الحلال والحرام من المآكل
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)
الإعراب:
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ: إِنَّما كافة، وإنما تجيء في الكلام لإثبات المذكور ونفي ما سواه، مثل: «إنما إلهكم إله واحد» أي ما إلهكم إلا إله واحد.
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ: غَيْرَ منصوب على الحال من ضمير: اضْطُرَّ.
المفردات اللغوية:
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ أي أكلها، إذ الكلام فيه، وكذا ما بعدها، وهي ما لم يذكّ (يذبح) شرعا، وألحق بها بالسنة: ما أبين من حي، وخص منها السمك والجراد وَالدَّمَ أي المسفوح وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي ذبح على اسم غيره، والإهلال: رفع الصوت، وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها، ويقولون: باسم اللات، أو باسم العزى، ثم قيل لكل ذابح:
مهل، وإن لم يجهر بالتسمية. فَمَنِ اضْطُرَّ ألجأته الضرورة إلى أكل شيء مما ذكر، فأكله.
غَيْرَ باغٍ غير طالب للشيء المحرم ذاته وَلا عادٍ غير متجاوز قدر الضرورة إِثْمَ الإثم:
الذنب والمعصية.
التفسير والبيان:
الآيات السابقة من أول السورة لبيان موقف المؤيدين والمعارضين للقرآن، ومن هنا أي بداية النصف الثاني من السورة إلى أواخر الجزء الثاني في بيان الأحكام الشرعية العملية.
بعد أن خاطب الله الناس جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض من خيراتها، ثم بين سوء حال الكافرين المقلدين رؤساءهم، لأنهم لا يستقلون برأي، ولا يهتدون بعقل، وجه الخطاب هنا إلى المؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، فأباح لهم أن يأكلوا من رزق الله الطيب الطاهر، وأمرهم أن يشكروا نعمة الله عليهم، إن صح أنهم يخصونه بالعبادة، ويقرون أنه مولي النعم.
عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري».
ولما أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب، وكانت وجوه الحلال كثيرة، وبيّن لهم ما حرم عليهم، لكونه أقل، بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر.
والأكل من الطيبات مع شكر النعمة موقف وسط يجمع بين متطلبات الجسد والروح معا، فنأكل للحفاظ على الجسم بلا إسراف ولا تقتير، قال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً.. [المائدة ٥/ ٨٧- ٨٨] ونغذي الروح بشكر الله على ما أنعم.
ويختلف هذا الموقف الوسط عما كان عليه المشركون وأهل الكتاب قبل الإسلام، فمنهم من حرم على نفسه أشياء معينة كالبحيرة والسائبة، ونحوهما، وساد عند النصارى مبدأ الرهبانية وتعذيب النفس وحرمانها من جميع اللذات، واحتقار الجسد ولوازمه، إما بتخصيص ذلك بالرهبان، أو بتعميمه على الجميع كالحرمان من اللحم والسمن في بعض أنواع الصيام كصوم العذراء والقديسين، والحرمان من السمك واللبن والبيض في صوم آخر.
والمحرم الحقيقي:
١- إنّما هو تناول الميتة، لاحتباس الدم فيها وتوقع التضرر بها، لفساد لحمها وتلوثه بالأمراض غالبا، فهي محرمة لاستقذارها ولما فيها من ضرر.
٢- وتناول الدم المسفوح، لأنه ضارّ، وتأباه النفوس الطيبة، فهو حرام لقذارته وضرره أيضا.
٣- وأكل لحم الخنزير، لأنه ضارّ، وخصوصا أثناء الحر، ولأن النفوس الطيبة تأباه، لأنه حيوان قذر لا يأكل غالبا إلا من القاذورات والنجاسات، فيقذر لذلك، ولأن فيه ضررا، لحملة جراثيم شديدة الفتك، ولأن فيه كثيرا من الطباع الخبيثة، وولوع بالنواحي الجنسية ولا يغار على أنثاه، وكسول بطبعه، والمتغذي يتأثر بتلك الطبائع، وتنتقل إليه بيوض الدودة الوحيدة الحلزونية التي قد تكون في خلايا عضلات جسمه، ولو تربى في أنظف الحظائر.
٤- وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى عند الذبح، لأنه من أعمال الوثنية، وفيه إشراك واعتماد على غير الله. وكان العرب في الجاهلية يذبحون للأصنام، ويقولون: باسم اللات والعزى، فهو حرام صيانة لمبدأ الدين والتوحيد وتعظيم الله. وحصر التحريم في هذه الأصناف مستفاد من قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ.. أي لم يحرم عليكم إلا الميتة وتوابعها، لأن إِنَّما تفيد الحصر، تثبت ما تناوله الكلام وتنفي ما عداه. وقد حصرت هنا التحريم، لا سيما وقد جاءت عقب التحليل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ.
ويضاف لهذه المحرمات ما حرم في سورة المائدة (الآية: ٣) وما حرمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، ولحوم الحمير الأهلية.
لكن من ألجأته الضرورة (وهي أن يصل إلى حد لو لم يتناول المحظور هلك) إلى أكل شيء مما حرم الله، بأن لم يجد غيره، وخاف على نفسه الهلاك، ولم يكن راغبا فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة، فلا إثم عليه، للحفاظ على النفس، وعدم تعريضها للهلاك، ولأن الإشراف على الموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة والدم.
وقيد الله جواز الأكل من المحرمات بقوله: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار، فيزعم الواحد أنه مضطر وليس بمضطر، ويتجاوز قدر الضرورة أو الحاجة مستغلا الظرف الطارئ، فينقاد لشهواته.
إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة، لأنه متروك إلى اجتهادهم، رحيم بهم، إذ أباح لهم تناول المحرّمات حال الضرورة، ولم يوقعهم في الحرج والعسر.
فقه الحياة أو الأحكام:
أكد الله في هذه الآية إباحة الأكل من الطيبات، وخص المؤمنين هنا بالذكر تفضيلا لهم وتنويها بهم، والمراد بالأكل: الانتفاع من جميع الوجوه. فيجوز الانتفاع بكل ما في البر والبحر من نبات وحيوان وأسماك وطيور إلا ما حرمه الله في هذه الآية وآية المائدة (٣) وما ذكره الفقهاء بالاعتماد على الثابت في السنة النبوية. ويلاحظ أن المذكور في سورة المائدة داخل تحت اسم الميتة: وهي كل ما مات من غير ذبح شرعي، سواء أكان موقوذة أم متردية أم نطيحة أم أكلها السبع ولم تدرك حية فتذبح. وكذا ما ليس بمأكول فذبحه كموته كالسباع وغيرها.
وقد خصصت هذه الآية
بقوله عليه السّلام فيما أخرجه الدارقطني: «أحلت لنا ميتتان: الحوت والجراد، ودمان: الكبد والطحال»
وروى البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أكل كل ذي ناب من السباع»
وروى مالك وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير حرام»
وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل».
أما آراء الفقهاء في الحيوان المأكول، فهي ما يلي بإيجاز: قالوا: الحيوان بالنسبة للذبح أو الذكاة الشرعية أنواع ثلاثة: مائي، وبري، وبرمائي (بري- مائي) «١» :
أما الحيوان المائي: وهو الذي لا يعيش إلا في الماء فقط، ففيه رأيان:
١- مذهب الحنفية: جميع ما في الماء من الحيوان محرم الأكل إلا السمك خاصة، فإنه يحل أكله بدون ذكاة (ذبح) إلا الطافي منه، فإن مات وطفا على الماء لم يؤكل،
لحديث ضعيف عن جابر رواه أبو داود وابن ماجه: «ما ألقاه البحر، أو جزر عنه، فكلوه، وما مات فيه، وطفا، فلا تأكلوه».
٢- مذهب الجمهور غير الحنفية: حيوان الماء كالسمك والسرطان وحية الماء وكلبه وخنزيرة، حلال يباح بغير ذكاة، كيف مات، حتف أنفه، أو بسبب ظاهر كصدمة حجر أو ضربة صياد، أو انحسار ماء، راسيا كان أو طافيا، وأخذه: ذكاته، لكن إن انتفخ الطافي بحيث يخشى منه المرض، يحرم للضرر.
إلا أن الإمام مالك كره خنزير الماء وقال: أنتم تسمونه خنزيرا. وقال ابن القاسم: وأنا أتقيه ولا أراه حراما.
وأما الحيوان البري: وهو الذي لا يعيش إلا في البر، فهو ثلاثة أنواع:
الأول- ما ليس له دم أصلا: كالجراد والذباب والنمل والنحل والدود والخنفساء والصرصار والعقرب وذوات السموم ونحوها، لا يحل أكلها إلا الجراد خاصة، لأنها من الخبائث غير المستطابة، لاستبعاد الطباع السليمة إياها، وقد قال تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف ٧/ ١٥٧]. واشترط المالكية تذكية الجراد، أما الجراد الميت فهو حرام عندهم، لأن
حديث: «أحلت لنا ميتتان»
ضعيف. أما الحنفية الذين لا يجيزون تخصيص القرآن بالسنة،
فيقولون: إن الذي خصص ميتة السمك هو قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [المائدة ٥/ ٩٦] فأما صيده: فهو ما أخذ بعلاج، وأما طعامه فهو ما وجد طافيا أو جزر عنه البحر، لكنهم لا يجيزون أكل الطافي كما تقدم.
الثاني- ما ليس له دم سائل: كالحية وسام أبرص وجميع الحشرات وهوام الأرض من الفأر والقراد (ما يعلق بالبعير) والقنافذ واليربوع والضب: يحرم أكلها لاستخباثها، ولأنها ذوات سموم،
ولأنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتلها. وحرم الحنفية الضب، لأنه صلّى الله عليه وسلّم نهى عائشة حين سألته عن أكله.
وأباحه الجمهور لإقراره عليه الصلاة والسلام أكل الضب بين يديه. وأجاز الشافعية أكل القنفذ وابن عرس.
الثالث- ماله دم سائل: وهو إما مستأنس أو متوحش. أما المستأنس من البهائم: فيحل منه الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم بالإجماع، ويحرم أكل البغال والحمير، ويحل لحم الخيل لكن مع الكراهة تنزيها عند أبي حنيفة، لاستخدامها في الركوب والجهاد. والمشهور عند المالكية تحريم الخيل.
ويحرم المستأنس من السباع وهو الكلب والقط.
وأما المتوحش: فيحرم عند الجمهور غير مالك كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، لأنها تأكل الجيف أي الميتات. ويكره عند مالك لحوم السباع، ويجوز عنده أكل الطيور ذوات المخالب، لظاهر الآية: قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ.. [الأنعام ٦/ ١٤٥].
فالذي يحل شيئا مما ذكر يستند إلى عموم الآية، ويحمل الحديث على نهي الكراهة، أو يبطله لمعارضته الآية. والذي يحرم شيئا مما ذكر يستند إلى الحديث الوارد في التحريم وينسخ به الآية أو يرى أنه لا معارضة.
وأما الحيوان البرمائي: وهو الذي يعيش في البر والماء معا، كالضفدع والسلحفاة والسرطان والحية والتمساح وكلب الماء ونحوها، ففيه آراء ثلاثة:
الأول- للحنفية والشافعية: لا يحل أكلها، لأنها من الخبائث، ولسمية الحية،
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه أحمد وأبو داود «نهى عن قتل الضفدع»
ولو حل أكله، لم ينه عن قتله.
الثاني- للمالكية: يباح أكل الضفادع ونحوها مما ذكر، لأنه لم يرد نص في تحريمها.
الثالث- للحنابلة وهو التفصيل: كل ما يعيش في البر من دواب البحر لا يحل بغير ذكاة كطير الماء والسلحفاة وكلب الماء، إلا ما لا دم فيه كالسرطان، فإنه يباح فيما روي عن أحمد بغير ذكاة، لأنه حيوان بحري يعيش في البر، ولا دم له سائل، خلافا لما له دم سائل كالطير، لا يباح بغير ذبح، والأصح لدى الحنابلة أن السرطان لا يحل إلا بالذكاة «١».
ولا يباح أكل الضفدع، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه النسائي: نهى عن قتله،
فيدل ذلك على تحريمه. ولا يباح أيضا أكل التمساح.
وذهب أبو حنيفة إلى تحريم الجنين الذي ذبحت أمه، وخرج ميتا، استنادا إلى أنه ميتة، وحرمت الآية الميتة، وخالفه صاحباه والشافعي وأحمد، وذهبوا إلى حله، لأنه مذكى بذكاة أمه. وقال مالك: إن تم خلقه ونبت شعره أكل، وإلا لم يؤكل. وحجة الجمهور:
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه»
أي أن ذكاة أمه تنسحب عليه. وتأول مؤيد وأبي حنيفة الحديث: بأن ذكاته كذكاة أمه.
وهذا تأويل بعيد، لأن الحديث ورد في سياق سؤال،
فقد ورد عن أبي سعيد الخدري أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الجنين يخرج ميتا، فقال: «إن شئتم فكلوه، إن ذكاته ذكاة أمه».
واختلف العلماء في الانتفاع بدهن الميتة في غير الأكل، كطلاء السفن ودبغ الجلود:
فقال الجمهور: يحرم، للآية، لأنهم يرون أن الفعل المقدر هو الانتفاع بأكل أو غيره،
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه جابر: «قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها، فنهاهم عن ذلك»
وهذا يفيد أن إطلاق تحريم الميتة يفيد تحريم بيعها.
وقال عطاء: يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن، وحجته أن الآية في تحريم الأكل، بدليل سابقها، ولأن حديث شاة ميمونة يعارض حديث جابر: وهو
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرّ على شاة ميمونة، فقال: «هلا أخذتم إهابها»
فيرجح، لأنه موافق لظاهر التنزيل القرآني.
وأما جلد الميتة: فلا يطهر بالدباغ في ظاهر مذهب المالكية، والمشهور عند الحنابلة،
لحديث عبد الله بن عكيم فيما رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربع) قال: «كتب إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب»
وهو ناسخ لما قبله من الأحاديث، لأنه في آخر عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولفظه دال على سبق الترخيص، وأنه متأخر عنه.
وذهب الحنفية والشافعية: إلى أن دباغ الجلود النجسة أو الميتة يطهرها كلها،
لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» ورواه النسائي والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس بلفظ: «أيما إهاب دبغ فقد طهر».
وأما أجزاء الميتة الصلبة التي لا دم فيها كالقرن والعظم والسن ومنه عاج الفيل والخف والحافر والظلف والشعر والصوف والعصب والإنفحة الصلبة: فهي طاهرة غير نجسة عند الجمهور، وقال الشافعية: أجزاء الميتة كلها نجسة، ومنها
الإنفحة واللبن والبيض المتصل بها، إلا إذا أخذ من الرضيع لأن كلا منها تحله الحياة. ودليل الجمهور
حديث سلمان رضي الله عنه فيما رواه ابن ماجه: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن السمن والجبن والفراء، فقال: «الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام: ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا الله».
وأما ما وقعت فيه فأرة: فإن أخرجت حية فهو طاهر، وإن ماتت فيه:
فإن كان مائعا فإنه ينجس جميعه، وإن كان جامدا فإنه ينجس ما جاورها، فتطرح وما حولها، وينتفع بما بقي وهو على طهارته، لما
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الفأرة تقع في السمن، فتموت، فقال: «إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها، وإن كان مائعا فأريقوه».
وإذا وقع في القدر حيوان: طائر أو غيره، فروى ابن وهب عن مالك أنه قال: لا يؤكل ما في القدر، وقد تنجس بمخالطة الميتة إياه. وروى ابن القاسم عنه أنه قال: يغسل اللحم ويراق المرق. وقال ابن عباس: يغسل اللحم ويؤكل.
أما الدم: فاتفق العلماء على أنه حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به، إذا كان مسفوحا، لتقييده بذلك الوصف في سورة الأنعام، وقد حمل العلماء هاهنا المطلق على المقيد إجماعا، ولم يحرموا منه إلا ما كان مسفوحا. قالت عائشة: لولا أن الله قال: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الأنعام ٦/ ١٤٥] لتتبع الناس ما في العروق. وعلى هذا ما خالط اللحم في العروق غير محرم إجماعا، وكذلك الكبد والطحال لا يحرم تناولهما إجماعا، من طريق تخصيص الدم المحرم- في رأي الحنفية والشافعية
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أحلت لنا ميتتان ودمان»
وذكر الكبد والطحال. ولا تخصيص في رأي مالك، لأن الكبد والطحال ليسا لحما ولا دما، بالعيان والعرف.
وأما الخنزير: فلحمه حرام، وكذا شحمه بالقياس على اللحم حرام أيضا،
لأن اللحم يشمل الشحم، وهو الصحيح. وقصر الظاهرية التحريم على اللحم، لا الشحم أخذا بمبدئهم في العمل بظاهر النص فقط، لأن الله قال: وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ. ويرد عليهم بأن الفائدة في ذكر اللحم أنه حيوان يذبح بقصد لحمه، ولا يعقل التفريق بين اللحم والشحم.
ويجوز الخرازة بشعر الخنزير،
فقد روي أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخرازة بشعر الخنزير، فقال: «لا بأس بذلك».
وأما ما أهل به لغير الله، أي ذكر عليه غير اسم الله تعالى، وهي ذبيحة المجوسي الذي يذبح للنار، والوثني الذي يذبح للوثن، والمعطّل الذي لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه، فحرام باتفاق العلماء.
وهل يشمل هذا ذبائح النصارى التي ذكروا اسم المسيح عليها، فتكون محرمة، أو لا يشملها فلا تكون محرمة، بل هو خاص بما ذكر عليه اسم الأصنام؟.
قال جمهور العلماء: هي حرام، وقال عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وأشهب من المالكية: ليست حراما، وسبب اختلافهم:
تعارض آيتي: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة ٥/ ٥] وهذه الآية. فرأى الجمهور: أن هذه الآية مخصصة لآية المائدة، والمعنى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، ما لم يذكر اسم غير الله عليه، فتحرم ذبيحة الكتابي إذا ذكر عليها اسم المسيح. ورأى الأقلون العكس، والمعنى: وما أهل به لغير الله إلا ما كان من أهل الكتاب، فتجوز ذبائح أهل الكتاب مطلقا.
أما من اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي كان أحوج إليها، فله التناول منها حتى يشبع في رأي مالك، لأن الضرورة ترفع التحريم، فتعود الميتة مثلا
مباحة، ويكون معنى «غير باغ ولا عاد» هو البغي والعدوان على الإمام، أي الخارج على المسلمين وقاطع الطريق.
ويأكل المضطر في رأي الجمهور على قدر سد الرمق، لأن الإباحة ضرورة فتقدر بقدر الضرورة. ومن حالات الضرورة: إساغة اللقمة بخمر، وتناولها لدفع العطش.
والمضطر في رأي الجمهور: هو من ألجأه الجوع إلى الأكل، وأضيف إليه عند بعضهم: من أكره على أكل الحرام، كالرجل يأخذه العدو، فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية الله تعالى.
ولم يجز جمهور العلماء التداوي بالحرام كالخمر والميتة،
لقوله عليه الصلاة والسلام- فيما رواه البخاري عن ابن مسعود-: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرّم عليهم»
ولقوله عليه السّلام فيما رواه مسلم لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر، فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء؟ فقال: «إنه ليس بدواء ولكنه داء»
قال ابن العربي: الصحيح أنه لا يتداوى بالميتة، لوجود عوض حلال عنها.
وللعلماء رأيان فيمن اقترن بضرورته معصية، بقطع طريق وإخافة سبيل، فقال مالك، والشافعي وأحمد: يحرم عليه إن كان السفر لمعصية، لأجل معصيته، لأن الله سبحانه أباح ذلك عونا، والعاصي لا يحل أن يعان، فإن أراد الأكل فليتب وليأكل. أما من عصى أثناء السفر، فتباح له الرخص الشرعية، وأباحها له أبو حنيفة مسويا في استباحته بين طاعته ومعصيته. ورجح القرطبي هذا القول، لأن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه، لقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء ٤/ ٢٩] وهذا عام، ولعله يتوب في ثاني حال، فتمحو التوبة عنه ما كان.