
إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا فَنُقَاتِلَ فِي سَبِيلِكَ حَتَّى نُقْتَلَ فِيكَ مَرَّةً أُخْرَى- لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ الشَّهَادَةِ- فَيَقُولُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ: إِنِّي كَتَبْتُ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجِرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ» فَفِيهِ دَلَالَةٌ لِعُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ الشُّهَدَاءُ قَدْ خُصِّصُوا بِالذِّكْرِ فِي الْقُرْآنِ تشريفا وتكريما وتعظيما.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٥ الى ١٥٧]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)
أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده، أَيْ يَخْتَبِرُهُمْ وَيَمْتَحِنُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [مُحَمَّدٍ: ٣١] فَتَارَةً بِالسَّرَّاءِ وَتَارَةً بِالضَّرَّاءِ مِنْ خَوْفٍ وَجُوعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النَّحْلِ: ١١٢] فَإِنَّ الْجَائِعَ وَالْخَائِفَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ لِبَاسُ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ. وَقَالَ هَاهُنَا: بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ أَيْ بِقَلِيلٍ مِنْ ذَلِكَ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ أَيْ ذَهَابُ بَعْضِهَا وَالْأَنْفُسِ كَمَوْتِ الْأَصْحَابِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَحْبَابِ وَالثَّمَراتِ أَيْ لَا تُغِلُّ الحدائق والمزارع كعادتها.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: فَكَانَتْ بَعْضُ النَّخِيلِ لَا تُثْمِرُ غَيْرَ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّ هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَخْتَبِرُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ فَمَنْ صَبَرَ أَثَابَهُ ومن قنط أحل به عقابه، ولهذا قال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخَوْفِ هَاهُنَا خَوْفُ اللَّهِ، وَبِالْجُوعِ صيام رمضان، وبنقص الْأَمْوَالِ الزَّكَاةُ، وَالْأَنْفُسِ الْأَمْرَاضُ، وَالثَّمَرَاتِ الْأَوْلَادُ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى من الصابرين الذين شكرهم فقال: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أَيْ تَسَلَّوْا بِقَوْلِهِمْ هَذَا عَمَّا أَصَابَهُمْ وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مِلْكٌ لِلَّهِ يَتَصَرَّفُ فِي عَبِيدِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَضِيعُ لَدَيْهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَحْدَثَ لَهُمْ ذَلِكَ اعْتِرَافَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَبِيدُهُ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَلِهَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّا أَعْطَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ أي ثناء من الله عليهم. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَيْ أَمَنَةٌ مِنَ الْعَذَابِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: نِعْمَ الْعَدْلَانِ وَنَعِمَتِ الْعِلَاوَةُ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ فَهَذَانَ الْعَدْلَانِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ فَهَذِهِ الْعِلَاوَةُ وَهِيَ مَا تُوضَعُ بَيْنَ الْعَدْلَيْنِ وَهِيَ زِيَادَةٌ فِي الحمل فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم

وَزِيدُوا أَيْضًا.
وَقَدْ وَرَدَ فِي ثَوَابِ الِاسْتِرْجَاعِ وَهُوَ قَوْلُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ عِنْدَ الْمَصَائِبِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا يونس بن محمد حَدَّثَنَا لَيْثٌ يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمُطَّلِبِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: أَتَانِي أَبُو سَلَمَةَ يَوْمًا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا سُرِرْتُ بِهِ. قَالَ: «لَا يُصِيبُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُصِيبَةٌ فَيَسْتَرْجِعُ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إِلَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ»، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَحَفِظْتُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ اسْتَرْجَعْتُ وَقُلْتُ: اللَّهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخَلُفْ لي خيرا منها، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي، فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ لِي خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتِي اسْتَأْذَنَ عَلِيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَدْبُغُ إِهَابًا لِي فَغَسَلْتُ يَدِي مِنَ الْقَرَظِ وَأَذِنْتُ لَهُ، فَوَضَعْتُ لَهُ وِسَادَةَ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَقَعَدَ عَلَيْهَا فَخَطَبَنِي إِلَى نَفْسِي، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ قُلْتُ: يا رسول الله ما بي أن لا يكون بك الرغبة، لكني امْرَأَةٌ فِيَّ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ فَأَخَافَ أَنْ تَرَى مِنِّي شَيْئًا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ بِهِ، وَأَنَا امْرَأَةٌ قَدْ دَخَلْتُ فِي السِّنِّ وَأَنَا ذَاتُ عِيَالٍ، فَقَالَ: «أَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنَ الْغَيْرَةِ فَسَوْفَ يُذْهِبُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْكِ وَأَمَّا مَا ذكرت من السن قد أَصَابَنِي مِثْلُ الذِي أَصَابَكِ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنَ الْعِيَالِ فَإِنَّمَا عِيَالُكِ عِيَالِي». قَالَتْ: فَقَدْ سَلَّمْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ بَعْدُ: أَبْدَلَنِي اللَّهُ بِأَبِي سَلَمَةَ خَيْرًا مِنْهُ: رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «٢» عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ اللَّهُمَّ أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا» قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي خَيْرًا مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ وَعَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ قَالَا: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي هِشَامٍ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أُمِّهِ عَنْ فَاطِمَةَ ابْنَةِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهَا الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا مُسَلَمَةَ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَذْكُرُهَا وَإِنْ طَالَ عَهْدُهَا- وَقَالَ عَبَّادٌ قَدُمَ عَهْدُهَا- فَيُحْدِثُ لِذَلِكَ اسْتِرْجَاعًا إلا جدد الله له عن ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ مِثْلَ أَجْرِهَا يَوْمَ أُصِيبَ». وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أُمِّهِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الحسين عن أبيها.
وَقَدْ رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ هِشَامِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِيهِ (كذا) عن فاطمة عن أبيها.
(٢) صحيح مسلم (جنائز حديث ٣، ٤).
(٣) مسند أحمد (ج ١ ص ٢٠١).