
وقال الضحاك: الناسُ هاهنا: إبراهيم عليه السلام (١)، وهذا كقوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ اَلنَّاسُ﴾ يعني: نعيم بن مسعود (٢) ﴿إِنَّ اَلنَّاسَ﴾ [آل عمران: ١٧٣] يعني: أبا سفيان، وإنما يقال هذا للذي يُقْتَدى به ويكون لسان قومه (٣).
قال ابن الأنباري: وإيقاع الجمع على الواحد جائز، كما تقول العرب: خرج زيدٌ إلى البصرة في السفن، وإلى الكوفة على البغال.
٢٠٠ - قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ ذكرنا معاني القضاء عند قوله: ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ [البقرة: ١١٧]، وأراد هاهنا: أدَيْتُم، لأنه يقال: قضى ما عليه، إذا أداه. كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةَ﴾ [الجمعة: ١٠] يعني: الجمعة، ولا يُتَصَوَّرُ فيها قَضَاءٌ دون الأداء، وأصلُ هَذَا يؤول إلى إحكامه بالفراغ منه (٤).
(٢) هو: أبو سلمة، نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي، صحابي مشهور، هاجر إلى الرسول - ﷺ - يوم الخندق، وهو الذي خذَّل المشركين واليهود حتى صرفهم الله، سكن المدينة، قُتِلَ في وقعة الجمل في أول خلافة علي، وقيل في خلافة عثمان. ينظر: "الإصابة" ٣/ ٥٦٨، "أسد الغابة" ٥/ ٣٤٨.
(٣) ينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ٢٩٤، "تفسير الثعلبي" ٢/ ٥٦٩، "تفسير البغوي" ١/ ٢٣٠ - ٢٣١، "التفسير الكبير" ٥/ ١٩٦.
(٤) ينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ١٩٥، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٨٥ - ٢٩٨٧ "قضى"، "المفردات" ص ٤٠٦ - ٤٠٨، وقال الرازي في "تفسيره" ٥/ ١٩٩: اعلم أن القضاء =

والمناسك: جمع مَنْسَك الذي هو مصدر، بمنزلة النُّسُك، أي: إذا قضيتم عبادتكم التي أُمِرْتُم بها في الحج (١)، وإنْ جَعَلْتَها جَمْعَ مَنْسَك الذي هو موضع العبادة، كان التقدير: فإذا قضيتم أعمالَ مناسِكَكُم، فيكون من باب حذف المضاف (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ﴾ قال أكثرُ أهل التفسير: كانت العربُ إذا فَرَغوا من حَجِّهم ذكروا مآثرَ آبائِهم ومفاخِرَهم، فأمرهم الله عز وجل بذكره، فقال: فاذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم، وأحسنت إليكم وإليهم (٣).
(١) ينظر: "المحرر الوجيز" ٢/ ١٧٨، "التفسير الكبير" ٥/ ١٩٩، "زاد المسير" ١/ ٢١٥، وذكر أن القائلين بأن المناسك هي المتعبدات قد اختلفوا في المراد بها هاهنا على قولين: أحدهما: أنها جميع أفعال الحج، قاله الحسن. والثاني: أنها إراقة الدماء، قاله مجاهد. وينظر: "البحر المحيط" ٢/ ١٠٣.
(٢) ينظر: "التفسير الكبير" ٥/ ١٩٩، "البحر المحيط" ٢/ ١٠٣، "المحرر الوجيز" ٢/ ١٧٨ وقال: والمناسك عندي العبادات في معالم الحج، ومواضع النسك فيه.
(٣) نقله عن الثعلبي مختصرا "تفسير الثعلبي" ٢/ ٥٨٣، وقد جمعه الثعلبي من روايات عدة عن الصحابة والتابعين، وذكر الطبري ٢/ ٢٩٦ - ٢٩٧، الرواية بذلك عن أنس ومجاهد وأبي وائل وأبي بكر بن عياش وقتادة وسعيد بن جبير وعكرمة، وينظر: "تفسير عبد الرزاق" ١/ ٧٩، "أخبار مكة" للفاكهي ٤/ ١٤٧، "تفسير ابن أبي حاتم" ١/ ٣٥٥، "الدعاء" للطبراني ٢/ ١٢٠٨، "العجاب" ١/ ٥١١.

قال أبو إسحاق: كانت العرب إذا قضت مناسكها وقَفَتْ بين المسجد بمنى وبين الجبل، فَتُعَدِّدُ فَضَائل آبائها، وتذكر محاسِنَ أيامهم، فأمر الله تعالى أن يجعلوا ذلك الذكرَ له، وأن يزيدوا على ذلك الذكر، فيذكروه بتوحيده، وتعديد نِعَمه؛ لأنه إن كانت لآبائهم نِعَمٌ فهي من الله عز وجل، وهو المشكور عليها (١)، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (٢).
وقال في بعض الروايات (٣): وهو قول الربيع (٤) والضحاك (٥): أرادَ: فاذكروا الله كذكركم آباءكم وأمهاتكم، فاكتُفي بالآباء من الأمهات، كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: ٨١]، قالوا: وهو قول الصبي الصغير أول ما يُفْصحُ الكَلام: أَبَهْ أَبَهْ، أمَّهْ أمَّهْ، أي: الهجوا بذكر ربكم في جميع أحوالكم، كما يلزمُ الصبيُّ (٦) في صِغَرِه ذكرَ أبيهِ وأُمِّه (٧).
وقال ابن الأنباري في هذه الآية: إن العربَ كان أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء، كقولهم: وأبي وأبيك وأبيكم وجدكم. فقال الله تعالى:
(٢) رواه عن عطاء: الفاكهي في "أخبار مكة" ٤/ ١٤٨، والطبري في "تفسيره" ٢/ ٢٩٧، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٣٥٦، والبيهقي في "شعب الإيمان" ١/ ٤٥١، وذكره الرازي في "تفسيره" ٥/ ١٩٨.
(٣) رواه عنه الطبري في "تفسيره" ٢/ ٢٩٧ من طريق عطية العوفي عنه، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٥٨٣.
(٤) رواه الطبري في "تفسيره" ٢/ ٢٩٧، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٥٨٤، والرازي في "تفسيره" ٣/ ٢٠٠.
(٥) انظر السابق.
(٦) من قوله: (الصغير...) ساقط من (أ) (م).
(٧) ينظر: "تفسير الثعلبى" ٢/ ٥٨٤.

عَظِّموا الله تعالى كتعظيمِ آبائكم (١).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ يعني: وأشدّ (٢)، والعامل فيه: الكاف في قوله (٣): ﴿كَذِكْرِكُمْ﴾، وموضعه جر، وإن شئت جعلت العامل فيه: الفعل في (اذكروا)، فتكون نصبًا (٤).
وهذا الذكر المأمور به هو التكبير أيام منى، وقيل: إنه الدعاء لله عز وجل في تلك المواطن (٥).
وقوله تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ..﴾ إلى آخر الآية قال ابن عباس: هم المشركون، كانوا يسألون المال والإبل والغنم، وكانوا يقولون: اللهم اسْقِنا المَطَر، وأَعْطِنا على عَدُوِّنا الظَّفَر، ويسألون التوسعة عليهم في
(٢) "التبيان" ١/ ١٦٤، قال في "البحر المحيط" ٢/ ١٠٣: و (أو) هنا قيل: للتخيير، وقيل للإباحة، وقيل: بمعنى: بل أشد.
(٣) في (م): (كقوله).
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٧٤، "مشكل إعراب القرآن" لمكي ١/ ١٢٤، "التبيان" ص ١٢٥ - ١٢٦، وقد اعترض أبو حيان في "البحر" ٢/ ١٠٣ على إعرابه بذلك، وبين سبب الاعتراض، وأطال في ذكر الأعاريب الضعيفة، ثم قال: والذي يتبادر إلى الذهن في الآية أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكرًا يماثل ذكر آبائهم أو أشد، وقد ساغ لنا حمل الآية على هذا المعنى بتوجيه واضح ذهلوا عنه، وهو أن يكون أشد منصوبا على الحال، وهو نعت لقوله (ذكرًا) لو تأخر، فلما تقدم انتصب على الحال، ويكون إذ ذاك: أو ذكرا أشد، معطوفا على محل الكاف من (كذكركم)، ثم ذكر وجهًا آخر.
(٥) والأول: اختيار الطبري ٢/ ٢٩٨، وينظر: "التفسير الكبير" ٥/ ٢٠٠، "البحر المحيط" ٢/ ١٠٣.