
وَالْأَنْفُسِ: بالموت والقتل، وَالثَّمَراتِ: بالعاهات ونزع البركة، فالمراد بشيء من هذا وشيء من هذا فاكتفى بالأول إيجازا ولذلك وحد، وقرأ الضحاك بأشياء على الجمع، والمعنى قريب بعضه من بعض، وقال بعض العلماء: إنما المراد في هذه الآية مؤن الجهاد وكلفه، فالخوف من العدو والجوع به وبالأسفار إليه ونقص الأموال بالنفقات فيه والأنفس بالقتل والثمرات بإصابة العدو لها أو بالغفلة عنها بسبب الجهاد.
ثم وصف تعالى الصابرين الذين بشرهم بقوله الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ الآية، وجعل هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب وعصمة للممتحنين لما جمعت من المعاني المباركة، وذلك توحيد الله والإقرار له بالعبودية والبعث من القبور واليقين بأن رجوع الأمر كله إليه كما هو له، وقال سعيد بن جبير: لم يعط هذه الكلمات نبي قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب لما قال يا أسفا على يوسف.
وروي أن مصباح رسول الله ﷺ انطفأ ذات ليلة فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، فقيل: أمصيبة هي يا رسول الله؟، فقال: «نعم كل ما آذى المؤمن فهي مصيبة».
وقوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ الآية، نعم من الله على الصابرين المسترجعين، وصلوات الله على عبده: عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة، وكرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيدا، وهي من أعظم أجزاء الصلاة منه تعالى، وشهد لهم بالاهتداء.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قرأ هذه الآية: «نعم العدلان ونعم العلاوة» أراد بالعدلين الصلاة والرحمة وبالعلاوة الاهتداء.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٨ الى ١٦٠]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)
الصَّفا وَالْمَرْوَةَ: جبيلان بمكة، والصَّفا جمع صفاة، وقيل: هو اسم مفرد جمعه صفى وأصفاء، وهي الصخرة العظيمة، قال الراجز: [الرجز] مواقع الطّير على الصّفى وقيل: من شروط الصفا البياض والصلابة، والْمَرْوَةَ واحدة المرو، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين، ومنه قول الذي أصاب شاته الموت من الصحابة «فذكيتها بمروة»، ومنه قيل الأمين: «اخرجني إلى أخي فإن قتلني فمروة كسرت مروة، وصمصامة قطعت صمصامة»، وقد قيل في المرو: إنها الصلاب.
قال الشاعر: [الوافر]

وتولّى الأرض خفّا ذابلا | فإذا ما صادف المرو رضخ |
حتى كأني للحوادث مروة | بصفا المشقر كل يوم تقرع |
وقال الشعبي: «كان على الصفا صنم يدعى إسافا، وعلى المروة صنم يدعى نائلة»، فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث وقدم المذكر، ومِنْ شَعائِرِ اللَّهِ معناه من معالمه ومواضع عبادته، وهي جمع شعيرة أو شعارة، وقال مجاهد: ذلك راجع إلى القول، أي مما أشعركم الله بفضله، مأخوذ من تشعرت إذا تحسست، وشعرت مأخوذ من الشعار وهو ما يلي الجسد من الثياب، والشعار مأخوذ من الشعر، ومن هذه اللفظة هو الشاعر، وحَجَّ معناه قصد وتكرر، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
وأشهد من عوف حلولا كثيرة | يحجّون سبّ الزّبرقان المزعفرا |
وقرأ أبو السمال «أن يطاف» وأصله يطتوف تحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا فجاء يطتاف أدغمت التاء بعد الإسكان في الطاء على مذهب من أجاز إدغام الثاني في الأول، كما جاء في مدكر، ومن لم يجز ذلك قال قلبت التاء طاء ثم أدغمت الطاء في الطاء، وفي هذا نظر لأن الأصلي أدغم في الزائد وذلك ضعيف.
وروي عن ابن عباس وأنس بن مالك وشهر بن حوشب أنهم قرؤوا «أن لا يتطوف»، وكذلك في مصحف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب «أن لا يطوف»، وقيل: «أن لا يطوف» بضم الطاء وسكون الواو.
وقوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ خبر يقتضي الأمر بما عهد من الطواف بهما.
وقوله فَلا جُناحَ ليس المقصد منه إباحة الطواف لمن شاء، لأن ذلك بعد الأمر لا يستقيم، وإنما المقصد منه رفع ما وقع في نفوس قوم من العرب من أن الطواف بينهما فيه حرج، وإعلامهم أن ما وقع في نفوسهم غير صواب، واختلف في كيفية ذلك فروي أن الجن كانت تعرف وتطوف بينهما في الجاهلية صفحة رقم 229

فكانت طائفة من تهامة لا تطوف بينهما في الجاهلية لذلك، فلما جاء الإسلام تحرجوا من الطواف.
وروي عن عائشة رضي الله عنها أن ذلك في الأنصار وذلك أنهم كانوا يهلون لمناة التي كانت بالمشلل حذو قديد ويعظمونها فكانوا لا يطوفون بين إساف ونائلة إجلالا لتلك، فلما جاء الإسلام تحرجوا فنزلت هذه الآية، وروي عن الشعبي أن العرب التي كانت تطوف هنالك كانت تعتقد ذلك السعي إجلالا لإساف ونائلة، وكان الساعي يتمسح بإساف فإذا بلغ المروة تمسح بنائلة وكذلك حتى تتم أشواطه، فلما جاء الإسلام كرهوا السعي هنالك إذ كان بسبب الصنمين.
واختلف العلماء في السعى بين الصفا والمروة فمذهب مالك والشافعي أن ذلك فرض ركن من أركان الحج لا يجزي تاركه أو ناسيه إلا العودة، ومذهب الثوري وأصحاب الرأي أن الدم يجزىء تاركه وإن عاد فحسن، فهو عندهم ندب، وروي عن أبي حنيفة: إن ترك أكثر من ثلاثة أشواط فعليه دم، وإن ترك ثلاثة فأقل فعليه لكل شوط إطعام مسكين، وقال عطاء ليس على تاركه شيء لا دم ولا غيره، واحتج عطاء بما في مصحف ابن مسعود «أن لا يطوف بهما» وهي قراءة خالفت مصاحف الإسلام، وقد أنكرتها عائشة رضي الله عنها في قولها لعروة حين قال لها «أرأيت قول الله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما؟ فما نرى على أحد شيئا ألا يطوف بهما» قالت: «يا عروة كلا لو كان ذلك لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وأيضا فإن ما في مصحف ابن مسعود يرجع إلى معنى أن يطوف وتكون «لا» زائدة صلة في الكلام، كقوله ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: ١٢]، وكقول الشاعر: [البسيط]
ما كان يرضى رسول الله فعلهم | والطّيبان أبو بكر ولا عمر |