
للمدح أو الذم خولف في الإعراب تفننا في الكلام واجتلابا للانتباه بأن ما وصف به الموصوف أو ما أسند إليه من صفات جدير بأن يستوجب الاهتمام، لأن تغيير المألوف المعتاد يدل على زيادة ترغيب في استماع المذكور ومزيد اهتمام بشأنه. والآية مثال لقطع التابع عن المتبوع في حال المدح، وأما مثاله في حال الذم فهو قوله تعالى في سورة تبّت (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) فقد نصب حمالة على الذم وهي في الحقيقة وصف لامرأته وسيأتي.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٨ الى ١٧٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)
اللغة:
(كُتِبَ) : فرض، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
كتب القتل والقتال علينا | وعلى الغانيات جرّ الذّيول |
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها (كُتِبَ) فعل ماض مبني صفحة رقم 252

للمجهول (عَلَيْكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بكتب (الْقِصاصُ) نائب فاعل (فِي الْقَتْلى) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال. ولك أن تعلقهما بالقصاص. وجملة النداء وما تلاه مستأنفة مسوقة لبيان حكم القصاص في عرف الشرع (الْحُرُّ) مبتدأ (بِالْحُرِّ) متعلقان بمحذوف خبر (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) عطف على ما تقدم والجملة الاسمية لا محل لها لأنها مفسرة (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) عطف أيضا (فَمَنْ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن بعض التفاصيل التي تخطر على البال، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ (عُفِيَ) فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بعفي (مِنْ أَخِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي حالة كونه من دم أخيه (شَيْءٌ) نائب فاعل عفي (فَاتِّباعٌ) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية، واتباع مبتدأ خبره محذوف مقدم عليه، أي فعليه اتباع. والجملة في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من (بِالْمَعْرُوفِ) الجار والمجرور متعلقان باتباع (وَأَداءٌ) عطف على اتباع (إِلَيْهِ) متعلقان بأداء (بِإِحْسانٍ) متعلقان بمحذوف حال (ذلِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (تَخْفِيفٌ) خبر (مِنْ رَبِّكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة والجملة مستأنفة (وَرَحْمَةٌ) عطف على تخفيف (فَمَنْ) الفاء الفصيحة ومن شرطية مبتدأ (اعْتَدى) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط (بَعْدَ ذلِكَ) الظرف متعلق باعتدى (فَلَهُ) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (عَذابٌ) مبتدأ مؤخر (أَلِيمٌ) صفة لعذاب، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر من (وَلَكُمْ) الواو استئنافية وما بعدها جملة مستأنفة مسوقة لبيان الحكمة في مشروعية القصاص، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (فِي الْقِصاصِ) الجار والمجرور
صفحة رقم 253
متعلقان بمحذوف حال (حَياةٌ) مبتدأ مؤخر (يا) حرف نداء (أُولِي الْأَلْبابِ) منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والألباب مضاف إليه (لَعَلَّكُمْ) لعل واسمها (تَتَّقُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة في محل رفع خبر لعل وجملة الرجاء حال.
البلاغة:
في آية القصاص سموّ بياني منقطع النظير لأنها تنطوي على فنون عديدة ندرجها فيما يلي:
١- الإيجاز: فقد كان العرب يتباهون بقولهم: «القتل أنفى للقتل» فجاءت آية القرآن وهي «في القصاص حياة» أكثر إيجازا وأرشق تعبيرا لأنها أربع كلمات وهي «في، ال، قصاص، حياة» وقول العرب ست وهي «ال، قتل، أنفى، وضميره لأنه اسم مشتق، اللام، قتل» ولأن حروفها الملفوظة الثابتة وقفا ووصلا أحد عشر حرفا وحروف قول العرب أربعة عشر حرفا.
٢- المجاز المرسل في قوله: «في القصاص حياة» فقد جعل ما هو تفويت للحياة وذهاب بها ظرفا لها إذ القصاص مزجرة قوية عن إقدام الناس على القتل، فارتفع بسببه القتل عن الناس، وارتفاع سبب الموت ديمومة للحياة السابقة.
٣- تعريف القصاص وتنكير الحياة، أي انه كان لكم في هذا الجنس من القصاص حياة عظيمة لا تدركون كنهها، لأن القاتل يرتدع عن القتل فتصان بذلك حياة الابرياء، ويزدجر البغاة، ومن ركزت في نفوسهم طبيعة الاجرام.

٤- تعجيل الترغيب والتشويق بذكر الحياة وبها يتنسم السامع رائحة الحياة وطيبها وحلاوتها لأنها أتت نتيجة حتمية للقصاص بعكس كلمة العرب التي تبتدئ بذكر الموت وقد رمق أبو الطيب سماء هذا المعنى ببيته الخالد:
إلف هذا الهواء أوقع في الأنفس أنّ الحمام مرّ المذاق ٥- الطباق بين الحياة والموت للمفارقة بين الضّدّين ولا يظهر حسن الضدّ إلا الضد على حد قول صاحب اليتيمة متغزلا:
فالوجه مثل الصّبح مبيضّ | والفرع مثل الليل مسودّ |
ضدّان لما استجمعا حسنا | والضّدّ يظهر حسنه الضدّ |
٦- التنكير في الحياة يدل على أن في هذا الجنس البشري نوعا من الحياة يتميّز عن غيره ولا يستطيع الوصف أن يبلغه، لأنهم كانوا يقتلون الجماعة بالواحد فتهيج الفتنة وتستشري بينهم، ففي شرع القصاص سلامة ومنجاة من هذا كله.
٧- التعميم الذي يتجاوز التخصيص، فليس القتل وحده سبب القصاص ولكن ينتظم فيه جميع الجروح والشّجاج، لأن الجارح إذا علم أنه إذا جرح جرح صار ذلك سببا لبقاء الجارح والمجروح، وربما أفضت الجراحة الى الموت، فيقتصّ من الجارح. صفحة رقم 255