آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ

فشبه الناقة بالوحشية ثم ذكر أنها مسبوعة مخذولة، ولا اختصاص للناقة بهذا الوصف.
والثاني: أنه شبه ما أتى الله الإنسان من المعاون التي هي سبب الحياة الأبدية بالصيب الذي فيه خياة كل ذي حياة، وما فيه من المشاق المبهمة والعوارض المشكلة بظلمات، وجمع الظلمات تنبيهاً على كثرة العوارض، وشبه ما فيه من الوعيد بالرعد، وما فيه من الآيات الباهرة بالبرق، ثم ذكر كل واحد من هذه الأشياء فقال: إذا سمعوا وعيداً تصاموا عنه كحال من تهوله الرعد فيخاف من صواعقه، فيسد أذنه عنها مع أنه لا خلاص لهم منها وهذا معنى قوله: " الله محيط بالكافرين "، ثم ذكر أنه إذا رأوا لامعاً لهم إما راشد تدركه بصائرهم وإما رفداً ينفعهم اهتزوا له، فمضوا بنوره وذلك قوله " كلما أضاء لهم مشوا فيه "، ثم بين أنه إن اعترض لهم شبهة أو عن لهم مصيبة تحيروا، فوقفوا، وذلك معنى قوله ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ وقوله ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ تنبيهاً على أنهم يصرفون أسماعهم وأبصارهم عما فيه نجاتهم وتأمل ما فيه صلاحهم وإنما جعل الله لهم السمع والأبصار لينفعهم ولو شاء الله لجعلهم بالحالة التي أنفسهم عليها يسدهما وتعطيلهما، وذلك تنبيه على أنه إنما أعطاهم هذه الآلات لينتفعوا بها.
قوله - عز وجل - ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ الآية (٢١) - سورة البقرة.
قد تقدم أن " الناس " يستعمل على وجهين أحدهما المشار به إلى الصورة المخصوصة، وذلك عام في الصغير والكبير، والعاقل وغير العاقل، والثاني المشار به إلى المختص بقوى العلم والعمل المحكم وهو المستعمل على طريق المدح، ولذلك يقال: فلان أكثر إنسانية من فلان، لاختصاص هذا المعنى بقبول الزيادة والنقصان، وهذا المعنى هو المراد في هذا الموضع، والعبادة نهاية التذلل في الخدمة وبذل الطاعة وذلك في مقابلة أعظم النعم، ولا يستحقها غير الله تعالى، فهو الذي له أعظم النهم، و " العبادة " تقال في ثلاثة أشياء: اعتقاد الحق، وتحري الصدق، وعمل الخير، وعبادة الله قد يكون في فعل المباحات كما يكون في أداء الواجبات وذلك إذا قصد بالفعل وجه الله وتحرى به مرضاته.
وقد قال بعض الحكماء: " مباحات أولياء الله كلها واجبات " وواجباتهم نوافل " فقيل كيف يكون ذلك؟ قال: لأنهم لا يقومون على تناول مباح لهم كالأكل والشرب حتى يضطروا إليه، فيصير تناولها متحتماً ويلتزمون من الفرائض فوق ما يلزمهم حتى يصير فرضهم متنفلاً، وبهذا النظر قيل

صفحة رقم 109

عن أكل الصالحين تنزل الرحمة تنبيهاً أنه لا يتناول إلا إذا اشتد به الأمر، ووجب عليه الأكل إمساكاً لرمقه.
ألا ترى أن كثيراً من المحظورات يصير مباحاً عند الضرورات بل ربما يصير عليه من الواجبات.
إن قيل: ما الفرق بين قوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾ وبين قوله ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ قيل في قوله ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ إيجاب العبادة بواسطة رؤية نعمه التي بها تربيتهم وقوامهم، وفي قوله: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ إيجاب عبادته بمراعاته عز وجل من غير واسطة وعلى ذلك قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ وقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ فحيث ذكر الناس ذكر معه الرب، وحيث ذكر الإيمان ذكر الله - لما تقدم وأما الخلق فتقدير الأعراض الجسمانية وإيجادها، وقد يقال مفيداً للتقدير من غير إيجاد نحو قوله الشاعر:
وأراك تفري ما خلقت....
وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
واستعمل الخلق في الأجسام والخلق في القوى والأفعال، وجعل " خلقت " للتكوين، وأخلقت للإفساد، نحو فريت، وأفريت، وذلك نحو " أخلقت الثوب " فخلق وأخلق، ولما كان الشيء الحلق كثيراً ما يلين قبل حجر أخلق و " الصخرة خلقاء " أي " ملساء "، ومن أجل أن " الخلق لا يستعمل إلا في إيجاد الأجسام وأعراضها امتنع قوم من إطلاق الخلق على القرآن، فراعوا فيه هذا الوجه دون الوجه الآخر، قالوا: ولا يكاد يقال في وصف الكلام مخلوق ومختلق إلا إذا أريد به المنقول المفتعل.
وعلى هذا قال تعالى حكاية عن الكفار في وصفه ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ﴾ ولا يكاد يستعمل الخالق مطلقاً إلا في وصف الله تعالى.
وقيل في الجملة: يستعمل في المتقدم لكن ذلك على أربعة أوجه تقدم بالزمان نحو آدم قبل نوح عليهما السلام، وتقدم بالذات وهو في كل شيئين متى توهمت ارتفاع أحدهما ارتفع معه الآخر، وإذا توهمت ارتفاع الآخر لم يرتفع معه الأول، كالحياة مع العلم، وتقدم بالشرف، نحو تقدم الأمير للحاجب، وبهذا النظر استعمل العتيق في الشريف وإن كان موضوعه لما تقدم زمانه، نحو

صفحة رقم 110
تفسير الراغب الأصفهاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى
تحقيق
هند بنت محمد سردار
الناشر
كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى
سنة النشر
1422
عدد الأجزاء
2
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية