آيات من القرآن الكريم

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ۗ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ

فنزول الغمام علامة لظهور أشد الأهوال في القيامة. قال تعالى: يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: ٢٥] وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي تمّ فصل القضاء بين الخلائق وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزلته في الجنة والنار وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) أي إنّ الله تعالى ملك عباده في الدنيا كثيرا من أمور خلقه فإذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم في العباد سواه. كما قال تعالى: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: ١٩].
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «ترجع» بالبناء للمجهول على معنى ترد. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «ترجع» بالبناء للفاعل أي تصير كقوله تعالى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: ٥٣]. قال فخر الدين محمد الرازي: والأوضح عندي أن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة: ٢٠٨] إنما نزلت في حق اليهود والمعنى يا أيّها الذين آمنوا بالكتاب المتقدم أكملوا طاعتكم في الإيمان بأن تؤمنوا بجميع أنبياء الله وكتبه فادخلوها بإيمانكم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبكتابه في الإسلام عن التمام، ولا تتبعوا الشهوات التي تتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة وعلى هذا التقدير. فقوله تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: ٢٠٩] يكون خطابا مع اليهود وحينئذ يكون قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة: ٢١٠] حكاية عن اليهود والمعنى أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود لم يمنع إجراء الآية على ظاهرها، وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه وكانوا يجوّزون على الله المجيء والذهاب، وكانوا يقولون: إنه تعالى تجلّى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمان محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى هذا التقدير يكون هذا الكلام حكاية عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه فلا يحتاج إلى التأويل ولا إلى حمل اللفظ على المجاز وذكر الله تعالى بعد ذلك ما يجري مجرى التهديد بقوله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة: ٢١٠].
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ قل يا أشرف الخلق لأولاد يعقوب الحاضرين منهم توبيخا: كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أي معجزات موسى عليه السلام، كفلق البحر وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى ونتق الجبل، وتكليم الله تعالى لموسى عليه السلام من السحاب، وإنزال التوراة عليهم فبدلوا مقتضاها وهو الإيمان بها بالكفر فاستوجبوا العقاب من الله تعالى فإنكم لو زللتم عن آيات الله تعالى لوقعتم في العذاب كما وقع أسلافكم. أو المعنى سل يا أشرف الخلق هؤلاء الحاضرين من بني إسرائيل تنبيها لهم على ضلالتهم كم آتيناهم من حجة بينة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم يعلم بها صدقه وصحة شريعته وكفروا بها. وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ أي ومن يغيّر آيات الله الباهرة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالكفر من بعد ما عرفها. أو المعنى ومن يغير دين الله وكتابه بالكفر من بعد ما جاء

صفحة رقم 70

محمد به فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) لمن كفر به. زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا أي حسن ما في الحياة الدنيا من سعة المعيشة لكفار مكة أبي جهل ورؤساء قريش وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي يسخرون على فقراء المؤمنين كعبد الله بن مسعود، وعمّار، وخباب، وسالم مولى أبي حذيفة، وعامر بن فهيرة، وأبي عبيدة بن الجراح، وسلمان، وبلال، وصهيب بضيق المعيشة وَالَّذِينَ اتَّقَوْا عن الدنيا الشاغلة عن الله تعالى فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لأن المؤمنين في عليين والكافرين في سجّين ولأنهم في أوج الكرامة وهم في حضيض المذلة، ولأن سخرية المؤمنين بالكفار يوم القيامة فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ في الدنيا من كافر ومؤمن بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢) أي بغير تكلف من المرزوق ومن حيث لا يحتسب وقد أغنى الله المؤمنين بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر. كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً قائمة على الحق ثم اختلفوا بسبب الحسد والتنازع في طلب الدنيا فإن الناس وهم آدم وأولاده من الذكور والإناث كانوا أمة واحدة على الحق ثم اختلفوا بعد ذلك فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بالجنة لمن آمن بالله وَمُنْذِرِينَ بالنار لمن لم يؤمن بالله وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي ليحكم الكتاب في الحق الذي اختلف الناس في ذلك الحق.
فالكتاب حاكم والمختلف فيه وهو الحق محكوم عليه. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي الحق إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي أعطوا الكتاب مع أن المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا وأن يرفعوا المنازعة في الدين مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى على إثبات الأصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلا بعد ثبوتها بَغْياً بَيْنَهُمْ أي حسدا منهم أي أن الدلائل إما سمعية وإما عقلية، أما السمعية فقد حصلت بإيتاء الكتاب، وأما العقلية فقد حصلت بالبينات المتقدمة على إيتاء الكتاب فبعد ذلك لم يبق في العدول عن الحق علة فلو حصل العدول لم يكن ذلك إلا بحسب الحسد والحرص على طلب الدنيا فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ أي فهدى الله الذين آمنوا- للحق الذي اختلف فيه- من اختلف بعلمه وبإرادته وبكرامته. قال ابن زيد: اختلفوا في القبلة، فصلّت اليهود إلى بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق، فهدانا الله للكعبة. واختلفوا في الصيام، فهدانا الله لشهر رمضان. واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود:
كان يهوديا. وقالت النصارى: كان نصرانيا. فقلنا: إنه كان حنيفا مسلما. واختلفوا في عيسى فاليهود فرطوا حيث أنكروا نبوته ورسالته، والنصارى أفرطوا حيث جعلوه إلها. وقلنا قولا عدلا وهو إنه عبد الله ورسوله. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) أي طريق حق لا يضل سالكه. ويقال: والله يثبّت من يشاء على دين قائم يرضيه أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ.

صفحة رقم 71

قال ابن عباس: لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة اشتد الضرر عليهم لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم في أيدي المشركين، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية تطييبا لقلوبهم. وقال قتادة والسدي: نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والحزن. وقيل: نزلت في حرب أحد، لما قال عبد الله بن أبيّ لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى متى تقتلون أنفسكم وترجون الباطل ولو كان محمد نبيا لما سلط الله عليكم الأسر والقتل ومعنى الآية أظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة بمجرد الإيمان بي وتصديق رسولي دون أن تعبدوا الله بكل ما كلفكم به وابتلاكم بالصبر عليه ودون أن ينالكم أذى الكفار، والفقر، ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدو كما كان كذلك من قبلكم من المؤمنين.
وهو المراد من قوله تعالى: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي والحال لم يأتكم شبه محنة المؤمنين الذين مضوا من قبلكم ثم بيّن الله ذلك الشبه مستهم البأساء والضراء. فالبأساء:
تضييق جهات الخير والمنفعة. والضراء: انفتاح جهات الشر والآفات والألم. ومعنى زلزلوا أي حركوا بأنواع البلايا والرزايا، ومعنى حتى يقول الرسول لأن الرسل عليهم السلام يكونون في غاية الثبات والصبر وضبط النفس عند نزول البلاء، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك هو الغاية القصوى في الشدة فلما بلغت بهم الشدة إلى هذه الدرجة العظيمة قيل لهم: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤) إجابة لهم من الله أو من قوم منهم والأحسن أن يقال: فالذين آمنوا قالوا: متى نصر الله؟ ثم رسولهم قال: ألا إن نصر الله قريب.
وروى الكلبي عن ابن عباس: أن الآية نزلت في عمرو بن الجموح- وكان شيخا كبيرا هرما- وهو الذي قتل يوم أحد وعنده مال عظيم فقال: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ فنزلت هذه الآية يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ أي أيّ شيء مصرف المال قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ أي مال فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى أي المحتاجين منهم وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فالإنفاق على الوالدين واجب عند عجزهما عن الكسب والملك، والإنفاق على الأقربين- وهم الأولاد وأولاد الأولاد- قد يلزم عند فقد الملك، فحينئذ الواجب فيما ذكر قدر الكفاية وقد يكون على صلة الرحم.
والإنفاق على اليتامى والمساكين والمارين في السبيل إما من جهة الزكاة أو من جهة صدقة التطوع. فالمراد بهذه الآية: من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة فالأولى له أن ينفقه في هذه الجهات فيقدم الأولى فالأولى في صدقة التطوع. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ أي من سائر وجوه البر والطاعة فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) أي فيجازيكم عليه ويوفى ثوابه. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أي فرض عليكم قتال الكفرة في أوقات النفير العام مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أي والحال أن القتال مكروه لكم طبعا للمشقة على النفس وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً كالجهاد في سبيل الله وَهُوَ

صفحة رقم 72

خَيْرٌ لَكُمْ
لما تصيبون الشهادة والغنيمة والأجر وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً كالجلوس عن الجهاد وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ لأنكم لا تصيبون الشهادة ولا الغنيمة ولا الأجر وَاللَّهُ يَعْلَمُ أن الجهاد خير لكم فلذلك يأمركم به وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) ذلك ولذلك تكرهونه. أو المعنى والله يعلم ما هو خير وشر لكم وأنتم لا تعلمونهما فلا تتبعوا في ذلك رأيكم وامتثلوا أمره تعالى نزلت تلك الآية في حق سعد بن أبي وقاص، والمقداد بن الأسود وأصحابهما يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ.
روى أكثر المفسرين عن ابن عباس أنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث عبد الله بن جحش الأسدي وهو ابن عمته قبل قتال بدر بشهرين وبعد سبعة عشر شهرا من مجيئه المدينة في ثمانية رهط وكتب له كتابا وعهدا ودفعه إليه وأمره أن يفتحه بعد منزلتين ويقرأه على أصحابه ويعمل بما فيه فإذا فيه: أما بعد، فسر على بركة الله تعالى بمن اتّبعك حتى تنزل بطن نخل فترصد بها عير قريش لعلك أن تأتينا منه بخير. فقال عبد الله: سمعا وطاعة لأمره، فقال لأصحابه: من أحب منكم الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمره. ومن أحب التخلف فليتخلف. فمضى حتى بلغ بطن نخل بين مكة والطائف فمر عليهم عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه فلما رأوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حلقوا رأس واحد منهم وأوهموا بذلك أنهم قوم عمار، ثم أتى واقد بن عبد الله الحنظلي وهو أحد من كان مع عبد الله بن جحش ورمى عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا اثنين، وساقوا العير بما فيه من تجارة الطائف حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضجت قريش، وقالوا: قد استحل محمد الشهر الحرام شهر يأمن فيه الخائف فيسفك فيه الدماء والمسلمون أيضا قد تعجبوا من ذلك فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إني ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام».
وقال عبد الله بن جحش: يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى، فوقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العير والأسارى فنزلت هذه الآية فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغنيمة
وعلى هذا التقدير، فالأظهر أن هذا السؤال إنما صدر عن المسلمين قُلْ في جوابهم سَبِيلِ اللَّهِ أي الشهر الحرام وهو رجب كَبِيرٌ أي عظيم وزرا وقد تم الكلام هاهنا والوقف هنا تام وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ أي ولكن منع الناس عن دين الله وطاعته وكفر بالله ومنع الناس عن مكة وإخراج أهله وهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون من مكة أعظم وزرا عند الله من قتل عمرو بن الحضرمي في رجب خطأ مع أنه يجوز أن يكون ذلك القتل واقعا في جمادى الآخرة وَالْفِتْنَةُ أي ما فعلوا الفتنة عن دين المسلمين تارة بإلقاء الشبهة في قلوبهم وتارة بالتعذيب كفعلهم ببلال وصهيب وعمار بن ياسر أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ أي أفظع من قتل عمرو بن الحضرمي.
روي أنه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون

صفحة رقم 73

بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم بالكفر وإخراج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام وَلا يَزالُونَ أي أهل مكة الكفرة يُقاتِلُونَكُمْ أيها المؤمنون حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ أي كي يردوكم عن دينكم الحق إلى دينهم الباطل إِنِ اسْتَطاعُوا وهذا استبعاد لاستطاعتهم وإشارة إلى ثبات المسلمين في دينهم وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ بأن لم يرجع إلى الإسلام فَأُولئِكَ المصرون على لارتداد إلى حين الموت حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الحسنة التي عملوها في حالة الإسلام فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فحبوط الأعمال في الدنيا هو أنه يقتل عند الظفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين نصرا ولا ثناء حسنا وتبين زوجته منه ولا يستحق الميراث من كل أحد. وحبوط أعمالهم في الآخرة أن الردة تبطل استحقاقهم للثواب الذي استحقوه بأعمالهم السالفة أما لو رجع المرتد إلى الإسلام عادت أعماله الصالحة مجردة عن الثواب فلا يكلف بإعادتها وهذا هو المعتمد في مذهب الشافعي وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) أي مقيمون لا يخرجون ولا يموتون.
وروي أن عبد الله بن جحش قال: يا رسول الله هب أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا فهل نطمع منه أجرا وثوابا؟ فنزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
بالله ورسوله وَالَّذِينَ هاجَرُوا أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم من مكة إلى المدينة وَجاهَدُوا أي بذلوا جهدهم في قتل العدو كقتل عمرو بن الحضرمي الكافر فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لإعلاء دين الله أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ أي يطمعون في ثواب الله أو ينالون جنة الله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨) فيحقق لهم رجاءهم إذا ماتوا على الإيمان والعمل الصالح. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أي عن تناولهما قُلْ فِيهِما أي في تعاطيهما إِثْمٌ كَبِيرٌ أي عظيم بعد التحريم لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش وإتلاف للأموال ولأن الخمر مسلبة للعقول التي هي قطب الدين والدنيا. وقرأ حمزة والكسائي كثير بالثاء المثلثة وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ قبل التحريم بالتجارة فيها وباللذة والفرح وتصفية اللون وحمل البخيل على الكرم وزوال الهمّ وهضم الطعام، وتقوية الباءة وتشجيع الجبان في شرب الخمر، وإصابة المال بلا كد في القمار، أي المغالبة بأخذ المال في أنواع اللعب وَإِثْمُهُما بعد التحريم أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما قبل التحريم. وقرئ أقرب من نفعهما.
قال المفسرون: نزلت في الخمر أربع آيات نزل بمكة قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النحل: ٦٧] وكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة منهم سيدنا حمزة بن عبد المطلب وبعض الأنصار قالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل فيهما قوله تعالى: قُلْ

صفحة رقم 74
مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما، التناري بلدا
تحقيق
محمد أمين الضناوي
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1417
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية