى حبسه وضيق عليه، حتى خوطب فى أمره معاوية فأمر بإطلاق سراحه، فلما خرج من السجن قدّمت له بغلة فركبها فنفرت، فقال هذا الشعر. وانظر الخزانة ٢/ ٥١٤.

صفحة رقم 138

كأنه قَالَ: والذي تحملين طليق. والرفع الآخر أن تجعل كل استفهام أوقعت عليه فعلا بعده رفعا لأن الفعل لا يجوز تقديمه قبل الاستفهام، فجعلوه بمنزلة الَّذِي إذ لم يعمل فِيهِ «١» الفعل الَّذِي يكون بعدها. ألا ترى أنك تقول: الَّذِي ضربت أخوك، فيكون الَّذِي فِي موضع رفع بالأخ، ولا يقع الفعل الَّذِي يليها عليها.
فإذا نويت ذلك رفعت قوله: قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ كما قال الشاعر:

ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضى أم ضلال وباطل «٢»
رفع النحب لأنه نوى أن يجعل «ما» فِي موضع رفع. ولو قال: أنحبا فيقضي أم ضلالا وباطلا كان أبين فِي كلام العرب. وأكثر العرب تقول: وأيهم لم أضرب وأيهم إلا قد ضربت رفعا للعلة من الاستئناف من حروف الاستفهام وألا يسبقها شيء.
ومما يشبه الاستفهام مما يرفع إذا تأخر عَنْهُ الفعل الَّذِي يقع عليه قولهم: كل الناس ضربت. وذلك أن فِي (كل) مثل معنى هَلْ أحد [إلا] «٣» ضربت، ومثل معنى أي رَجُل لم أضرب، وأي بلدة لم أدخل ألا ترى أنك إذا قلت: كل الناس ضربت كان فيها معنى: ما منهم أحد إلا قد ضربت، ومعنى أيهم لم أضرب. وأنشدني أَبُو ثروان:
وقالوا تعرفها المنازل من منى وما كل من يغشى منى أَنَا عارف «٤»
(١) فى الخزانة ٢/ ٥٥٧: «فيها» وهذا أولى لقوله: «بعدها».
(٢) من قصيدة للبيد، ومنها البيت المشهور:
ألا كل شىء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
وانظر الخزانة ٢/ ٥٥٦
(٣) زيادة يقتضيها السياق.
(٤) لمزاحم العقيلىّ من قصيدة غزلية. وانظر الكتاب ١/ ٣٦، ٣٧، وشواهد المغنى للبغدادى ٢/ ١٠٧٥

صفحة رقم 139

رفعا، ولم أسمع أحدا نصب كل. قال: وأنشدونا:

وما كلّ من يظّنّنى أنا معتب وما كل ما يروى على أقول «١»
ولا تتوهم أنهم رفعوه بالفعل الَّذِي سبق أليه لانهم قد أنشدونا:
قد عَلِقت أمُّ الْخِيَار تَدَّعِي عليَّ ذَنْبا كله لم أصنع «٢»
رفعا. وأنشدنى أبو الجرّاح:
أرجزا تريد أم قريضا أم هكذا بينهما تعريضا
كلاهما أجد مستريضا «٣» فرفع كلا وبعدها (أجد) لأن المعنى: ما منهما واحد إلا أجده هينا مستريضا.
ويدلك على أن فِيهِ ضمير جحد قول الشاعر:
فكلهم حاشاك إلا وجدته كعين الكذوب جهدها واحتفالها
(١) «يظننى» : ينهمنى، من الاظنان، وهو افتعال من الظن، فأصله: اظتنان فأبدلت التاء ظاء وأدغمت فيها الظاء. و «معتب» أي مرضيه ومزيل ما يعتب علىّ فيه. والبيت ورد فى اللسان (ظن) غير معزوّ.
(٢) هذا الرجز لأبى النجم العجلىّ، وأم الخيار زوجه، وانظر الكتاب ١/ ٤٤، والخزانة ١/ ١٧٣، ومعاهد التنصص فى الشاهدين ١٣، ٢٥.
(٣) ينسب هذا الرجز إلى الأغلب العجلى. وهو راجز مخضرم، أدرك الإسلام فحسن إسلامه.
ذكره فى الإصابة تحت رقم ٢٢٣، وفيها أن عمر كتب إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة أن يستنشد من قبله من الشعراء ما قالوه فى الإسلام، فلما سأل الأغلب ذلك قال هذا الرجز، وإن كان فى الإصابة فيه «قصيدا» بدل «قريضا» والشطر الثاني:
لقد طلبت هينا موجودا وقال ابن برى- كما فى اللسان (روض) - «نسبه أبو حنيفة للأرقط. وزعم أن بعض الملوك أمره أن يقول فقال هذا الرجز» وأبو حنيفة هو الدينوري، والأرقط يريد حميدا الراجز. وقد جعل الرجز غير القريض وهو الشعر. وقوله: «تعريضا» أي غير بين فى أحد الضربين، من قولهم: عرض بالكلام إذا ورى فيه ولم يبنه. و «مستريضا» أي واسعا ممكنا. وقوله: «أجد» فى اللسان (راض) :«أجيد».
وانظر الهمع ١/ ٩٧.

صفحة رقم 140
معاني القرآن للفراء
عرض الكتاب
المؤلف
أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي الفراء
تحقيق
أحمد يوسف نجاتي
الناشر
دار المصرية للتأليف والترجمة - مصر
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
ألفاظ القرآن
اللغة
العربية