
وقال قتادة، والحَسَنُ، وابْنُ جُبَيْر، والربيع: أظهر التعجُّب من صبرهم على النار لَمَّا عملوا عملَ مَنْ وَطَّن نفْسه علَيْها «١»، وتقديره ما أجرأَهم علَى النَّارِ إِذ يعملون عملاً يؤدِّي إِليها، وذهب مَعْمَرُ بْنُ المثنى إِلى أن «ما» استفهامٌ، معناه: أيُّ شَيْءٍ صبرهم عَلَى النار «٢»، والأول أظهر.
وقوله سبحانه: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ... الآية: المعنى: ذلك الأمر بأنَّ اللَّه نزَّل الكتابَ بالحَقِّ، فكفروا/ به، والإشارة إلى وجوب النّار لهم.
والْكِتابَ: القرآن، وبِالْحَقِّ، أي: بالإخبار الحقّ، أي: الصادقة.
والَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ هم اليهودُ والنصارى، في قول السُّدِّيِّ «٣»، وقيل:
هم كفَّار العرب لقول بعضهم: هو سِحْرٌ، وبعضهم: أساطير، وبَعْضهم: مفترًى، إلى غير ذلك.
وبَعِيدٍ، هنا: معناه من الحقّ، والاستقامة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٧]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
وقوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ... الآية: قال ابن عَبَّاس وغيره: الخِطَابُ بهذه الآية للمؤمنين، فالمعنى: ليس البرّ الصلاة وحدها «٤»،
(٢) وبه قال السدي وجماعة، كما في تفسير الطبري (٣/ ٣٣٢)، عن السدي، وأبي كريب، وابن زيد، وفي «البحر» (١/ ٦٦٩) عن ابن عباس والسدي، والمبرد ومعمر بن المثنى، وفي «الدر» (١/ ١٦٩) عن السدي، وفي «فتح القدير» (١/ ١٧٢) عنه أيضا. وينظر: «مجاز القرآن» لأبي عبيدة (١/ ٦٤).
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ٩٨) برقم (٢٥٢٠) وذكره ابن عطية (١/ ٢٤٢)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٣٠٩)، وعزاه لابن جرير. [.....]
(٤) أخرجه الطبري (٢/ ٩٩) برقم (٢٥٢١- ٢٥٢٤) بإسنادين عن ابن عباس. وذكره ابن عطية (١/ ٢٤٣)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٣١٠) بإسنادين، عن ابن عباس، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.

وقال قتادة، والربيع: الخطاب لليهودِ والنصارى لأنهم تكلَّموا في تحويل القبلة، وفضَّلت كل فرقة تولِّيها، فقيلَ لهم: ليس البرَّ ما أنتم فيه، ولكنَّ البرَّ من آمن باللَّه «١».
وقوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ... الآيةَ: هذه كلُّها حقوقٌ في المال سوى الزكاةِ، قال الفَخْر «٢» : وروَتْ فاطمةُ بنْتُ قَيْسٍ، أنَّ فِي المَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ «٣»، وتَلاَ:
وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ... الآية، وعنه صلّى الله عليه وسلم «لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ مَنْ بَاتَ شبعان، وجاره طاويا إلى جنبه» «٤» انتهى.
وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (١/ ٦٦) عن قتادة. وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٣١٠) عن قتادة، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير.
(٢) «التفسير الكبير» (٥/ ٣٥).
(٣) أخرجه الترمذي (٣/ ٤٨) في الزكاة، باب ما جاء أن في المال حقا سوى الزكاة (٦٥٩، ٦٦٠). والطبري (٢/ ٥٧)، والدارمي (١/ ٣٨٥) في الزكاة، باب ما يجب في مال سوى الزكاة. والدارقطني (٢/ ١٢٥) في الزكاة، باب تعجيل الصدقة قبل الحول رقم (١١، ١٢). والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢/ ٢٧)، والبيهقي (٤/ ٨٤) في الزكاة: باب الدليل على أن من أدى فرض الله في الزكاة، فليس عليه أكثر منه إلا أن يتطوع... من طريق شريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس بنحوه.
وقال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف. وروى بيان وإسماعيل بن سالم، عن الشعبي هذا الحديث من قوله. وهذا أصح. وقال البيهقي: هذا حديث يعرف بأبي حمزة ميمون الأعور كوفي، وقد جرحه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، فمن بعدهما من حفاظ الحديث. والذي يرويه أصحابنا في التعاليق ليس في المال حق سوى الزكاة- فلست أحفظ فيه إسنادا.
وأخرجه ابن ماجة بالإسناد السابق (١/ ٥٧٠) في الزكاة، باب ما أدي زكاته ليس بكنز (١٧٨٩) بلفظ:
«ليس في المال حق سوى الزكاة».
وقال النووي كما في تخريج أحاديث «الكشاف» للزيعلي (١/ ١٠٧) : حديث «ليس في المال حق سوى الزكاة» حديث منكر. ثم نقل كلام البيهقي برمته.
وبالجملة فالحديث كيفما كان ضعيف بأبي حمزة ميمون الأعور ضعفه الترمذي. وقال البيهقي: لا يثبت إسناده، تفرد به أبو حمزة الأعور، وهو ضعيف. ومن تابعه أضعف منه.
وللفظ الأول من الحديث شاهد أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (٣/ ٨٩، ٩٠)، من طريق موسى بن إسماعيل، عن محمد بن راشد، عن عبد الكريم، عن حبان بن جزىء، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «في المال حق بعد الزكاة؟ قال: نعم، يحمل على النجيبة».
(٤) أخرجه البزار (١/ ٧٦- كشف) رقم (١١٥)، من طريق حسين بن علي الجعفي، ثنا سفيان بن عيينة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أنس مرفوعا بلفظ: «ليس المؤمن الذي يبيت شبعان وجاره طاوي».
وقال البزار: لا نعلمه، يروى عن أنس إلا من هذا الوجه.
قلت: وفي كلام البزار نظر حيث إن للحديث طريقا آخر عن أنس: أخرجه الطبراني في «المعجم-

قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «١» : وإِذا وقع أداء الزكاة، ثم نزلَتْ بعد ذلك حاجةٌ، فإِنه يجبُ صرف المال إِليها باتفاق من العلماءِ، وقد قال مالك: يجبُ على كافَّة المسلمين فِدَاءُ أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالَهُمْ، وكذلك إِذا منع الوالي الزكاةَ، فهل يجبُ على الأغنياء إِغناءُ الفقراء؟ الصحيحُ: وجوبُ ذلك علَيْهم. انتهى.
ومعنى: آتَى: أعطى على حبِّه، أي: على حبِّ المال، ويحتملُ أن يعود الضميرُ على اسْمِ اللَّه تعالى من قوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، أي: من تَصَدَّقَ مَحَبَّة في اللَّه وطاعته.
ص: والظاهر أن الضمير في «حُبِّهِ» عائدٌ على «المال» لأن قاعدتهم أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إِلاَّ بدليلٍ. انتهى.
قال ع «٢» : والمعنَى المقصودُ أن يتصدَّق المرءُ في هذه الوجوهِ، وهو صحيحٌ شحيحٌ يخشَى الفَقْر، ويأمل الغنى كما قال صلّى الله عليه وسلم «٣». والشحّ في هذا الحديث: هو
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما آمن بي من بات شبعانا، وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به». والحديث ذكره الهيثمي في «المجمع» (٨/ ١٧٠)، وقال: رواه الطبراني، والبزار، وإسناد البزار حسن.
والحديث ذكره أيضا المنذري في «الترغيب» (٣/ ٣٣٤)، وقال: رواه الطبراني، والبزار، وإسناده حسن، وللحديث شاهد من حديث ابن عباس.
أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» رقم (١١٠)، وفي «التاريخ الكبير» (٥/ ١٩٥، ١٩٦)، وأبو يعلى (٥/ ٩٢) رقم (٢٦٩٩)، والحاكم (٤/ ١٦٧)، والطبراني في «الكبير» (١٢/ ١٥٤) رقم (١٢٧٤١)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (١٠/ ٣٩٢)، كلهم من طريق سفيان عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عبد الله بن المساور، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن الذي يشبع، وجاره جائع إلى جنبه».
والحديث ذكره المنذري في «الترغيب» (٣/ ٣٣٤)، وقال: رواه الطبراني، وأبو يعلى ورواته ثقات.
وقال الهيثمي في «المجمع» (٨/ ١٧٠) : رواه الطبراني، وأبو يعلى، ورجاله ثقات.
(١) ينظر: «الأحكام» (١/ ٥٩).
(٢) «المحرر الوجيز» (١/ ٢٤٣).
(٣) أخرجه البخاري (٣/ ٣٣٤) في الزكاة، باب فضل صدقة الشحيح (١٤١٩)، و (٥/ ٤٣٩- ٥٤٠) في «الوصايا»، باب الصدقة عند الموت (٢٧٤٨)، ومسلم (٢/ ٧١٦) في الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح (٩٢- ٩٣/ ١٠٣٢)، وأبو داود (٢/ ١٢٦) في الوصايا، باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية (٢٨٦٥)، والنسائي (٥/ ٦٨) في الزكاة، باب أي الصدقة أفضل، و (٦/ ٢٣٧) في الوصايا، باب الكراهية في تأخير الوصية، وابن ماجة (٢/ ٩٠٣) في الوصايا، باب النهي عن الإمساك في الحياة، والتبذير عند الموت (٢٧٠٦). والبخاري في «الأدب المفرد» برقم (٧٨٦)، وأحمد (٢/ ٢٣١، ٤١٥، ٤٤٧)، وابن خزيمة (٤/ ١٠٣) برقم (٢٤٥٤)، والبيهقي (٤/ ١٩٠)، والبغوي (٣/ ٤٢٣) برقم.

الغريزيُّ الذي في قوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [النساء: ١٢٨] وليس المعنَى أنْ يكون المتصدِّق متَّصِفاً بالشحِّ الذي هو البُخْل.
وَفِي الرِّقابِ، أي: العتق، وفَكّ الأسرى.
وَالصَّابِرِينَ: نصبٌ على المدح، أو على إِضمار فعْلٍ، وهذا مَهْيَعٌ «١» في تكرار النعوت.
والْبَأْساءِ: الفَقْر والفاقة.
وَالضَّرَّاءِ: المرض، ومصائبُ البدن، وعن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنهما، قال:
قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ مَنْ يدعى إِلَى الجَنَّةِ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» رواه الحاكم في «المستَدْرَكِ»، وقال: صحيحٌ على شرط مُسْلِمٍ «٢». انتهى من «السلاح».
(١) المهيع: هو الطريق الواسع المنبسط. ينظر: «لسان العرب» (٤٨٣٨) (هيع).
(٢) أخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» (١/ ١٠٣)، وفي «الأوسط» (٤/ ٤٤) رقم (٣٠٥٧)، وفي «الكبير» (١٢/ ١٩) رقم (١٢٣٤٥)، وأبو نعيم في «الحلية» (٥/ ٦٩). كلهم من طريق قيس بن الربيع، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا.
وقال الطبراني: لم يروه عن حبيب إلا قيس بن الربيع، وشعبة بن الحجاج، عن نصر بن حماد الوراق.
وقال أبو نعيم: رواه شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٩٨)، وقال: رواه الطبراني في الثلاثة بأسانيد، وفي أحدها قيس بن الربيع وثقه شعبة، والثوري، وغيرهما.
وضعفه يحيى القطان، وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح اهـ.
قلت: قيس بن الربيع في سند الطبراني في معاجمه الثلاثة، وليس كما يوهم كلام الهيثمي.
والحديث ضعفه الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (٤/ ٧٩)، وأعله بقيس بن الربيع، وقال: ضعفه الجمهور، وهذا الحديث قد رواه شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، كما أشار إلى ذلك الحافظ أبو نعيم.
أخرجه الطبراني في «الصغير» (١/ ١٠٣)، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٨٤- بتحقيقنا). كلاهما من طريق نصر بن حماد الوراق، نا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.
وهذا سند ضعيف جدا.
نصر بن حماد قال النسائي، وغيره: ليس بثقة، ينظر «المغني» للذهبي (٦٦٠٩).
وتابعهما عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، عن حبيب.
أخرجه الحاكم (١/ ٥٠٢).
وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. والمسعودي لم يخرج له مسلم شيئا فضلا عن اختلاطه.