آيات من القرآن الكريم

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ
ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ

لَهُ هَذِهِ النِّعَمَ كُلَّهَا، بِالْقِيَامِ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا، وَإِعْطَاءِ كُلٍّ مِنَ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ حَقَّهَا، فَتَكُونُوا مِنَ الْكَامِلِينَ.
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ تَعْلِيلَاتٍ مُرَتَّبَةً بِأُسْلُوبِ النَّشْرِ عَلَى اللَّفِّ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ عَامِلٍ فِي جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ الْمَاضِيَةِ ; أَيْ: شَرَعَ لَكُمْ مَا ذَكَرَ مِنْ صِيَامِ أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ هِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ لِمَنْ شَهِدَهُ سَالِمًا صَحِيحًا لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْعِدَّةِ دُونَ عِدَّةِ الشَّهْرِ يُشْعِرُ بِمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّكْلِيفِ الْعَامِّ لِلصَّوْمِ هُوَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ، وَكَوْنُهَا رَمَضَانَ بِعَيْنِهِ خَاصٌّ بِمَنْ شَهِدَهُ مِمَّنْ لَمْ تَتَنَاوَلُهُ الرُّخْصَةُ، وَهَذَا مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ الْغَرِيبَةِ وَبَلَاغَتِهِ الَّتِي لَا يَخْطُرُ مِثْلُهَا عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَشَرَعَ لَكُمُ الْقَضَاءَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي مَرَضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ أَوْ سَفَرٍ ; لِتُكَبِّرُوهُ وَتُعَظِّمُوا شَأْنَهُ عَلَى مَا هَدَاكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرُّخْصَةِ بِالْفِطْرِ وَالْعَزِيمَةِ بِالْقَضَاءِ، وَشَرَعَ لَكُمُ الْفِدْيَةَ فِي حَالِ الْمَشَقَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ بِالصَّوْمِ، وَأَرَادَ بِكُمُ الْيُسْرَ دُونَ الْعُسْرِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هَذِهِ النِّعْمَةَ، وَقَدْ صَوَّرْنَا تَرْتِيبَ التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرُوهُ بِمَا نَرَاهُ أَوْضَحَ مِمَّا صَوَّرُوهُ بِهِ. هَذَا مَا كَتَبْتُهُ أَوَّلًا وَطُبِعَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى.
وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِكْمَالَ الْعِدَّةِ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ الصِّيَامِ الْمَشْرُوعِ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، لَا بُدَّ مِنِ اسْتِيفَائِهَا أَدَاءً فِي حَالِ الْعَزِيمَةِ وَقَضَاءً فِي حَالِ الرُّخْصَةِ، وَإِرَادَةُ الْيُسْرِ دُونَ الْعُسْرِ تَعْلِيلٌ لِلرُّخَصِ الثَّلَاثِ: لِلسَّفَرِ، وَالْمَرَضِ، وَالْمَشَقَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْفِدْيَةَ، وَالتَّكْبِيرُ تَعْلِيلٌ لِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ بِصِيَامِ الشَّهْرِ كُلِّهِ، وَمَظْهَرُهُ الْأَكْبَرُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ إِذْ شُرِعَ فِيهِ التَّكْبِيرُ الْقَوْلِيُّ عَامَّةَ لَيْلِهِ وَإِلَى مَا بَعْدَ صَلَاتِهِ، وَبِذَلِكَ كُلِّهِ نَكُونُ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَهُ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ كُلِّهَا وَعَلَى غَيْرِهَا.
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ ; فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَأَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْنَ رَبُّنَا؟ فَنَزَلَتْ. وَرَوَوْا فِي سَبَبِهِ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَضْعَفُ سَنَدًا، وَأَقَلُّ نَاصِرًا وَعَدَدًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عِنْدَ ذِكْرِ السَّبَبِ الْأَوَّلِ: هَذَا السُّؤَالُ لَيْسَ

صفحة رقم 133

بِبَعِيدٍ مِنَ الْعَرَبِ أَوِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ اعْتَادُوا أَنْ يَتَّخِذُوا وَسَائِلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِلَهِهِمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَى خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهَؤُلَاءِ الْوَسَائِلُ وَالْوَسَائِطُ إِمَّا أَشْخَاصٌ وَإِمَّا أَمْثِلَةُ أَشْخَاصٍ كَالتَّمَاثِيلِ وَالْأَصْنَامِ، وَلَمْ يَهْتَدُوا بِأَنْفُسِهِمْ إِلَى التَّجَرُّدِ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ الْعَظِيمِ بِأَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَيْءٍ حَتَّى هَدَاهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ بِآيَاتِهِ الْبَيِّنَاتِ، فَكَانُوا أَهْلَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ.
وَلَكِنَّ الْآيَةَ جَاءَتْ بَيْنَ آيَاتِ الصِّيَامِ، فَهِيَ لَيْسَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ مِنْهَا وَإِنَّمَا هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ، فَقَدْ طَالَبَنَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِإِكْمَالِ عِدَّةِ الصِّيَامِ وَبِتَكْبِيرِ اللهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ يُعِدُّنَا لِشُكْرِهِ تَعَالَى، وَالتَّكْبِيرُ وَالشُّكْرُ يَكُونَانِ بِالْقَوْلِ نَحْوَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللهُ أَكْبَرُ، كَمَا يَكُونَانِ بِالْعَمَلِ، وَمَا كَانَ بِالْقَوْلِ يَأْتِي فِيهِ السُّؤَالُ: هَلْ يَكُونُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ وَالْمُنَادَاةِ، أَمْ بِالْمُخَافَتَةِ وَالْمُنَاجَاةِ! فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَوَابًا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي يُتَوَقَّعُ إِنْ لَمْ يَقَعْ، فَهِيَ فِي مَحَلِّهَا سَوَاءٌ صَحَّ مَا رَوَوْهُ فِي سَبَبِهَا أَمْ لَا.
(قَالَ) : وَيُرْوَى فِي نُزُولِهَا سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ الْمُسْلِمِينَ يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ فَقَالَ لَهُمْ: ((ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمًّا وَلَا غَائِبًا)) وَعَلَى كُلِّ حَالٍ تُفِيدُنَا الْآيَةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَهُوَ: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي رَفْعُ الصَّوْتِ فِي عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ إِلَّا بِالْمِقْدَارِ الَّذِي حَدَّدَهُ الشَّرْعُ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَسْمَعَ مَنْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَمَنْ بَالَغَ فِي رَفْعِ صَوْتِهِ رُبَّمَا بَطُلَتْ صَلَاتُهُ،
وَمَنْ تَعَمَّدَ الْمُبَالَغَةَ فِي الصِّيَاحِ فِي دُعَائِهِ أَوِ الصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ كَانَ إِلَى عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ.
(أَقُولُ) : أَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ إِلَى أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمًّا وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ)) وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ إِذَا عَلَوْا عَقَبَةً أَوْ ثَنِيَّةً. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ ذِكْرُ الْآيَةِ وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ فِي الْمَقَامِ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ مِنَ النَّهْيِ، فَكَانَ الْحَدِيثُ تَفْسِيرًا لَهَا بَلْ هُوَ عَمَلٌ بِهَا. وَذَكَرَهُ ابْنُ الْعَادِلِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِهَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) هَذَا الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً بِأَحْكَامِ الصِّيَامِ، إِلَى خِطَابِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِأَنْ يُذَكِّرَهُمْ وَيُعَلِّمَهُمْ مَا يُرَاعُونَهُ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ بِالدُّعَاءِ الَّذِي يُعِدُّهُمْ لِلْهُدَى وَالرَّشَادِ، وَجُعِلَتْ بِأُسْلُوبِ الْفَتْوَى عَلَى تَقْدِيرِ السُّؤَالِ لِتَنْبِيهِ الْأَذْهَانِ، وَالْمُرَادُ أَنْ يُؤْمِنُوا

صفحة رقم 134

بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَرِيبٌ مِنْهُمْ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابٌ وَلَا وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ يُبَلِّغُهُ دُعَاءَهُمْ وَعِبَادَتَهُمْ، أَوْ يُشَارِكُهُ فِي إِجَابَتِهِمْ أَوْ إِثَابَتِهِمْ، لِيَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ وَحْدَهُ حُنَفَاءَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِصَوْمِ الشَّهْرِ وَمُرَاعَاةِ الْعِدَّةِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ التَّكْبِيرِ وَالشُّكْرِ، عَقَّبَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ خَبِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ، سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ مُجِيبٌ لِدُعَائِهِمْ، مُجَازٍ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، تَأْكِيدًا لَهُ وَحَثًّا عَلَيْهِ اهـ.
وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْعَمَلِيَّةَ إِنَّمَا تُشْرَعُ لِتَقْوِيَةِ الْإِيمَانِ وَإِصْلَاحِ النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أَنْ يُبَيِّنَ مَعَ كُلِّ حُكْمٍ حِكْمَةَ تَشْرِيعِهِ وَفَائِدَتَهِ فِي تَقْوِيَةِ الْإِيمَانِ، وَيَمْزُجُ الْكَلَامَ فِيهِ بِمَا يُذَكِّرُ بِعَظَمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَيُعِينُ عَلَى مُرَاقَبَتِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَيُثْبِتُ الْإِيمَانَ بِهِ كَهَذِهِ الْآيَةِ. وَيَا لَيْتَ فُقَهَاءَنَا اقْتَدَوْا بِهَدْيِ الْقُرْآنِ
فَلَمْ يَجْعَلُوا كُتُبَ الْأَحْكَامِ جَافَّةً مَقْصُورَةً عَلَى ذِكْرِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، كَأَنَّ الدِّينَ دِينٌ مَادِّيٌّ جُسْمَانِيٌّ لَا غَرَضَ لِلْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ فِيهِ.
وَأَمَّا مَعْنَى قُرْبِ اللهِ تَعَالَى فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ الْقُرْبُ بِالْعِلْمِ، بِمَعْنَى أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ يَسْمَعُ أَقْوَالَ الْعِبَادِ وَيَرَى أَعْمَالَهُمْ. وَعِبَارَةُ الْبَيْضَاوِيِّ: وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِكَمَالِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَقْوَالِهِمْ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى أَحْوَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ قَرُبَ مَكَانُهُ مِنْهُمْ. اهـ. وَإِنَّمَا جَعَلُوا الْكَلَامَ تَمْثِيلًا ; لِأَنَّ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ الْحَقِيقِيَّ إِنَّمَا يَكُونَانِ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الِانْحِصَارِ فِي الْمَكَانِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ قُرْبِ الْوُجُودِ، فَإِنَّ الَّذِي لَا يَتَحَيَّزُ وَلَا يَتَحَدَّدُ تَكُونُ نِسَبُ الْأَمْكِنَةِ وَمَا فِيهَا إِلَيْهِ وَاحِدَةً، فَهُوَ تَعَالَى قَرِيبٌ بِذَاتِهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِذْ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ إِيجَادًا وَإِمْدَادًا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. اهـ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ وَعَلَيْهِ السَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ ; فَقَدْ قَالَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) (٥٦: ٨٥) أَيْ: إِذَا بَلَغَتْ رُوحُهُ الْحُلْقُومَ: إِنَّهُ الْقُرْبُ بِالْعِلْمِ، وَكَانَ أَحَدُ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ حَاضِرًا فَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَقَالَ تَعَالَى فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ: وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ. وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْفِ الْعِلْمَ عَنْهُمْ وَإِنَّمَا قَالَ: (وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ) (٥٦: ٨٥) وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعِلْمِ أَنْ يُبْصَرَ فَيَنْفِي هُنَا إِبْصَارَهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ شَأْنُ الذَّاتِ. انْتَهَى بِالْمَعْنَى، وَهُوَ مَذْكُورٌ بِنَصِّهِ فِي كِتَابِ ((الْيَوَاقِيتِ وَالْجَوَاهِرِ)) لِلشَّعْرَانِيِّ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَازِمُ الْقُرْبِ مَقْصُودٌ، وَهُوَ عَدَمُ الْحَاجَةِ إِلَى رَفْعِ الصَّوْتِ وَلَا إِلَى الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي الدُّعَاءِ وَطَلَبِ الْحَاجَاتِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ فِي التَّوَسُّلِ بِالشُّفَعَاءِ وَالْوُسَطَاءِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَخْبِرْهُمْ بِأَنَّنِي قَرِيبٌ مِنْهُمْ وَأَنَّنِي أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (أَيْ كَمَا فِي سُورَةِ ق).
هَذَا مَا كَتَبْتُهُ مِنَ التَّعْلِيقِ عَلَى كَلِمَةِ شَيْخِنَا فِي قُرْبِ الْوُجُودِ، وَطُبِعَ أَوَّلًا وَاطَّلَعَ هُوَ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ بَعْضُ إِخْوَانِنَا السَّلَفِيِّينَ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ السَّلَفِ ; فَإِنَّهُمْ يَتَأَوَّلُونَ أَوْ يُفَسِّرُونَ الْقُرْبَ بِالْعِلْمِ كَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَوْقَ عِبَادِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَعِبَارَةُ الْأُسْتَاذِ عَلَى إِجْمَالِهَا أَقْرَبُ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ

صفحة رقم 135

السَّلَفِيِّينَ ; فَإِنَّ الْبَائِنَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ - الَّذِي لَا يَتَحَيَّزُ وَلَا يَتَحَدَّدُ - هُوَ الَّذِي تَكُونُ نِسْبَةُ جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَمَنْ فِيهَا إِلَيْهِ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ الْمُطْلَقَةُ
الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْعُلُوُّ الْمُطْلَقُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَقُرْبُ الصِّفَاتِ لَا يُعْقَلُ بِدُونِ قُرْبِ الذَّاتِ ; إِذْ لَا انْفِصَالَ بَيْنَهُمَا وَلَا انْفِكَاكَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ إِمْرَارُ النُّصُوصِ فِي الصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ. وَاللهُ تَعَالَى قَدْ أَسْنَدَ ((الْقُرْبَ)) فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَتَيْ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَسُورَةِ ق إِلَى ذَاتِهِ، فَنَأْخُذُ هَذَا الْإِسْنَادَ عَلَى ظَاهِرِهِ مَعَ إِثْبَاتِ تَنْزِيهِهِ عَنْ مُمَاثَلَةِ خَلْقِهِ، وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ الَّتِي يُفْهَمُ بِهَا الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقُرْبِ فِي كُلِّ سِيَاقٍ بِحَسَبِهِ، وَالْجَامِعُ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ مِنَ الْإِيجَادِ لِلْعِبَادِ وَالْإِمْدَادِ لَهُمْ فِي أَثْنَاءِ وُجُودِهِمْ وَمَصِيرِهِمْ إِلَيْهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ آجَالِهِمْ، فَالْقُرْبُ فِي سُورَةِ (ق) يُنَاسِبُ الْإِيجَادَ وَالْإِمْدَادَ بِالْعِلْمِ وَالْحِفْظِ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ قَوْلَهُ: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ) (٥٠: ١٧) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٥٠: ١٦) وَالْقُرْبُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ يُنَاسِبُ الْمَصِيرَ إِلَيْهِ تَعَالَى كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا بَعْدَهُ، وَقُرْبُهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا يُنَاسِبُ الْإِمْدَادَ بِسَمْعِ الدُّعَاءِ وَإِجَابَتِهِ وَهِيَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَقْرِيرُ تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا، وَقَدْ بَيَّنَهُ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا بِقَوْلِهِ:
(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) مِنْهُمْ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ (إِذَا دَعَانِ) وَتَوَجَّهَ إِلَيَّ وَحْدِي فِي طَلَبِ حَاجَتِهِ ; أَيْ: يَجِبُ أَنْ يُدْعَى وَحْدَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، وَهُوَ الَّذِي يُجِيبُ دَعْوَتَهُ وَحْدَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ تُعِينُهُ أَوْ تُسَاعِدُهُ أَوْ تَنُوبُ عَنْهُ فِي الْإِجَابَةِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ تُؤَثِّرُ فِي إِرَادَتِهِ.
وَقَدْ فَسَّرُوا الدَّعْوَةَ بِطَلَبِ الْحَاجَاتِ وَقَالُوا: إِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِجَابَةَ وَصْفٌ لَازِمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ يُجِيبُ كُلَّ دَاعٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالْمُشَاهَدَةِ. وَأَجَابُوا بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ الْإِجَابَةَ فَهُوَ يُجِيبُ إِنْ شَاءَ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ) (٦: ٤١) فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِكَ: فُلَانٌ يُعْطِي الْكَثِيرَ فَاطْلُبْ مِنْهُ ; أَيْ: إِنَّ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ طَالِبٍ عَيْنَ مَا طَلَبَهُ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْإِجَابَةَ أَعَمُّ مِنْ إِعْطَاءِ السُّؤَالِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْإِجَابَةَ تَكُونُ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا. وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ إِذْ لَا مَحَلَّ لِلْإِشْكَالِ ; فَإِنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ الْمُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ، فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى الصِّيَاحِ
بِتَكْبِيرِهِ وَدُعَائِهِ، وَلَا إِلَى أَنْ يَتَّخِذُوا وُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَسُؤَالِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَصْمُدُوا إِلَيْهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُجِيبُ دُعَاءَهُمْ وَحْدَهُ.

صفحة رقم 136

(أَقُولُ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ إِجَابَتِهِ إِيَّاهُمْ فَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِ الْآيَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَارِفَ بِاللهِ تَعَالَى وَالْعَالِمَ بِشَرْعِهِ وَبِسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ لَا يَقْصِدُ بِدُعَائِهِ رَبَّهُ إِلَّا هِدَايَتَهُ إِلَى الطُّرُقِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي جَرَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى بِأَنْ تَحْصُلَ الرَّغَائِبُ بِهَا، وَتَوْفِيقُهُ وَمَعُونَتُهُ فِيهَا، فَهُوَ إِذَا سَأَلَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَزِيدَ فِي عِلْمِهِ أَوْ فِي رِزْقِهِ فَلَا يَقْصِدُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَحْيًا يُوحَى، وَلَا أَنْ تُمْطِرَ لَهُ السَّمَاءُ ذَهَبًا وَفِضَّةً، وَكَذَلِكَ إِذَا سَأَلَ اللهَ شِفَاءَ مَرَضِهِ أَوْ مَرِيضِهِ الَّذِي أَعْيَاهُ عِلَاجُهُ فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَخْرِقَ اللهُ الْعَادَاتِ، أَوْ يَجْعَلَهُ مُؤَيَّدًا بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْآيَاتِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْمُؤْمِنُ الْعَارِفُ بِالدُّعَاءِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْفِيقِ اللهِ إِيَّاهُ إِلَى الْعِلَاجِ، أَوِ الْعَمَلِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبَ الشِّفَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِإِرْشَادِ مُرْشِدٍ أَوْ بِإِلْهَامٍ إِلَهِيٍّ، فَكَمْ مِنْ عِنَايَةٍ بِالْمُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ، الدَّاعِينَ لَهُ بَعْدَمَا اجْتَهَدُوا فِي الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ فَلَمْ يُفْلِحُوا. وَمِنْ عِنَايَتِهِ الْهِدَايَةُ إِلَى سَبَبٍ جَدِيدٍ، وَإِلْهَامُ النَّفْسِ الْعَمَلَ الْمُفِيدَ، وَتَقْوِيَةُ الْمِزَاجِ عَلَى الْمَرَضِ، وَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ دُعَاءٍ يُجَابُ، بَلْ هِيَ نَفْسُهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجِيبُ الدُّعَاءَ إِلَّا اللهُ، فَيَجِبُ أَلَّا يُدْعَى سِوَاهُ (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا) (٧٢: ١٨) فَعَسَى أَنْ يَهْتَدِيَ بِهَذَا الْمَوْسُومُونَ بِسِمَةِ الْإِيمَانِ، الَّذِينَ يَدْعُونَ عِنْدَ الضِّيقِ غَيْرَ الرَّحْمَنِ، وَيَتَوَجَّهُونَ إِلَى الْقُبُورِ: يَا فُلَانُ يَا فُلَانُ. وَيَتَأَوَّلُ لَهُمْ هَذَا الشِّرْكَ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، بِأَنَّ الْكَرَامَاتِ ثَابِتَةٌ عِنْدَهُمْ لِلْأَمْوَاتِ كَالْأَحْيَاءِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ: (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ) (٦: ٤١)
وَانْظُرْ كَيْفَ لَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي حَتَّى قَيَّدَهَا بِقَوْلِهِ: (إِذَا دَعَانِ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ الدَّاعِيَ شَخْصٌ يَطْلُبُ شَيْئًا، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ كُلَّ يَوْمٍ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُتَحَقِّقًا بِدُعَاءِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ كَمَا يَجِبُ أَنْ يُدْعَى، فَهُوَ يَقُولُ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا خَصَّنِي بِالدُّعَاءِ وَالْتَجَأَ إِلَيَّ الْتِجَاءً حَقِيقِيًّا بِحَيْثُ ذَهَبَ عَنْ نَفْسِهِ إِلَيَّ، وَشَعَرَ قَلْبُهُ بِأَنَّهُ لَا مَلْجَأَ لَهُ إِلَّا إِلَيَّ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَطْمَعُ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، وَلَا يَطْلُبُ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَبَ، وَإِنَّمَا يَمْتَثِلُ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى بِاتِّخَاذِ جَمِيعِ الْوَسَائِلِ مِنْ طُرُقِهَا الصَّحِيحَةِ الْمَعْرُوفَةِ
وَهِيَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعَزِيمَةِ وَالْعَمَلِ، فَإِنْ تَمَّ لِلْعَبْدِ مَا يُرِيدُ بِذَلِكَ فَقَدْ أَعْطَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ خَزَائِنِهِ الَّتِي يُفِيضُ مِنْهَا عَلَى جَمِيعِ مُتَّبِعِي سُنَنَهِ فِي الْخَلْقِ، وَإِنْ بَذَلَ جُهْدَهُ وَلَمْ يَظْفَرْ بِسُؤْلِهِ فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَلْجَأَ إِلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ وَهَادِي الْقُلُوبِ إِلَى مَا غَابَ عَنْهَا وَخَفِيَ عَلَيْهَا، وَيَطْلُبُ الْمَعُونَةَ وَالتَّوْفِيقَ مِمَّنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا يُجَابُ لَا مَحَالَةَ.
وَقَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: الدُّعَاءُ الْمُجَابُ هُوَ الدُّعَاءُ بِلِسَانِ الِاسْتِعْدَادِ، وَقَدِ اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ الطَّمَعِ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، فَمَنْ يَتْرُكُ السَّعْيَ وَالْكَسْبَ وَيَقُولُ: ((يَا رَبِّ أَلْفَ جُنَيْهٍ)) فَهُوَ غَيْرُ دَاعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ جَاهِلٌ. وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمَرِيضُ لَا يُرَاعِي الْحَمِيَّةَ وَلَا يَتَّخِذُ الدَّوَاءَ، وَيَقُولُ: رَبِّ اشْفِنِي وَعَافِنِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: اللهُمَّ أَبْطِلْ سُنَنَكَ الَّتِي قُلْتَ: إِنَّهَا لَا تُبَدَّلُ وَلَا تُحَوَّلُ لِأَجْلِي

صفحة رقم 137

وَكَمِ اسْتَجَابَ اللهُ لَنَا مِنْ دُعَاءٍ، وَكَشَفَ عَنَّا مِنْ بَلَاءٍ، وَرَزَقَنَا مِنْ حَيْثُ لَا نَحْتَسِبُ وَلَا نَتَّخِذُ الْأَسْبَابَ، وَلَكِنْ بِتَسْخِيرِهِ هُوَ لِلْأَسْبَابِ.
سَأَلَ سَائِلٌ فِي الدَّرْسِ: إِذَا كَانَ الرِّزْقُ مُقَدَّرًا فَعَلَامَ السُّؤَالُ؟ فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: إِذَا كَانَتْ إِجَابَتِي أَوْ عَدَمُهَا مُقَدَّرًا فَلِمَ السُّؤَالُ؟ هَذَا لَا يُقَالُ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ مَا الْحِكْمَةُ فِي طَلَبِ الدُّعَاءِ مِنَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ كَحَدِيثِ ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ)) وَاللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِنَا وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ سَرَائِرُنَا؟ قَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالدُّعَاءِ فَزَعُ الْقَلْبِ إِلَى اللهِ وَشُعُورُهُ بِالْحَاجَةِ إِلَى مَعُونَتِهِ وَالْتِجَاؤُهُ إِلَيْهِ. وَيَحْتَجُّونَ بِمَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مِنْ
أَنَّ جِبْرِيلَ سَأَلَهُ قَبْلَ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. قَالَ: فَادْعُ اللهَ. قَالَ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي.
(أَقُولُ) : وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ مَطْلُوبٌ بِالْقَوْلِ مَعَ التَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ بِالْقَلْبِ، وَمِنْهُ الْأَدْعِيَةُ الْمَأْثُورَةُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ; ذَلِكَ أَنَّ الدُّعَاءَ بِاللِّسَانِ هُوَ أَثَرُ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَفَزَعِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَثَرُهُ فَهُوَ مُذَكِّرٌ بِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ مَظَاهِرِ الْإِيمَانِ ; وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخَّ الْعِبَادَةِ، فَهُوَ يُطْلَبُ لِذَلِكَ، وَإِجَابَةُ اللهِ الدُّعَاءَ تَقَبُّلُهُ مِمَّنْ أَخْلَصَ لَهُ وَفَزِعَ إِلَيْهِ بِرُوحِهِ وَرِضَاهُ عَنْهُ سَوَاءٌ أَوَصَلَ إِلَيْهِ مَا طَلَبَهُ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ أَمْ لَمْ يَصِلْ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ ((رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَمَتْنُهُ صَحِيحٌ فَهُوَ بِمَعْنَى حَدِيثِ ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) بِصِيغَةِ الْحَصْرِ وَهُوَ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
(فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) قَالُوا: اسْتَجَابَ لَهُ وَاسْتَجَابَهُ وَأَجَابَهُ إِلَى الشَّيْءِ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ وَيُؤْتِيَهُ مَا طَلَبَهُ مِنْهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الِاسْتِجَابَةُ قِيلَ هِيَ الْإِجَابَةُ، وَحَقِيقَتُهَا التَّحَرِّي لِلْجَوَابِ وَالتَّهَيُّؤِ لَهُ، لَكِنْ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْإِجَابَةِ لِقِلَّةِ انْفِكَاكِهَا مِنْهَا. اهـ.
وَأَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَمِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) (٨: ٢٤) أَنَّ الْأَقْرَبَ إِلَى الْفَهْمِ مَا قَالَهُ الرَّاغِبُ وَعَكسَهُ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ هِيَ الْإِجَابَةُ بِعِنَايَةٍ وَاسْتِعْدَادٍ، فَتَكُونُ زِيَادَةُ السِّينِ وَالتَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ يَقْرُبُ مِمَّا قَالُوهُ

صفحة رقم 138

فِي مَعَانِيهِمَا مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّحَرِّي وَالطَّلَبِ أَوْ هُوَ بِعَيْنِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِ فِيمَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) (٣: ١٩٥) وَالْمَعْنَى: وَإِذْ كُنْتُ قَرِيبًا مِنْهُمْ مُجِيبًا لِدَعْوَةِ مَنْ دَعَانِي مِنْهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا هُمْ لِي بِتَحَرِّي مَا أَمَرْتُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ لَهُمْ كَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِ مِمَّا أَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، كَمَا أُجِيبُ دَعْوَتَهُمْ بِقَبُولِ عِبَادَتِهِمْ، وَتَوَلِّي إِعَانَتِهِمْ، فَالْآيَةُ تُفِيدُ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ بِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ هُوَ الَّذِي يُطَاعُ طَاعَةَ الْعِبَادَةِ، فَإِذَا دَعَانَا غَيْرُهُ إِلَى عِبَادَةٍ اخْتَرَعَهَا بِاجْتِهَادِهِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا فِيمَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى نَبِيِّهِ لَا نُجِيبُهُ إِلَيْهَا، كَمَا أَنَّنَا لَا نَدْعُو غَيْرَهُ تَعَالَى.
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ هُنَا: إِنَّهُ أَمَرَ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ،
وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ وَأَنَّ حَظَّ مَنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ مِنْهُ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ وَيُطَالِبَهَا بِأَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي عُدَّ بِهَا مُسْلِمًا صَادِرَةً عَنِ الْإِيمَانِ الْيَقِينِيِّ وَالِاحْتِسَابِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَفِي ذِكْرِ الْإِيمَانِ بَعْدَ الِاسْتِجَابَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْتَجِيبُ إِلَى الْأَعْمَالِ وَيَقُومُ بِهَا وَهُوَ خُلْوٌ مَنْ رُوحِ الْإِيمَانِ (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٤٩: ١٤).
(لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أَيْ: بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالرُّشْدُ وَالرَّشَادُ ضِدُّ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ، فَعَلَّمَنَا أَنَّ الْأَعْمَالَ إِذَا لَمْ تَكُنْ صَادِرَةً بِرُوحِ الْإِيمَانِ لَا يُرْجَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا رَاشِدًا مَهْدِيًّا، فَمَنْ يَصُومُ اتِّبَاعًا لِلْعَادَةِ وَمُوَافَقَةً لِلْمُعَاشِرِينَ فَإِنَّ الصِّيَامَ لَا يَعُدُّهُ لِلتَّقْوَى وَلَا لِلرَّشَادِ، وَرُبَّمَا زَادَهُ فَسَادًا فِي الْأَخْلَاقِ وَضَرَاوَةً بِالشَّهَوَاتِ ; لِذَلِكَ يُذَكِّرُنَا تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ سَرْدِ الْأَحْكَامِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ فِي إِصْلَاحِ النُّفُوسِ، وَإِنَّمَا نَفْعُ الْأَعْمَالِ فِي صُدُورِهَا عَنْهُ وَتَمْكِينِهَا إِيَّاهُ.
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

صفحة رقم 139
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية