عن أبيه، عن الربيع في قوله:"أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمة"، يقول: الصلوات والرحمة على الذين صبروا واسترجعوا.
٢٣٣١- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان العُصفُريّ، عن سعيد بن جبير قال: مَا أعطِيَ أحدٌ ما أعطيت هذه الأمة:"الذينَ إذا أصابتهم مصيبه قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صَلواتٌ من رَبهم وَرحمة"، ولو أعطيها أحدٌ لأعطيها يعقوب عليه السلام، ألم تسمعْ إلى قوله: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) [سورة يوسف: ٨٤]. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر:"والصفا" جمع"صَفاة"، وهي الصخرة الملساء، ومنه قول الطرمَّاح:
أَبَى لِي ذُو القُوَى وَالطَّوْلِ ألا | يُؤَبِّسَ حَافِرٌ أَبَدًا صَفَاتِي (٢) |
(٢) ديوانه: ١٣٤، وكان في المطبوعة: "يونس حافر أبدي"، وهو خطأ، والطول: القدرة والغنى. وهو ذو الطول والقوة، هو الله سبحانه. وأبس الشيء يؤبسه: ذلله ولينه، أو كسره، ومثله قول عباس بن مرداس:
إنْ تَكُ جُلْمُودَ صَخْرٍ لاَ أُؤَبِّسُهُ | أُوقِدْ عَلَيْهِ، فأْحمِيهِ، فينصَدِعُ |
السَّلْمُ تأخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِه | وَالحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ |
كأنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ | مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ (٢) |
* * *
وأما"المروة"، فإنها الحصاةُ الصغيرة، (٤) يجمع قليلها"مَرَوات"، وكثيرها"المرْو"، مثل"تمرة وتمَرات وتمر"، قال الأعشى ميمون بن قيس:
(٢) سيأتي في التفسير ٦: ١٤٢ والجمهرة ٣: ١٣٥، والمخصص ١٠: ٩٠، ومجالس ثعلب: ٢٤٩، والحيوان ٢: ٣٣٩، والقالي ٢: ٨، واللسان (صفا) و (نفا) وكلهم رواه"متنيه" إلا ابن دريد فإنه أنشده:
كأنّ مَتْنَيَّ من النَّفِيِّ | مِنْ طُولِ إشْرَافِي على الطّوِيِّ |
(٣) الزيادة بين الأقواس لا بد منها، ليستقيم تمثيل المتمثل بهذه الجموع، على نظيرها. وهو قوله آنفًا: صفا وأصفاء وصفى وصفى.
(٤) بيان الطبري عن معنى"المرو" ليس بجيد، والأجود ما قاله أصحاب اللغة: المرو، حجارة بيض براقة، تكون فيها النار، وتقدح منها النار، ويتخذ أداة كالسكين يذبح بها، وهي صلبة.
وَتَرَى بالأرْضِ خُفًّا زائِلا | فَإِذَا مَا صَادَفَ المَرْوَ رَضَح (١) |
حَتَّى كأنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ | بِصَفَا المُشَرِّقِ كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ (٢) |
* * *
وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله:"إنّ الصفا والمروة"، في هذا الموضع: الجبلين المسمَّيَين بهذين الاسمين اللذين في حَرَمه، دون سائر الصفا والمرو. ولذلك أدخل فيهما"الألف واللام"، ليعلم عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين، دون سائر الأصفاء والمرْوِ.
* * *
وأما قوله:"منْ شَعائر الله"، فإنه يعني: من معالم الله التي جعلها تعالى ذكره لعباده مَعلمًا ومَشعَرًا يعبدونه عندها، إما بالدعاء، وإما بالذكر، وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها. ومنه قول الكميت:
نُقَتِّلُهُمْ جِيَلا فَجِيلا تَرَاهُمُ | شَعَائِرَ قُرْبَانٍ بِهِمْ يُتَقَرَّبُ (٣) |
وهو يصف ناقته وشدتها ونشاطها، والخف المجمر: هو الوقاح الصلب الشديد المجتمع، نكبته الحجارة فصلب. رضح الحصا والنوى رضحًا: دقه فكسره. يعني من شدة الخف وصلابته، وذلك محمود في الإبل.
(٢) ديوانه: ٣، والمفضليات: ٥٨٧، من قصيدة البارعة في رثاء أولاده، يقول عن المصائب المتتابعة تركته كهذه الصخرة التي وصف. والمشرق: المصلي بمنى. قال ابن الأنباري: "وإنما خص المشرق، لكثرة مرور الناس به". ثم قال: "ورواها أبو عبيدة: "المشقر": يعني سوق الطائف. يقول: كأني مروة في السوق يمر الناس بها، يقرعها واحد بعد واحد".
(٣) الهاشميات: ٢١، واللسان (شعر)، وغيرهما. والضمير في قوله: "نقتلهم"، إلى الخوارج الذين عدد أسماءهم في بيتين قبل:
عَلاَمَ إذًا زُرْنَا الزُّبَيْر وَنَافِعًا | بغارتنا، بَعْدَ المقَانِبِ مِقْنَبُ |
وَشَاطَ عَلَى أَرْمَاحِنَا بِادِّعَائِهَا | وَتَحْوِيلهَا عَنْكُمْ شَبِيبٌ وقَعْنَبُ |
وكان مجاهد يقول في الشعائر بما:-
٢٣٣٢- حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله" قال، من الخبر الذي أخبركم عنه. (١)
٢٣٣٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
فكأن مجاهدًا كان يرى أن الشعائر، إنما هو جمع"شعيرة"، من إشعار الله عباده أمرَ الصفا والمروة، وما عليهم في الطواف بهما. فمعناه: إعلامُهم ذلك.
وذلك تأويل من المفهوم بعيد. وإنما أعلم الله تعالى ذكره بقوله:"إن الصفا والمروة مِنْ شعائر الله" عبادَه المؤمنين أن السعي بينهما من مَشاعر الحج التي سنَّها لهم، وأمرَ بها خليله إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم، إذ سَأله أن يُريه مناسك الحج. وذلك وإن كان مَخرجُه مَخرجَ الخبر، فإنه مرادٌ به الأمر. لأن الله تعالى ذكره قد أمر نبيه محمدًا ﷺ باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، فقال له: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) [سورة النحل: ١٢٣]، وجعل تعالى ذكره إبراهيمَ إمامًا لمنْ بَعده. فإذْ كان صحيحًا أن الطوافَ والسعيَ بين الصفا والمروة من شعائر الله ومن مَناسك الحج، فمعلوم أن إبراهيم صلى الله
عليه وسلم قد عَمل به وسنه لمن بعده، وقد أُمرَ نبينا ﷺ وأمته باتباعه، فعليهم العمل بذلك، على ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"فمن حج البيت"، فمن أتاه عائدًا إليه بَعدَ بدء. وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو"حَاجٌّ إليه"، ومنه قول الشاعر: (١)
لأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولا كثِيرَةً | يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا (٢) |
(٢) المعاني الكبير: ٤٧٨، والاشتقاق لابن دريد: ٧٧، ١٥٦، وتهذيب الألفاظ: ٥٦٣، وإصلاح المنطق: ٤١١، والبيان والتبيين ٣: ٩٧، وشرح أدب الكاتب للجواليقي: ٣١٣، وللبطليوسي: ٤٠٥، واللسان (سبب) (حجج)، (قهر) (زبرق)، والجمرة لابن دريد: ١: ٣١، ٤٩/٣: ٤٣٤، وسمط اللآلي: ١٩١، والخزانة ٣: ٤٢٧. وفي المطبوعة: "بيت الزبرقان" والصواب ما أثبت.
وقد ذهب الطبري في تفسير البيت، كما ذهب ابن دريد وابن قتيبة والجاحظ وغيرهم إلى أن"السب" هاهنا العمامة، وأن سادات العرب كانوا يصبغون عمائمهم بالزعفران، ومنهم حصين بن بدر، وهو الزبرقان، وسمي بذلك لصفرة عمامته وسيادته. وذهب أبو عبيدة وقطرب إلى أنه"السب" هنا هي الاست، وكان مقروفًا، وزعموا أن قول قطرب قول شاذ، والصواب عندي أن أبا عبيدة وقطرب قد أصابا، وأنهم أخطأوا في ردهم ما قالا. فقد كان المخبل بذيء اللسان، حتى نسب إلى رسول الله ﷺ أنه قال: "إنما هو عذاب يصبه الله على من يشاء من عباده" (النقائض: ١٠٤٨) قال أبو عبيدة في النقائض: "كان المخبل القريعي أهجى العرب... ثم كان بعده حسان بن ثابت، ثم الحطيئة، والفرزدق، وجرير، والأخطل. هؤلاء الستة الغاية في الهجاء وغيره، ولم يكن في الجاهلية ولا في الإسلام لهم نظير". هذا وقد كان من أمر المخبل والزبرقان بن بدر ما كان في ضيافة الحطيئة (انظر طبقات فحول الشعراء: ٩٦-١٠٠)، وهجاؤه له، ثم ما استشرى من هجاء المخبل له، لما خطب إليه أخته خليدة، فأبى الزبرقان أن يزوجها له، وذمه. فهجاء وهجا أخته مقذعًا، وحط منه حتى قال له:
يَا زِبْرِقَانُ أخَابَنِي خَلَفٍ | مَا أنْتَ وَيبَ أبِيكَ والفَخْرُ |
مَا أنْتَ إلاّ فِي بَنِي خَلَفٍ | كالإسْكَتَينِ عَلاَهُمَا البَظْرُ |
أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ عَمْرَةَ أنَّنِي | تَخَاطَأَنِي رَيْبُ الزَّمَانِ لأَكْبَرَا |
لأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولاً كثيرةً | يَحُجُّونَ سِبَّ الزبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا |
تَمَنَّى حُصَيْنٌ أن يَسُودَ جِذَاعَهُ | فأَمْسَى حُصَيْنٌ قد أُذِلَّ وأُقْهِرَا |
وقوله: "وأشهد" منصوب، عطفًا على قوله: "لأكبرا".
يعني بقوله:"يحجون"، يكثرون التردد إليه لسُودده ورياسته. وإنما قيل للحاج"حاجّ"، لأنه يَأتي البيت قَبل التعريف، ثم يعود إليه لطَواف يوم النحر بعد التعريف، ثم ينصرف عنه إلى منى، ثم يعود إليه لطوَاف الصَّدرَ. (١) فلتكراره العودَ إليه مرّة بعد أخرى قيل له:"حاجٌّ".
* * *
وأما"المعتمر"، فإنما قيل له:"معتمر"، لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه. وإنما يعني تعالى ذكره بقوله:"أو اعتمر"، أو اعتمرَ البيت، ويعني ب"الاعتمار" الزيارة. فكل قاصد لشيء فهو له"معتمر"، ومنه قول العجاج:
لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرْ | غْزًى بَعِيدًا من بَعِيدٍ وَضَبَرْ (٢) |
* * *
(٢) ديوانه: ١٩ من قصيدة مدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي، مضى منها في ١: ١٩٠، ٢: ١٥٧. وقوله"مغزى"، أي غزوًا. وضبر: جمع قوائمه ليثب ثم وثب. وهو يصف بعده جيش عمر بن عبيد الله، وكان فتح الفتوح الكثيرة، وعظم أمره في قتال الخوارج.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما"، يقول: فلا حَرَج عليه ولا مَأثم في طَوَافه بهما.
* * *
فإن قال قائل: وما وجه هذا الكلام، وقد قلت لنا، إن قوله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله"، وإن كان ظاهرهُ ظاهرَ الخبر، فإنه في معنى الأمر بالطواف بهما؟ فكيف يكون أمرًا بالطواف، ثم يقال: لا جُناح على من حج البيت أو اعتمر في الطواف بهما؟ وإنما يوضع الجُناح عمن أتى ما عليه بإتيانه الجناحُ والحرجُ؟ والأمر بالطواف بهما، والترخيصُ في الطواف بهما، غيرُ جائز اجتماعهما في حال واحدة؟
قيل: إنّ ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ. (١) وإنما معنى ذلك عند أقوام: أنّ النبي ﷺ لما اعتمر عُمرة القضيَّة، تخوَّف أقوامٌ كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيمًا منهم لهما، فقالوا: وكيف نَطوف بهما، وقد علمنا أنَّ تَعظيم الأصنام وجميع ما كان يُعبد من ذلك من دون الله، شركٌ؟ ففي طوَافنا بهذين الحجرين أحرَجُ ذلك، (٢) لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين كانا عليهما، وقد جاء الله بالإسلام اليومَ، ولا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له!
فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك من أمرهم:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله"،
(٢) في المطبوعة: "أحد ذلك"، ولا معنى له، وفيه تحريف لا شك فيه. فإنهم لم يذكروا متعددًا من الآثام حتى يجعلوا له"أحدًا". وإنما أرادوا: أكبر الإثم والشرك. و"ذلك"، إشارة إلى الشرك. ولو قرئت أيضًا: "أخوف ذلك" لكاتب صوابًا، لأنه سيذكر أنهم كانوا يتخوفون الطواف بهما. ويعني: أخوف الشرك.
يعني: إن الطوافَ بهما، فترك ذكر"الطواف بهما"، اكتفاء بذكرهما عنه. وإذْ كان معلومًا عند المخاطبين به أن معناه: من معالم الله التي جعلها علَمًا لعباده يعبدونه عندهما بالطواف بينهما، ويذكرونه عليهما وعندهما بما هو له أهل من الذكر،"فمن حَج البيتَ أو اعتمر" فلا يتخوَّفنَّ الطواف بهما، من أجل ما كانَ أهل الجاهلية يطوفون بهما من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما، فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرًا، وأنتم تَطوفون بهما إيمانًا، وتصديقًا لرسولي، وطاعةً لأمري، فلا جُناح عليكم في الطواف بهما.
* * *
و"الجناح"، الإثم، كما:-
٢٣٣٤- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما"، يقول: ليس عليه إثم، ولكن له أجر.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك تظاهرت الرواية عن السلف من الصحابة والتابعين.
ذكر الأخبار التي رويت بذلك:
٢٣٣٥- حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود، عن الشعبي: أن وَثَنًا كان في الجاهلية على الصفا يسمى"إسافًا"، (١) ووثنًا على المرْوة يسمى"نائلة"، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مَسحوا الوثَنين. فلما جاء الإسلام وكُسرت الأوثان، قال المسلمون: إنّ الصفا والمرْوة إنما كانَ يُطاف بهما من أجل الوَثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر! قال: فأنزل الله: إنهما من الشعائر،"فمن حَجّ البيتَ أو اعتمر فلا جُناحَ عليه أن يطوّف بهما".
٢٣٣٦- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر قال: كان صنم بالصفا يدعى"إسافًا"، (٢) ووثَن بالمروة يدعى"نائلة"،
(٢) في المطبوعة: "إساف"، والصواب ما أثبت، فهو غير ممنوع من الصرف.
ثم ذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب - وزاد فيه، قال: فذكِّر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه، وأنِّت المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثًا. (١)
٢٣٣٧- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، وذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب عن يزيد، وزاد فيه - قال: فجعله الله تطوُّعَ خير.
٢٣٣٨- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرني عاصم الأحول قال، قلت لأنس بن مالك: أكنتم تكرهون الطواف بين الصفا والمرْوة حَتى نزلت هذه الآية؟ فقال: نعم كنا نكره الطواف بَينهما لأنهما من شعائر الجاهلية، حتى نزلت هذه الآية:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله". (٢)
٢٣٣٩- حدثني علي بن سهل الرملي قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا سفيان، عن عاصم قال، سألت أنسًا عن الصفا والمروة، فقال: كانتا من مَشاعر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكوا عنهما، فنزلت:"إن الصفا والمرْوَة من شَعائر الله". (٣)
(٢) الحديث: ٢٣٣٨- يعقوب: هو ابن إبراهيم الدورقي. ابن أبي زائدة: هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة الهمداني الوادعي، وهو حافظ ثقة، يقرن بابن المبارك. يقولون: إنه أول من صنف الكتب بالكوفة، مات سنة ١٨٣. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٢٧٣-٢٧٤. والصغير، ص: ٢٠٦، وابن سعد: ٦: ٢٧٤، وابن أبي حاتم ٤/٢/١٤٤-١٤٥، وتذكرة الحفاظ ١: ٢٢٦-٢٤٧.
عاصم: هو ابن سليمان الأحول، مضى في: ١٨٤، وهو من صغار التابعين. وعده سفيان الثوري أحفظ ثلاثة في البصرة. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٧/٢/٢٠-٦٥، وابن أبي حاتم ٣/١/٣٤٣-٣٤٤.
والحديث رواه البخاري ٣: ٤٠٢ (فتح)، من طريق عبد الله، وهو ابن المبارك، عن عاصم الأحول، بنحوه. ورواه أيضًا مسلم، والترمذي، والنسائي. كما في القسطلاني ٣: ١٥٣-١٥٤.
(٣) الحديث: ٢٣٣٩- سفيان: هو الثوري. والحديث مختصر ما قبله. ورواه البخاري مختصرًا ٨: ١٣٢ (فتح)، عن محمد بن يوسف، عن سفيان. ورواه الحاكم ٢: ٢٧٠، من طريق حسين بن حفص، عن سفيان. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وأخطأ الحاكم في استدراكه، فقد رواه البخاري. كما ذكرنا قبل.
وسيأتي بعض معناه مختصرًا: ٢٣٤٦، ٢٣٤٧، من رواية جرير، عن عاصم، عن أنس.
٢٣٤٠- حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثني أبو الحسين المعلم قال، حدثنا شيبان أبو معاوية، عن جابر الجعفي، عن عمرو بن حبشي قال، قلت لابن عمر:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَج البيتَ أو اعتمر فَلا جُناحَ عليه أنْ يَطَّوَّف بهما" قال، انطلق إلى ابن عباس فاسأله، فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. فأتيته فسألته، فقال: إنه كان عندهما أصنامٌ، فلما حُرِّمْن أمسكوا عن الطواف بينهما، حتى أنزلت:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أنْ يَطَّوَّفَ بهما" (١).
حسين المعلم: هو حسين بن محمد بن بهرام التميمي المروذي، المؤدب، كما لقب بذلك في التهذيب، وهو"المعلم" أيضًا، كما لقبه بذلك البخاري وابن أبي حاتم، وهو ثقة من شيوخ أحمد ويحيى والأئمة. مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/٣٨٦-٣٨٧، وابن سعد ٧/٢/٧٩، وابن أبي حاتم ١/٢/٦٤. وتاريخ بغداد ٨: ٨٨-٩٠، وكان معروفًا برواية"تفسير شيبان النحوي". فروى ابن أبي حاتم عن أبيه قال، "أتيته مرارًا بعد فراغه من تفسير شيبان، وسألته أن يعيد على بعض المجلس، فقال: بكر، بكر. ولم أسمع منه شيئًا".
ومما يوقع في الوهم، الاشتباه بين"عبد الوارث بن عبد الصمد". وشيخه"حسين المعلم" هذا - وبين"عبد الوارث بن سعيد"، وشيخه"حسين المعلم" أيضًا.
ف"عبد الوارث" -شيخ الطبري- هو الذي ترجمنا له هنا. وشيخه"حسين بن محمد المروذي". و"عبد الوارث بن سعيد" - هو جد"عبد الوارث" هذا. و"حسين المعلم" هو"حسين بن ذكوان المعلم"، وهو قديم، يروي عن التابعين.
شيبان أبو معاوية: "هو شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي؛ وهو إمام حجة حافظ، حدث عند أبو حنيفة، وهو من أقرانه. وروى عنه الأئمة: الطيالسي، وابن مهدي، وغيرهما. مترجم في التهذيب. والكبير ٢/٢/٢٥٥، وابن سعد ٦: ٢٦٢، و ٧/٢/٦٧-٦٨ وابن أبي حاتم ١/١/٣٥٥-٣٥٦، وتاريخ بغداد ٩: ٢٧١-٢٧٤، وتذكرة الحفاظ ١: ٢٠٢-٢٠٣.
ووقع في المطبوعة غلط في اسمه واسم الراوي عنه: فذكر"أبو الحسين المعلم"! وهو تخليط، وذكر"سنان أبو معاوية"! وهو فوق ذلك تصحيف.
جابر الجعفي، بضم الجيم وسكون العين المهملة: وهو جابر بن يزيد بن الحارث، وهو ضعيف جدًا، رمي بالكذب. مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/٢١٠، والضعفاء للبخاري، ص: ٧. والنسائي، ص: ٧، وابن أبي حاتم ١/١/٤٩٧-٤٩٨، والمجروحين لابن حبان، رقم: ١٧٥، ص ١٤٠-١٤١. والميزان ١: ١٧٦-١٧٨.
عمرو بن حبشي، بضم الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة: تابعي ثقة، مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم ٣/١/٢٢٦.
وهذا الحديث -الضعيف الإسناد- لم أجده إلا في هذا الموضع. وذكره السيوطي ١: ١٥٩، ولم ينسبه إلا إلى الطبري.
٢٣٤١- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله"، وذلك أنّ ناسًا كانوا يتحرجون أن يَطوفوا بين الصفا والمروة، فأخبر الله أنهما من شعائره، والطواف بينهما أحبُّ إليه، فمضت السُّنة بالطَّواف بينهما.
٢٣٤٢- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله فمن حَج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوَّف بهما" قال، زعم أبو مالك، عن ابن عباس: أنه كانَ في الجاهلية شَياطين تعزِفُ الليل أجمعَ بين الصفا والمروة، وكانت بَينهما آلهة، فلما جاء الإسلام وظَهر، قال المسلمون: يا رَسولَ الله، لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنه شركٌ كنا نفعله في الجاهلية! فأنزل الله:"فلا جُناح عليه أن يطوَّف بهما". (١)
والحديث رواه أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف، ص: ١٠٠-١٠١، عن الحسين بن علي بن مهران، عن عامر بن الفرات، عن أسباط، بهذا الإسناد، نحوه.
وفي إسناد ابن أبي داود فائدة جديدة: أن هناك راويًا لتفسير السدي، غير"عمرو بن طلحة القناد" راويه عن أسباط بن نصر. فها هو ذا عامر بن الفرات يروي شيئًا منه عن أسباط أيضًا. و"عامر بن الفرات": لم أجد له ترجمة أصلا. ومن عجب أن يذكره ابن أبي حاتم، في ترجمة"الحسين بن علي بن مهران" ١/٢/٥٦ - شيخًا له، ثم لا يترجم له في بابه!
ورواه أيضًا الحاكم ٢: ٢٧١، من طريق عمرو بن طلحة القناد، عن أسباط. بهذا الإسناد نحوه. وزاد في آخره: "يقول: عليه إثم ولكن له أجر". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ولنا على الحاكم والذهبي في هذا استدراك، هو: أن أبا مَالك -التابعي راويه عن ابن عباس - وهو"غزوان الغفاري": لم يرو له مسلم في صحيحه أصلا. فلا يكون الحديث على شرط مسلم، في اصطلاح الحاكم!
وفي رواية الحاكم -هذه- فائدة أيضًا: أنا ظننا عند الكلام على أسانيد تفسير السدي الثلاثة، أن الحاكم اختار منها إسنادين فقط، ولكن أظهرنا هذا الإسناد على أنه صحح الثلاثة الأسانيد.
والحديث ذكره السيوطي ١: ١٥٩، وزاد نسبته لابن أبي حاتم أيضًا.
٢٣٤٣- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله" قال، قالت الأنصار: إنّ السَّعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية! فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله"
٢٣٤٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
٢٣٤٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فلا جُناح عليه أن يَطَّوَّف بهما" قال، كان أهل الجاهلية قد وَضَعوا على كل واحد منهما صَنمًا يعظمونهما، فلما أسلم المسلمون كرِهوا الطواف بالصفا والمروة لمكان الصنمين، فقال الله تعالى:"إن الصفا والمروةَ من شَعائر الله فمن حج البيتَ أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما"، وقرأ: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [سورة الحج: ٣٢]، وسَن رسول الله ﷺ الطواف بهما.
٢٣٤٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم قال، قلت لأنس: الصفا والمروة، أكنتم تكرَهون أن تطوفوا بهما مع الأصنام التي نُهيتم عنها؟ قال: نعم، حتى نزلت:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله".
٢٣٤٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال، أخبرنا عاصم قال، سمعت أنس بن مالك يقول: إنّ الصفا والمروة من مَشاعر قُريش في الجاهلية،
فلما كان الإسلام تَركناهما. (١)
* * *
وقال آخرون: بل أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية، في سَبب قوم كانوا في الجاهلية لا يَسعوْن بينهما، فلما جاء الإسلام تخوَّفوا السعي بينهما كما كانوا يتخوَّفونه في الجاهلية.
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٤٨- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قوله:"إنّ الصفا والمرْوَة من شعائر الله" الآية، فكان حَيٌّ من تهامة في الجاهلية لا يسعون بينهما، فأخبرهم الله أنّ الصفا والمروة من شعائر الله، وكانَ من سُنة إبراهيم وإسماعيلَ الطواف بينهما.
٢٣٤٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال، كان ناس من أهل تِهامة لا يطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله".
٢٣٥٠- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال، حدثني عروة بن الزبير قال، سألت عائشة فقلت لها: أرأيتِ قول الله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَجّ البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما"؟ وقلت لعائشة: وَالله ما على أحدٍ جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنّ هذه الآية لو كانت كما أوَّلتها كانت: لا جُناح عليه أن لا يطوَّف بهما، ولكنها إنما أنزلت في الأنصار: كانوا قبل أن يُسلموا يُهلُّون لمَناةَ، الطاغيةَ التي كانوا يعبدون بالمشلَّلِ، وكان من أهلَّ لها يتحرَّج أن يَطُوف بين
والحديثان مضى معناهما، من رواية عاصم عن أنس: ٢٣٣٨، ٢٣٣٩.
الصفا والمروة، فلما سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك - فقالوا: يا رسول الله إذا كنا نتحرج أن نَطُوف بين الصفا والمروة - أنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروَة من شعائر الله فمن حَجّ البيتَ أو اعتمرَ فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما". قالت عائشة: ثم قد سَن رَسول الله ﷺ الطواف بينهما، فليس لأحد أن يَترك الطواف بَينهما. (١)
٢٣٥١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كان رجالٌ من الأنصار مِمَّن يُهلُّ لمناةَ في الجاهلية -و"مناةُ" صنمٌ بين مكة والمدينة- قالوا: يا نبيّ الله، إنا كنا لا نطوفُ بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة، فهل علينا من حَرَج أن نَطوف بهما؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروةَ من شعائر الله فمن حج البيتَ أو اعتمرَ فلا جناح عليه أن يطوف بهما". قال عروة: فقلت لعائشة: ما أبالي أن لا أطوف بين الصفا والمروة! قال الله:"فلا جُناح عليه". قالت: يا ابن أختي، ألا ترى أنه يقول:"إن الصفا والمروة من شَعائر الله"! قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال: هذا العلم! قال أبو بكر: ولقد سمعتُ رجالا من أهل العلم يقولون: لما أنزل الله الطوافَ بالبيت ولم يُنزل الطواف بين الصفا والمروة، قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نطوفُ في الجاهلية بين الصفا والمروة، وإنّ الله قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الطوافَ بين الصفا والمروةَ، فهل علينا من حرج أن لا نَطوفَ بهما؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروةَ من شعائر الله" الآية كلها، قال أبو بكر: فأسمعُ أن هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما، فيمن طَافَ وفيمن لم يَطُف. (٢)
عروة بن الزبير بن العوام: تابعي ثقة فقيه عالم ثبت مأمون، قال أبو الزناد: "كان فقهاء أهل المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان". وأمه أسماء ذات النطاقين بنت أبي بكر الصديق، وعائشة أم المؤمنين خالته، رضي الله عنهم. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/٣١-٣٢، وابن سعد ٢/٢/١٣٤-١٣٥، و ٥: ١٣٢-١٣٥، وابن أبي حاتم ٣/١/٣٩٥-٣٩٦، وتذكرة الحفاظ ١: ٥٨-٥٩، وتاريخ الإسلام ٣: ٣١-٣٤.
والحديث -من هذا الوجه- رواه مسلم ١: ٣٦٢، من طريق عقيل، عن ابن شهاب، وهو الزهري ولم يذكر لفظه كله، إحالة على روايات قبله.
ورواه البخاري ٣: ٣٩٧-٤٠١، مطولا، من طريق شعيب، عن الزهري، باللفظ الذي هنا، إلا خلافًا في أحرف يسيرة: "فلما سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك فقالوا... أنزل الله... " ففي البخاري: "فلما أسلموا سألوا... قالوا... فأنزل الله... ". ولكن زاد البخاري في آخره قول الزهري أنه ذكر ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن - الذي سيأتي في الرواية التالية لهذه، بنحو معناه.
وثبت من أوجه كثيرة، عن الزهري، عن عروة، مطولا ومختصرًا:
فرواه مالك في الموطأ، ص: ٣٧٣، عن هشام بن عروة، عن أبيه. ورواه البخاري ٨: ١٣٢. وابن أبي داود في المصاحف، ص ١٠٠ -ولم يذكر لفظه- كلاهما من طريق مالك.
ورواه أحمد في المسند ٦: ١٤٤، ٢٢٧ (حلبي)، من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري. وكذلك رواه ابن أبي داود، ص: ١٠٠ -ولم يذكر لفظه- من طريق إبراهيم بن سعد.
ورواه مسلم مطولا ١: ٣٦١-٣٦٢، من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري. وكذلك رواه البخاري ٨: ٤٧٢، من طريق سفيان. ولكنه اختصره جدًا.
ورواه مسلم وابن أبي داود - قبل ذلك وبعده: من أوجه كثيرة.
وذكره السيوطي ١: ١٥٩، وزاد نسبته إلى أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن الأنباري في المصاحف، وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن.
وانظر الحديث التالي لهذا.
قوله"يهلون لمناة": أي يحجون. ومناة، بفتح الميم والنون الخفيفة: صنم كان في الجاهلية. وقال ابن الكلبي: كانت صخرة نصبها عمرو بن لحي لهذيل، وكانوا يعبدونها. والطاغية: صفة لها إسلامية. قاله الحافظ في الفتح.
"المشلل": بضم الميم وفتح الشين المعجمة ولامين، الأولى مفتوحة مثقلة، هي الثنية المشرفة على قديد، وقديد، بضم القاف ودالين مهملتين، مصغرًا: قرية جامعة بين مكة والمدينة، كثيرة المياه. عن الفتح.
(٢) الحديث: ٢٣٥١- هو تكرار للحديث السابق بمعناه، من وجه آخر صحيح، عن الزهري. وفيه زيادة قول الزهري أنه ذكر ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، إلخ. وهذه الزيادة ذكرها البخاري، في روايته من طريق شعيب عن الزهري، كما قلنا آنفًا.
ورواية معمر عن الزهري - هذه: ذكر البخاري بعضها تعليقًا ٨: ٤٧٢، فقال: "قال معمر عن الزهري... ". وقال الحافظ: "وصله الطبري، عن الحسن بن يحيى، عن عبد الرزاق، مطولا". فهذه إشارة إلى الرواية التي هنا، وأشار إليها في الفتح ٣: ٣٩٩، وذكر أنه وصلها أحمد وغيره.
وقد رواها أيضًا ابن أبي داود في المصاحف، ص: ١٠٠، عن"خشيش بن أصرم، والحسن بن أبي الربيع، أن عبد الرزاق أخبرهم عن معمر... ". ولم يسق لفظ الحديث، إحالة على ما قبله. و"خشيش": بضم الخاء وفتح الشين وآخره شين، معجمات كلها. و"الحسن بن أبي الربيع": هو"الحسن بن يحيى" شيخ الطبري، كنية أبيه"أبو الربيع". وخلط المستشرق طابع كتاب المصاحف: فكتب"حشيش" بالحاء المهملة! وكتب"الحسن بن أبي الربيع بن عبد الرزاق"!!
و"أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام" المخزومي القرشي المدني: من كبار التابعين الأئمة، ومن سادات قريش. وهو أحد الفقهاء السبعة. مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري، رقم: ٥١، وابن سعد ٢/٢/١٣٣، و ٥: ١٥٣-١٥٤، وتذكرة الحفاظ ١: ٥٩-٦٠، وتاريخ الإسلام ٤: ٧٢-٧٣.
وقول أبي بكر بن عبد الرحمن"فأسمع أن هذه الآية نزلت... " - إلخ: هو في رواية البخاري أيضًا ٣: ٤٠١، وقال الحافظ: "كذا في معظم الروايات، بإثبات الهمزة وضم العين، بصيغة المضارعة للمتكلم. وضبطه الدمياطي في نسخته [يعني من صحيح البخاري] بالوصل وسكون العين. بصيغة الأمر، والأول أصوب، فقد وقع في رواية سفيان المذكورة: فأراها نزلت. وهو بضم الهمزة، أي أظنها".
وانظر كثيرًا من طرق هذا الحديث أيضًا، في السنن الكبرى للبيهقي ٥: ٩٦-٩٧.
٢٣٥٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانَ ناسٌ من أهل تهامة لا يَطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله:"إنّ الصفا والمرْوَة من شعائر الله". (١)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره قد جعل الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، كما جعل الطواف بالبيت من شعائره.
فأما قوله:"فلا جناحَ عليه أن يطَّوَّف بهما"، فجائزٌ أن يكون قيل لكلا الفريقين اللذين تخوَّف بعضهم الطواف بهما من أجل الصنمين اللذين ذكرهما الشعبي، وبَعضُهم من أجل ما كان من كراهتهم الطواف بهما في الجاهلية، على ما رُوي عن عائشة.
وأيُّ الأمرين كان من ذلك، فليس في قول الله تعالى ذكره:"فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما"، الآية، دلالةٌ على أنه عَنى به وَضعَ الحرَج عَمن طاف بهما، من أجل أن الطواف بهما كان غير جائزٍ بحظر الله ذلك، ثم جُعل الطواف بهما رُخصة، لإجماع الجميع على أن الله تعالى ذكره لم يحظُر ذلك في وقت، ثم رخص فيه بقوله:"فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما".
* * *
وإنما الاختلافُ في ذلك بين أهل العلم على أوجُهٍ. فرأى بعضُهم أن تارك الطواف بينهما تاركٌ من مَناسك حجه ما لا يُجزيه منه غيرُ قَضَائه بعينه، كما لا يُجزى تارك الطواف -الذي هو طَواف الإفاضة- إلا قضَاؤه بعينه. وقالوا: هما طَوافانَ: أمرَ الله بأحدهما بالبيت، والآخرُ بينَ الصفا والمروة.
* * *
ورأى بعضهم أن تارك الطواف بهما يُجزيه من تَركه فِدية، ورأوا أن حُكم الطواف بهما حُكمُ رَمي بعض الجمرات، والوقوف بالمشعر، وطَواف الصَّدر وما أشبه ذلك، مما يُجزى تاركه من تَرْكه فِديةٌ، ولا يلزمه العَوْد لقضَائه بعينه.
* * *
ورأى آخرون أنّ الطواف بهما تطوع، إن فعله صاحبه كان مُحسنًا، وإن تَرَكه تاركٌ لم يلزمه بترْكه شيء. (١)
* * *
ذكر من قال: إن السعي بين الصفا والمروة واجبٌ ولا يجزي منه فدية، ومن تركه فعليه العَوْد. (٢)
(٢) في المطبوعة: "فعليه العودة"، والأجود ما أثبت، وهو أشبه بعبارة الطبري وأقرانه من فقهاء عصره. وسيأتي كذلك بعد مرات في عبارته الآتية، وكأن هذه من تصرف ناسخ أو طابع.
٢٣٥٣- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لَعمري ما حَجّ من لم يَسع بين الصفا والمروة، لأن الله قال:"إن الصفا والمروة من شعائر الله".
٢٣٥٣م- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك بن أنس: مَنْ نسي السعي بين الصفا والمروة حتى يستبعد من مكة، فليرجع فَليسْع، وإن كان قد أصاب النساء فعليه العمرَة والهدي. (١)
* * *
وكان الشافعي يقول: عَلى مَنْ تَرَك السعي بين الصفا والمروةَ حتى رجع إلى بلده، العود إلى مكة حتى يَطوف بينهما، لا يجزيه غير ذلك. (٢)
٢٣٥٤- حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
ذكر من قال: يجزي منه دم، وليس عليه عودٌ لقضائه.
قال الثوري بما:-
٢٣٥٥- حدثني به علي بن سهل، عن زيد بن أبي الزرقاء، عنه، وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن عَاد تاركُ الطوافَ بينهما لقضائه فحسن، وإن لم يعُدْ فعليه دمٌ.
* * *
ذكر من قال: الطوافُ بينهما تطوّعٌ، ولا شيء على من تركه، ومنْ كان يقرأ: (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما)
٢٣٥٦- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عطاء: لو أن حاجًّا أفاضَ بعدما رمى جمرة العقبة، فطاف بالبيت ولم يَسع، فأصابها -يعني: امرأته- لم يكن عليه شيء، لا حجٌّ ولا عمرة، من أجل قول الله في مصحف ابن مسعود:"فمنْ حَج البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن لا يَطَّوَّفَ بهما". فعاودته بعد ذلك فقلت: إنه قد ترك سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ألا تسمعه يقول:"فمن تَطوَّع خَيرًا"، فأبى أن يجعل عليه شيئًا؟
٢٣٥٧- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك،
(٢) انظر لفظ الشافعي في الأم ٢: ١٧٨.
عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرأ:"إن الصفا والمروَة منْ شعائر الله" الآية"فلا جُناح عليه أنْ لا يَطَّوَّف بهما".
٢٣٥٨- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن عاصم قال: سمعت أنسًا يقول: الطواف بينهما تطوع.
٢٣٥٩- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا عاصم الأحول قال، قال أنس بن مالك: هما تطُّوع.
٢٣٦٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
٢٣٦١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إن الصفا والمروة من شعائر الله فمنْ حَجّ البيتَ أو اعتمر فلا جناح عليه أن يَطَّوفَ بهما" قال، فلم يُحرِّج من لم يَطُفْ بهما.
٢٣٦٢- حدثنا المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا أحمد، عن عيسى بن قيس، عن عطاء، عن عبد الله بن الزبير قال: هما تطوع. (١)
ثم ترجح عندي أن"حجاجًا" - في هذا الإسناد: هو"حجاج بن الشاعر". وهو: حجاج بن يوسف بن حجاج الثقفي البغدادي، عرف بابن الشاعر، لأن أباه يوسف كان شاعرًا صحب أبا نواس، وحجاج هذا: ثقة، من شيوخ مسلم وأبي داود وغيرهما، قال ابن أبي حاتم: "كان من الحفاظ، ممن يحسن الحديث ويحفظه. مترجم في التهذيب، وابن أبي جاتم ١/٢/١٦٨، وتاريخ بغداد ٨: ٢٤٠-٢٤١، وتذكرة الحفاظ ٢: ١١٧-١١٨.
وأن شيخه"أحمد": هو أحمد بن عبد الله بن يونس، وهو ثقة متقن حافظ، من شيوخ البخاري ومسلم، سماه الإمام أحمد"شيخ الإسلام". وقد مضت الإشارة إليه: ٢١٤٤.
فإن يكن الإسناد هكذا، على ما رجحنا، يكن"عيسى بن قيس" محرفًا، صوابه"عمر بن قيس"، وهو المكي المعروف بـ "سندل" - بفتح السين والدال المهملتين بينهما نون ساكنة. وهو ضعيف جدًا، منكر الحديث كما قال البخاري. وقال ابن عدي: "هو ضعيف بإجماع، لم يشك أحد فيه، وقد كذبه مالك". وهو مترجم في التهذيب. والصغير للبخاري، ص: ١٩٠، والضعفاء له، ص: ٢٥، والنسائي ص: ٢٤، وابن سعد ٥: ٣٥٨، وابن أبي حاتم ٣/١/١٢٩-١٣٠.
وأنا أرجح أن يكون هذا الإسناد على هذا النحو، ولكني لا أستطيع الجزم بذلك، ولا تغيير اسم"عيسى بن قيس" - حتى أستبين بدليل آخر.
٢٣٦٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم قال: قلت لأنس بن مالك: السعي بين الصفا والمروة تطوُّع؟ قال: تطوعٌ.
* * *
والصواب من القول في ذلك عندنا أنّ الطواف بهما فرض واجب، وأن على من تركه العوْد لقضائه، ناسيًا كان، أو عامدًا. لأنه لا يُجزيه غير ذلك، لتظاهر الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه حج بالناس، فكان مما علمهم من مناسك حَجّهم الطوافُ بهما.
* * *
ذكر الرواية عنه بذلك:
٢٣٦٥- حدثني يوسف بن سلمان قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: لما دنا رسول الله ﷺ من الصفا في حجه قال:"إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله"، ابدؤوا بما بدأ الله بذكره. فبدأ بالصفا فرَقِيَ عليه. (١).
٢٣٦٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمود بن ميمون أبو الحسن، عن أبي بكر بن عياش، عن ابن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس: أن النبي ﷺ قال:"إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله"، فأتى الصفا فبدأ بها، فقام عليها، ثم أتى المروة فقام عليها، وطاف وسَعى. (٢)
* * *
(٢) الحديث: ٢٣٦٦- محمود بن ميمون أبو الحسن: لا أدري من هو، ولا ما شأنه. لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا.
ابن عطاء، عن أبيه: هو يعقوب بن عطاء بن أبي رباح، وهو ثقة، بينا ذلك في المسند: ١٨٠٩. مترجم في التهذيب والكبير ٤/٢/٢٩٨، وابن أبي حاتم ٤/٢/٢١١.
وهذا الحديث لم أجده في شيء من المراجع. وإن كان لابن عباس أحاديث أخر في شأن الصفا والمروة والسعي بينهما. من ذلك الحديث الماضي: ٢٣٤٢. وحديث في المستدرك ٢: ٢٧٠-٢٧١، وصححه الحاكم والذهبي.
فإذ كان صحيحًا بإجماع الجميع من الأمة - أنّ الطواف بهما على تعليم رسول الله ﷺ أمَّته في مناسكهم، وعمله في حَجَّه وعُمرته = وكان بيانه ﷺ لأمَّته جُمَلَ ما نَصّ الله في كتابه، وفَرَضه في تنزيله، وأمرَ به مما لم يُدْرَك علمه إلا ببيانه، لازمًا العمل به أمته، كما قد بينا في كتابنا"كتاب البيان عن أصول الأحكام" - إذا اختلفت الأمة في وُجُوبه، (١) ثم كان مُختلفًا في الطواف بينهما: هل هو واحبٌ أو غير واجب = كان بينًا وجُوب فرضه على مَنْ حجَّ أو اعتمر، (٢) لما وصفنا.
وكذلك وُجوب العوْد لقضاء الطواف بين الصفا والمروة - لما كان مختلَفًا فيما عَلى مَنْ تركه، مع إجماع جَميعهم على أنّ ذلك مما فَعله رسول الله ﷺ وعلَّمه أمته في حجهم وعمرتهم إذ علَّمهم مناسك حجهم - كما طاف بالبيت وعلَّمه أمته في حجهم وعمرتهم، إذ علَّمهم مناسك حجهم وعُمْرتهم - وأجمع الجميع على أن الطواف بالبيت لا تُجْزي منه فديةٌ ولا بَدلٌ، ولا يجزي تاركه إلا العودُ لقضائه = كان نظيرًا له الطوافُ بالصفا والمروة، ولا تجزي منه فدية وَلا جزاءٌ، ولا يجزي تاركَه إلا العودُ لقضائه، إذ كانا كلاهما طَوافين: أحدهما بالبيت، والآخرُ بالصفا والمروة.
(٢) وهذه الجملة من تمام قوله ومن سياقها: "وإذا كان صحيحًا بإجماع الأمة... كان بينًا وجوب فرضه على من حج أو اعتمر".
ومن فَرَّق بين حكمهما عُكس عليه القولُ فيه، ثم سئل البرهان على التفرقة بينهما.
فإن اعتل بقراءة من قرأ:"فلا جُناح عليه أنْ لا يَطَّوف بهما".
قيل: ذلك خلافُ ما في مصاحف المسلمين، غيرُ جائز لأحد أن يزيد في مصاحفهم ما ليس فيها. وسواء قَرَأ ذلك كذلك قارئ، أو قرأ قارئ: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [سورة الحج: ٢٩]، "فَلا جناح عليهم أنْ لا يَطَّوَّفوا به". (١) فإن جازت إحدى الزيادتين اللتين ليستا في المصحف، (٢) كانت الأخرى نظيرَتها، وإلا كان مُجيزُ إحداهما - إذا منع الأخرى - مُتحكمًا، والتحكم لا يعجِزُ عنه أحدٌ.
وقد رُوي إنكار هذه القراءة، وأن يكون التنزيل بها، عن عائشة.
٢٣٦٧- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا يومئذ حديث السِّن: أرأيت قول الله عز وجل:"إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله فَمنْ حَجّ البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن يَطَّوَّف بهما"، فما نرَى على أحد شَيئًا أنْ لا يَطَّوَّف بهما! فقالت عائشة: كلا! لو كانت كما تقول، كانت:"فلا جُناح عليه أن لا يَطَّوَّف بهما"، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يُهلّون لمناة -وكانت مَناة حَذوَ قَديد-، وكانوا يتحرَّجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة. فلما جاء الإسلام، سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك، فأنزل الله:"إنّ الصفا والمرْوةَ من شَعائر الله فمن حَجّ
(٢) في المطبوعة: "فإن جاءت إحدى الزيادتين" تصحيف، والصواب ما أثبت.
البيت أو اعتمر فلا جُناحَ عليه أن يطوف بهما".
* * *
قال أبو جعفر: وقد يحتمل قراءة من قرأ:"فلا جُناحَ عَليه أنْ لا يَطَّوَّف بهما"، أن تكون"لا" التي مع"أن"، صلةً في الكلام، (١) إذْ كان قد تقدَّمها جَحْدٌ في الكلام قبلها، وهو قوله: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ)، فيكون نظير قول الله تعالى ذكره: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [سورة الأعراف: ١٢]، بمعنى ما منعك أن تسجدَ، وكما قال الشاعر: (٢)
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَا | والطَّيِّبَانِ أبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ (٣) |
* * *
(٢) هو جرير.
(٣) سلف تخريجه في ١: ١٩١-١٩٢.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف القرَأء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قُراء أهل المدينة والبصرة:"ومن تَطوَّع خَيرًا" على لفظ المضيّ ب"التاء" وفتح"العين". وقرأته عامة قراء الكوفيين:"وَمَنْ يَطَّوَّعْ خَيرًا" ب"الياء" وجَزم"العين" وتشديد"الطاء"، بمعنى: ومن يَتطوع. وذُكر أنها في قراءة عبد الله:"ومَنْ يَتطوَّعْ"، فقرأ ذلك قُرّاء أهل الكوفة، على ما وصفنا، اعتبارًا بالذي ذكرنا من قراءَة عبد الله -سوى عَاصم، فإنه وافق المدنيين- فشددوا"الطاءَ" طلبًا لإدغام"التاء" في"الطاء". وكلتا القراءتين معروفة صحيحة، متفقٌ معنياهما غيرُ مختلفين - لأن الماضي من الفعل مع حروف الجزاء بمعنى المستقبل. فبأيّ القراءتين قرأ ذلك قارئٌ فمصيبٌ.
* * *
(١) [والصواب عندنا في ذلك، أن] معنى ذلك: ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قَضَاء حجته الواجبة عليه، فإن الله شاكرٌ له على تطوعه له بما تطوع به من ذلك ابتغاءَ وجهه، فمجازيه به، عليمٌ بما قصد وأراد بتطُّوعه بما تطوع به.
وَإنما قُلنا إنّ الصوابَ في معنى قوله:"فمن تطوَّع خيرًا" هو ما وصفنا، دون قول من زَعم أنه معنيٌّ به: فمن تَطوع بالسعي والطواف بين الصفا والمروة، لأن الساعي بينهما لا يكون متطوعًا بالسعي بينهما، إلا في حَج تطوع أو عُمرة تطوع، لما وصفنا قبل. وإذ كان ذلك كذلك كان معلومًا أنه إنما عنى بالتطوع بذلك، التطُّوعَ بما يعملُ ذلك فيه من حَجّ أو عمرة.
* * *
وأما الذين زعموا أنّ الطواف بهما تطوُّع لا واجب، فإنّ الصواب أن يكون تأويل ذلك على قولهم: فمن تطوَّع بالطواف بهما، فإنّ الله شاكر =لأن للحاج والمعتمِر على قولهم الطوافَ بهما إن شاء، وتركَ الطواف. فيكون معنى الكلام على تأويلهم: فمن تطوع بالطواف بالصفا والمروة، فإنّ اللهَ شَاكرٌ تطوُّعَه ذلك= عليمٌ بما أراد ونَوَى الطائف بهما كذلك، كما:-
٢٣٦٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن تطوَّع خيرًا فإن الله شاكرٌ عَليمٌ" قال، من تطوع خيرًا فهو خيرٌ له، تطوَّع رسول الله ﷺ فكانت من السنن.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن تطوع خَيرًا فاعتمر.
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٦٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن تطوَّع خيرًا فإن الله شاكر عليم"، من تطوع خيرًا فاعتمر فإن الله شاكر عليمٌ. قال: فالحج فريضةٌ، والعمرةُ تطوع، ليست العمرة واجبةً على أحد من الناس.
* * *