
فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ فَسَمَّى ذَلِكَ التَّزَايُدَ مَدَدًا وَأَسْنَدَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ فِعْلِهِ بِهِمْ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَنْعِ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ كَمَا قِيلَ: إِنَّ السَّفِيهَ إِذَا لَمْ يُنْهَ فَهُوَ مَأْمُورٌ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُسْنَدَ فِعْلُ الشَّيْطَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ بِتَمْكِينِهِ وَإِقْدَارِهِ وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِغْوَاءِ عِبَادِهِ. وَرَابِعًا: مَا قَالَهُ الْجُبَّائِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ وَيَمُدُّهُمْ أَيْ يَمُدُّ عُمْرَهُمْ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لِمَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ تَفْسِيرُ وَيَمُدُّهُمْ بِالْمَدِّ فِي الْعُمْرِ: الثَّانِي: هَبْ أَنَّهُ يَصِحُّ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى يَمُدُّ عُمْرَهُمْ لِغَرَضِ أَنْ يَكُونُوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْإِشْكَالَ أَجَابَ الْقَاضِي عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يَمُدُّ عُمْرَهُمْ لِغَرَضِ أَنْ يَكُونُوا فِي الطُّغْيَانِ، بَلِ الْمُرَادُ، أَنَّهُ تَعَالَى يُبْقِيهِمْ وَيَلْطُفُ بِهِمْ فِي الطَّاعَةِ فَيَأْبَوْنَ إِلَّا أَنْ يَعْمَهُوا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الطُّغْيَانَ هُوَ الْغُلُوُّ فِي الْكُفْرِ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعُتُوِّ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الْحَاقَّةِ: ١١] أَيْ جَاوَزَ قَدْرَهُ، وَقَالَ: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: ٢٤] أَيْ أَسْرَفَ وَتَجَاوَزَ الْحَدَّ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ فِي طِغْيَانِهِمْ بِالْكَسْرِ وَهُمَا لُغَتَانِ كَلُقْيَانٍ وَلِقْيَانٍ، وَالْعَمَهُ مِثْلُ الْعَمَى إِلَّا أَنَّ الْعَمَى عَامٌّ فِي الْبَصَرِ وَالرَّأْيِ وَالْعَمَهَ فِي الرَّأْيِ خَاصَّةً، وَهُوَ التَّرَدُّدُ وَالتَّحَيُّرُ لَا يَدْرِي أين يتوجه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
وَاعْلَمْ أَنَّ اشْتِرَاءَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى اخْتِيَارُهَا عَلَيْهِ وَاسْتِبْدَالُهَا بِهِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَمَا كَانُوا عَلَى هُدًى قُلْنَا جُعِلُوا لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْهُ كَأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمْ فَإِذَا تَرَكُوهُ وَمَالُوا إِلَى الضَّلَالَةِ فَقَدِ اسْتَبْدَلُوهَا بِهِ، وَالضَّلَالَةُ الْجَوْرُ وَالْخُرُوجُ عَنِ الْقَصْدِ وَفَقْدُ الِاهْتِدَاءِ، فَاسْتُعِيرَ لِلذَّهَابِ عَنِ الصَّوَابِ فِي الدِّينِ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتِهِمْ، وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ أُسْنِدَ الْخُسْرَانُ إِلَى التِّجَارَةِ وَهُوَ لِأَصْحَابِهَا؟ الْجَوَابُ: هُوَ مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ أَنْ يُسْنَدَ الْفِعْلُ إِلَى شَيْءٍ يَتَلَبَّسُ بِالَّذِي هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُ كَمَا تَلَبَّسَتِ التِّجَارَةُ بِالْمُشْتَرِي. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَبْ أَنَّ شِرَاءَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَقَعَ مَجَازًا فِي مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ فَمَا مَعْنَى ذِكْرِ الرِّبْحِ وَالتِّجَارَةِ وَمَا كَانَ ثَمَّ مُبَايَعَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْجَوَابُ: هَذَا مِمَّا يُقَوِّي أَمْرَ الْمَجَازِ وَيُحَسِّنُهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَمَّا رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنَ دَأْيَةٍ | وَعَشَّشَ فِي وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْرِي |
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صفحة رقم 311

اعْلَمْ أَنَّا قَبْلَ الْخَوْضِ فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ نَتَكَلَّمُ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ مَا لَا يُؤَثِّرُهُ وَصْفُ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْمَثَلِ تَشْبِيهُ الْخَفِيِّ بِالْجَلِيِّ، وَالْغَائِبِ بِالشَّاهِدِ، فَيَتَأَكَّدُ الْوُقُوفُ عَلَى مَاهِيَّتِهِ، وَيَصِيرُ الْحِسُّ مُطَابِقًا لِلْعَقْلِ وَذَلِكَ فِي نِهَايَةِ الْإِيضَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّرْغِيبَ إِذَا وَقَعَ فِي الْإِيمَانِ مُجَرَّدًا عَنْ ضَرْبِ مَثَلٍ لَهُ/ لَمْ يَتَأَكَّدْ وُقُوعُهُ فِي الْقَلْبِ كَمَا يَتَأَكَّدُ وُقُوعُهُ إِذَا مُثِّلَ بِالنُّورِ، وَإِذَا زَهِدَ فِي الْكُفْرِ بِمُجَرَّدِ الذِّكْرِ لَمْ يَتَأَكَّدْ قُبْحُهُ فِي الْعُقُولِ كَمَا يَتَأَكَّدُ إِذَا مُثِّلَ بِالظُّلْمَةِ، وَإِذَا أَخْبَرَ بِضَعْفِ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ وَضَرَبَ مَثَلَهُ بِنَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تَقْرِيرِ صُورَتِهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِضَعْفِهِ مُجَرَّدًا، وَلِهَذَا أَكْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ وَفِي سَائِرِ كُتُبِهِ أَمْثَالَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ [العنكبوت: ٤٣، الحشر: ٢١] وَمِنْ سُوَرِ الْإِنْجِيلِ سُورَةُ الْأَمْثَالِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: - الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَثَلُ فِي أَصْلِ كَلَامِهِمْ بِمَعْنَى الْمِثْلِ وَهُوَ النَّظِيرُ، وَيُقَالُ مَثَلٌ وَمِثْلٌ وَمَثِيلٌ كَشَبَهٍ وَشِبْهٍ وَشَبِيهٍ، ثُمَّ قِيلَ لِلْقَوْلِ الثائر الممثل مضر به بِمَوْرِدِهِ: مَثَلٌ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا فِيهِ غَرَابَةٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَقِيقَةَ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ عَقَّبَهَا بِضَرْبِ مَثَلَيْنِ زِيَادَةً فِي الْكَشْفِ وَالْبَيَانِ.
أَحَدُهُمَا: هَذَا الْمَثَلُ وَفِيهِ إِشْكَالَاتٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ التَّمْثِيلِ بِمَنْ أُعْطِيَ نُورًا ثُمَّ سُلِبَ ذَلِكَ النُّورُ مِنْهُ مَعَ أَنَّ الْمُنَافِقَ لَيْسَ لَهُ نُورٌ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَأَضَاءَتْ قَلِيلًا فَقَدِ انْتَفَعَ بِهَا وَبِنُورِهَا ثُمَّ حُرِمَ، فَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَلَا انْتِفَاعَ لَهُمْ أَلْبَتَّةَ بِالْإِيمَانِ فَمَا وَجْهُ التَّمْثِيلِ؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُسْتَوْقِدَ النَّارِ قَدِ اكْتَسَبَ لِنَفْسِهِ النُّورَ، وَاللَّهُ تَعَالَى ذَهَبَ بِنُورِهِ وَتَرَكَهُ فِي الظُّلُمَاتِ، وَالْمُنَافِقُ لَمْ يَكْتَسِبْ خَيْرًا وَمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْخَيْبَةِ وَالْحَيْرَةِ فَقَدْ أَتَى فِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، فَمَا وَجْهُ التَّشْبِيهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّشْبِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ نَاسًا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ عِنْدَ وُصُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْمَدِينَةِ ثم إنهم نافقوا، والتشبيه هاهنا فِي نِهَايَةِ الصِّحَّةِ لِأَنَّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ أَوَّلًا اكْتَسَبُوا نُورًا ثُمَّ بِنِفَاقِهِمْ ثَانِيًا أَبْطَلُوا ذَلِكَ النُّورَ وَوَقَعُوا فِي حَيْرَةٍ عَظِيمَةٍ فَإِنَّهُ لَا حَيْرَةَ أَعْظَمُ مِنْ حَيْرَةِ الدِّينِ لِأَنَّ الْمُتَحَيِّرَ فِي طَرِيقِهِ لِأَجْلِ الظُّلْمَةِ لَا يَخْسَرُ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُتَحَيِّرُ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ يَخْسَرُ نَفْسَهُ فِي الْآخِرَةِ أَبَدَ الْآبِدِينَ. وَثَانِيهَا: إِنْ لَمْ يَصِحَّ مَا قَالَهُ السُّدِّيُّ بَلْ كَانُوا مُنَافِقِينَ أَبَدًا مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِمْ فَهَهُنَا تَأْوِيلٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فَقَدْ ظَفِرُوا بِحَقْنِ دِمَائِهِمْ وَسَلَامَةِ أَمْوَالِهِمْ عَنِ الْغَنِيمَةِ وَأَوْلَادِهِمْ عَنِ السَّبْيِ وَظَفِرُوا بِغَنَائِمِ الْجِهَادِ وَسَائِرِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُدَّ ذَلِكَ نُورًا مِنْ أَنْوَارِ الْإِيمَانِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْعَذَابِ الدَّائِمِ قَلِيلًا قدرت شبههم بمستوقد النار الذي انتقع بِضَوْئِهَا قَلِيلًا ثُمَّ سُلِبَ ذَلِكَ فَدَامَتْ حَيْرَتُهُ وَحَسْرَتُهُ لِلظُّلْمَةِ الَّتِي جَاءَتْهُ فِي أَعْقَابِ النُّورِ، فَكَانَ يَسِيرُ انْتِفَاعُهُمْ فِي الدُّنْيَا يُشْبِهُ النُّورَ وَعَظِيمُ ضَرَرِهِمْ فِي الْآخِرَةِ يُشْبِهُ الظُّلْمَةَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ نَقُولَ لَيْسَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ لِلْمُنَافِقِ نُورًا، بَلْ وَجْهُ التَّشْبِيهِ بِهَذَا الْمُسْتَوْقِدِ أَنَّهُ لَمَّا زَالَ النُّورُ عَنْهُ تَحَيَّرَ، وَالتَّحَيُّرُ فِيمَنْ كَانَ فِي نُورٍ ثُمَّ زَالَ عَنْهُ أَشَدُّ مِنْ تَحَيُّرِ سَالِكِ الطَّرِيقِ فِي ظُلْمَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ، لَكِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ النُّورَ فِي مُسْتَوْقِدِ النَّارِ لِكَيْ يَصِحَّ أَنْ يُوصَفَ بِهَذِهِ الظُّلْمَةِ الشَّدِيدَةِ، لَا أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ مَجْمَعُ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الَّذِي أَظْهَرُوهُ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ النُّورِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، وَذَهَابُ النُّورِ هُوَ مَا يُظْهِرُهُ لِأَصْحَابِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا قَالَ إِنَّ الْمَثَلَ إِنَّمَا عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ فَالنَّارُ مَثَلٌ لِقَوْلِهِمْ: «آمَنَّا» وَذَهَابُهُ مَثَلٌ لِقَوْلِهِمْ لِلْكُفَّارِ: «إِنَّا مَعَكُمْ» فَإِنْ قِيلَ وَكَيْفَ صَارَ مَا يُظْهِرُهُ الْمُنَافِقُ مِنْ كَلِمَةِ الْإِيمَانِ مَثَلًا بِالنُّورِ وَهُوَ حِينَ تَكَلَّمَ

بِهَا أَضْمَرَ خِلَافَهَا؟ قُلْنَا إِنَّهُ لَوْ ضَمَّ إِلَى الْقَوْلِ اعْتِقَادًا لَهُ وَعَمَلًا بِهِ لَأَتَمَّ النُّورَ لِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَتِمَّ نُورُهُ، وَإِنَّمَا سَمَّى مُجَرَّدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ نُورًا لِأَنَّهُ قَوْلٌ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ. وَخَامِسُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِيقَادُ النَّارِ عِبَارَةً عَنْ إِظْهَارِ الْمُنَافِقِ كَلِمَةَ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ نُورًا لِأَنَّهُ يَتَزَيَّنُ بِهِ ظَاهِرُهُ فِيهِمْ وَيَصِيرُ مَمْدُوحًا بِسَبَبِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُذْهِبُ ذَلِكَ النُّورَ بِهَتْكِ سِتْرِ الْمُنَافِقِ بِتَعْرِيفِ نَبِيِّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ فَيَظْهَرُ لَهُ اسْمُ النافق بَدَلَ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ مِنَ اسْمِ الْإِيمَانِ فَبَقِيَ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُ، إِذِ النُّورُ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلُ قَدْ كَشَفَ اللَّهُ أَمْرَهُ فَزَالَ.
وَسَادِسُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا وُصِفُوا بِأَنَّهُمُ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى عَقَّبَ ذَلِكَ بِهَذَا التَّمْثِيلِ لِيُمَثِّلَ هُدَاهُمُ الَّذِي بَاعُوهُ بِالنَّارِ الْمُضِيئَةِ مَا حَوْلَ الْمُسْتَوْقِدِ، وَالضَّلَالَةَ الَّتِي اشْتَرَوْهَا وَطُبِعَ بِهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ بِذَهَابِ اللَّهِ بِنُورِهِمْ وَتَرْكِهِ إِيَّاهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ. وَسَابِعُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَوْقِدُ هاهنا مُسْتَوْقِدَ نَارٍ لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَالْغَرَضُ تَشْبِيهُ الْفِتْنَةِ الَّتِي حَاوَلَ الْمُنَافِقُونَ إِثَارَتَهَا بِهَذِهِ النَّارِ، فَإِنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي كَانُوا يُثِيرُونَهَا كَانَتْ قَلِيلَةَ الْبَقَاءِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [الْمَائِدَةِ: ٦٤] وَثَامِنُهَا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَانْتِظَارِهِمْ لِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِفْتَاحِهِمْ بِهِ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَلَمَّا خَرَجَ كَفَرُوا بِهِ فَكَانَ انْتِظَارُهُمْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَإِيقَادِ النَّارِ، وَكُفْرُهُمْ بِهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ كَزَوَالِ ذَلِكَ النُّورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَأَمَّا تَشْبِيهُ الْإِيمَانِ بِالنُّورِ وَالْكُفْرِ بِالظُّلْمَةِ فَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرٌ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ النُّورَ قَدْ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي كَوْنِهِ هَادِيًا إِلَى الْمَحَجَّةِ وَإِلَى طَرِيقِ الْمَنْفَعَةِ وَإِزَالَةِ الْحَيْرَةِ وَهَذَا حَالُ الْإِيمَانِ فِي بَابِ الدِّينِ، فَشَبَّهَ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي إِزَالَةِ الْحَيْرَةِ وَوِجْدَانِ الْمَنْفَعَةِ فِي بَابِ الدِّينِ بِمَا هُوَ الْغَايَةُ فِي بَابِ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَشْبِيهِ الْكُفْرِ بِالظُّلْمَةِ، لِأَنَّ الضَّالَّ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُحْتَاجِ إِلَى سُلُوكِهِ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ الْحِرْمَانِ وَالتَّحَيُّرِ أَعْظَمُ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَلَا شَيْءَ كَذَلِكَ فِي بَابِ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنَ الْكُفْرِ، فَشَبَّهَ تَعَالَى أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ مِنْ هذه الآية، بقيت هاهنا أَسْئِلَةٌ وَأَجْوِبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالتَّعَلُّقِ بِالتَّفَاصِيلِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا يَقْتَضِي تَشْبِيهَ مَثَلِهِمْ بِمَثَلِ الْمُسْتَوْقِدِ، فَمَا مَثَلُ الْمُنَافِقِينَ وَمَثَلُ الْمُسْتَوْقِدِ حَتَّى شَبَّهَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ؟ وَالْجَوَابُ: اسْتُعِيرَ الْمَثَلُ لِلْقِصَّةِ أَوْ لِلصِّفَةِ إِذَا كَانَ لَهَا شَأْنٌ وَفِيهَا غَرَابَةٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ قِصَّتُهُمُ الْعَجِيبَةُ كَقِصَّةِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا، وَكَذَا قَوْلُهُ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرَّعْدِ: ٣٥] أَيْ فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنَ الْعَجَائِبِ قِصَّةُ الْجَنَّةِ الْعَجِيبَةِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النَّحْلِ: ٦٠] أَيِ الْوَصْفُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ [الْفَتْحِ: ٢٩] أَيْ وَصْفُهُمْ وَشَأْنُهُمُ الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ وَلِمَا فِي الْمَثَلِ مِنْ مَعْنَى الْغَرَابَةِ قَالُوا: فُلَانٌ مَثَلُهُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَاشْتَقُّوا/ مِنْهُ صِفَةً لِلْعَجِيبِ الشَّأْنِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ مُثِّلَتِ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ وَضْعُ «الَّذِي» مَوْضِعَ «الَّذِينَ» كَقَوْلِهِ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التَّوْبَةِ: ٦٩] وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ «الَّذِي» لِكَوْنِهِ وَصْلَةً إِلَى وَصْفِ كُلِّ مَعْرِفَةٍ مُجْمَلَةٍ وَكَثْرَةِ وُقُوعِهِ فِي كَلَامِهِمْ، وَلِكَوْنِهِ مُسْتَطَالًا بِصِلَتِهِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَلِذَلِكَ أَعَلُّوهُ بِالْحَذْفِ فَحَذَفُوا يَاءَهُ ثُمَّ كَسَرْتَهُ ثُمَّ اقْتَصَرُوا فِيهِ عَلَى اللَّامِ وَحْدَهَا فِي أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ وَالْمَفْعُولِينَ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جِنْسَ الْمُسْتَوْقِدِينَ أَوْ أُرِيدَ الْجَمْعُ أَوِ الْفَوْجُ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَذَوَاتِهِمْ لَمْ يُشَبَّهُوا بِذَاتِ الْمُسْتَوْقِدِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ تَشْبِيهُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ وَإِنَّمَا شُبِّهَتْ قِصَّتُهُمْ بِقِصَّةِ الْمُسْتَوْقِدِ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ [الْجُمُعَةِ: ٥] وَقَوْلُهُ: يَنْظُرُونَ