
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ... ﴾.
قال ابن عطية: قال عطاء لما نزلت ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ قال قوم: في أي ساعة ندعو؟ فنزلت.

(وروى أنّ أعرابيّا قال: يارسول الله أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت).
قال ابن عرفة: هذا يوهم اعتقاد التجسيم والجهة وهو صعب. وقد كان بعض الناس يستشكله فكنت (أقرّبه) له بالمثال، فنقول له: لو فرضنا رجلا لم يشاهد قطّ في عمره إلا الحيوان الماشي على الأرض فإنه إذا سئل عن حيوان يطير لا هو في السماء ولا هو في الأرض بل بينهما بالفضاء فإنه يظن ذلك محالا، وكذلك النملة لو كان لها عقل وسئلت عن ذلك لأحالته.
وظاهر ما ذكروا في سبب نزول هذه الآية أن لفظ «عِبَادِي» عام ولكن آخر الآية يدل على أنه خاص بالمؤمنين.
وقوله «فَإِنِّي قَرِيبٌ» قال أبو حيان: أي فاعلم أني قريب.
قال ابن عرفة: لأن الأمور الواقعة الموجودة لا يصح ترتيبها على الشّرط إلا على مَا ذكر المنطقيون في القضية الاتفاقية مثل كلّما كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا هي لا تفيد شيئا.
قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ... ﴾.
قال ابن عرفة: «أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع» فيه سؤالان:
الأول: ما الفائدة في زيادة لفظ «دعوة» مع أنه مستغنى عنه؟
قيل له: إنّه إذا أجاب الدّعوة الواحدة فأحرى أن يجيب الدّعوات (المكررة المؤكدة) ؟

فقال: العكس أولى لا، إذ لا يلزم من أجابة الدعوة الواحدة إجابة الدعوات.
قال: وعادتهم يجيبون عنه بأنّ «أجاب» تطلق على (الإجابة) بالموافق والمخالف و «استجاب» خاص بالموافق، فلو قال: أُجِيبُ الدّاعِي، لأوهم العموم، وقوله «أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع» صريح في الإسعاف بالمقصود، كما نقول: أجيب طلبة فلان وأجيب دعوته، أي أسعفه بمطلوبه.
السؤال الثاني: ما الفائدة في قوله «إِذَا دَعَانِ» مع أنّه أيضا مستغنى عنه.
قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأنّ الدّعاء على قسمين دعاء بنية وعزيمة، والداعي مستجمع لشرائطه، ودعاء دون ذلك، فأفاد قوله «إِذَا دَعَانِ» إجابة الداعي بنية وحضور. وذكروا أنّ الدّعاء على أقسام فالمستحيل عقلا والمحرم لا يجوز، وكذلك الدعاء بتحصيل الواجب لأنه من تحصيل الحاصل، وكذا قالوا في قوله تعالى ﴿وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين﴾ أي المعتدي في الدعاء بالمستحيل عقلا كالدعاء بالجمع بين النقيضين وأما المحال في/ العادة كالطيران في الهواء والمشي على الماء فمنهم من أجازه ومنهم من منعه.
والمختار عندهم أنه إن كان في الداعي أهلية لذلك وقابلية له جاز له الدعاء وإلا لم يجز كدعاء شيخ ابن ثمانين سنة أن يكون فقيها عالما، ودعاء رجل من سفلة الناس بأن يكون ملكا.

قلت: في الجامع الثالث من العتبية قال الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: صلى رجل في المسجد ثم انصرف ولم يدع كثيرا فدعاه عروة بن الزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فقال له (أما) كانت لك حاجة عند الله. والله إني لأدعو الله في حوائجي حتى في الملح.
قال الإمام ابن رشد: الدعاء عبادة فيها الأجر العظيم استجيب أَمْ لا، لأنه لا (يجتهد) في الدعاء إلا بإيمان صحيح ولن يضيع له عند الله. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما من داع يدعو إلاّ كان بين إحدى ثلاثة: إما أن يستجاب له، وإمّا أن يدّخر له، وإمّا أن يكفر عنه» إلاّ أن هذا الحديث ليس فيه ما يدل عنه على أنه لا يدّخر له ولايكفر عنه إذا استجيب له لأن معناه: إلا كان بين إحدى ثلاثة، إما أن يستجاب له مع أن يدخر له أو يكفر عنه مع أن يستجاب له.
وفي شرح الأسماء الحسنى للشيخ ابن العربي: الدّعاء لغة الطّلب. «اغفر لنا»، ويطلق على النداء وعلى الترغيب مثل: ﴿والله يدعوا إلى دَارِ السلام﴾ وعلى التكوين مثل: ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض﴾

قوله تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي... ﴾.
قال الزمخشري: فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي، إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة.
قال ابن عرفة: يلزم التكرار في الآية لغير فائدة، والتقديم والتأخير لأن الطاعة مُتأخرة عن الإيمان وما معناه عندي: أَلاَ فلينظروا في الأدلة التي ترشدهم للايمان ويؤمنوا بالفعل.
قيل لابن عرفة: هذا إذا قلنا إن ارتباط الدليل بالمدلول عادي أمّا إن قلنا: إنه عقلي فيجري فيه تحصيل الحاصل لأنّهم إذا نظروا آمنوا فلا فائدة في أمرهم بالإيمان؟
(فقال) : إنّما (أمروا) بالإيمان قبل كمال النظر كما تقول لغيرك: انظر في كذا واعلمه، فإنما أمرته بالعلم قبل أن يحصل منه النظر.
قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.
أي لعلهم يحصل لهم الفوز والفلاح، وليس المراد لعلهم يهتدون (بطريق) الفوز لأنه من تعليل الشيء بنفسه.

قلت: وجدت هذه الآية في ميعاد القاضي أبي علي عمر بن عبد الرفيع فنقلوا عن ابن الخطيب أن الجواب (هنا) : وقع بالفاء فقط إشارة إلى أنه قريب مطلقا وقربه من العبد مع الدعاء لا يعقبه، وقيل: أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يقول لهم ذلك (وب «قل» وحدها) في ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ (وبهما) معا في ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ الآية، ونسفها إعدامها إشارة إلى الأمر بالمبادرة بالجواب عقب السؤال ردا على من قال بقدمها لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه. ونقلوا عن أبي حيان أنّ التقدير «فَقُلْ إنِي قَرِبٌ» لأنه لا يترتب على الشرط القرب بل الإخبار عن القرب، فقال الحسّاني: لا حاجة إلى إضمار «قُلْ» وقد أبدى ابن الخطيب حكمه ذلك.
فقال بعضهم: لعل مراد أبي حيان أن هذا شرط والشروط اللّغوية أسباب عقلية والسبب العقلي يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم، فليزم إذا عدم السؤال أن يعدم مطلق القرب.

فأجاب الطالب: بحديث: «من أحيا أرضا ميتة فهي له» قالوا فيه: إنه قد تصير له بالملك من غير إحياء فترى الإحياء انعدم والملك موجود.
فرد عليه ابن التلمساني في المسألة السادسة من باب الأوامر قال: قال (مالك) في الإحياء إنه غير موجود وإنّما الموجود ملك الشراء.