آيات من القرآن الكريم

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ
ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ

واتخذوه قبلة لكم، كيلا يكون لأحد من الناس -سوى مشركي قريش- حجةٌ، ولأتمّ بذلك =من هدايتي لكم إلى قبلة خليلي إبراهيم عليه السلام، الذي جعلته إمامًا للناس= نعمتي، فأكمل لكم به فضلي عليكم، وأتمم به شرائع ملتكم الحنيفية المسلمة التي وصيتُ بها نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء غيرهم. وذلك هو نعمته التي أخبر جل ثناؤه أنه متمُّها على رسوله ﷺ والمؤمنين به من أصحابه.
* * *
وقوله:"ولعلكم تهتدون"، يعني: وكي ترشدوا للصواب من القبلة. (١) و"لعلكم" عطف على قوله:"ولأتم نعمتي عليكم"،"ولأتم نعمتي عليكم" عطف على قوله:"لئلا يكون".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"كما أرسلنا فيكم رسولا"، ولأتمّ نعمتي عليكم ببيان شرائع ملتكم الحنيفية، وأهديَكم لدين خليلي إبراهيم عليه السلام، فأجعل لكم دَعوتَه التي دعاني بها ومسألتَه التي سألنيها فقال: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة البقرة: ١٢٨]، كما جعلت لكُم دعوته التي دعاني بها، ومسألته التي سألنيها فقال: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو

(١) انظر ما سلف في معنى"لعل" بمعنى"كي" ١: ٣٦٤ / ثم ٢: ٦٩، ٧٢، ١٦١.

صفحة رقم 208

عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة البقرة: ١٢٩]، فابتعثت منكم رَسولي الذي سألني إبراهيمُ خليلي وابنُهُ إسماعيل، أنْ أبعثه من ذرّيتهما.
ف"كما" -إذ كان ذلك معنى الكلام- صلةٌ لقول الله عز وجل:"ولأتم نعمتي عليكم". ولا يكون قوله:"كما أرسلنا فيكم رسولا منكم"، متعلقًا بقوله:"فاذكروني أذكركم".
* * *
وقد قال قوم: إنّ معنى ذلك: فاذكرُوني كما أرسلنا فيكم رسولا منكم أذكركم. وزعموا أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، (١) فأغرقوا النزع، (٢) وبعدوا من الإصابة، وحملوا الكلام على غير معناه المعروف، وسِوَى وجهه المفهوم.
وذلك أنّ الجاريَ من الكلام على ألسن العرب، المفهومَ في خطابهم بينهم - إذا قال بعضهم لبعض:"كما أحسنت إليك يا فلان فأحسن" - أن لا يَشترطوا للآخر، لأن"الكاف" في"كما" شرطٌ معناه: افعل كما فعلت. ففي مجيء جواب:"اذكروني" بعده، وهو قوله:"أذكركم"، أوضحُ دليل على أن قوله:"كما أرسلنا" من صلة الفعل الذي قبله، وأن قوله:"اذكروني أذكركم" خبرٌ مبتدأ منقطعٌ عن الأول، وأنه =من سبب قوله:"كما أرْسلنا فيكم"= بمعزل.
* * *
وقد زعم بعض النحويين أن قوله:"فاذكروني" -إذا جُعل قوله:"كما أرسلنا فيكم" جوابًا له، مع قوله:"أذكركم"- نظيرُ الجزاء الذي يجاب بجوابين، كقول القائل: إذا أتاك فلانٌ فأته تَرْضَه"، فيصير قوله:"فأته" و"ترضه" جوابين لقوله:"إذا أتاك"، وكقوله:"إن تأتني أحسِن إليك أكرمك". (٣)

(١) هو الفراء، انظر معاني القرآن ١: ٩٢.
(٢) أغرق النازع في القوس: إذا شدها، وجاوز الحد في مد القوس، وبلغ النصل كبد القوس، فربما قطع يد الرامي. ونزع الرامي في قوسه نزعًا: جذب السهم بالوتر. وقولهم: "أغرق في النزع"، مثل في الغلو والإفراظ.
(٣) هو من قول الفراء أيضًا، انظر معاني القرآن ١: ٩٢.

صفحة رقم 209

وهذا القولُ وإن كان مذهبًا من المذاهب، فليس بالأسهل الأفصح في كلام العرب. والذي هو أولى بكتاب الله عز وجل أن يوجِّه إليه من اللغات، الأفصح الأعرفُ من كلام العرب، دون الأنكر الأجهل من منطقها. هذا، مع بعد وجهه من المفهوم في التأويل.
* * *
ذكر من قَال: إنّ قوله:"كما أرسلنا"، جوابُ قوله:"فاذكروني".
٢٣٠٩- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله عز وجل:"كما أرسلنا فيكم رسولا منكم"، كما فعلتُ فاذكروني.
٢٣١٠- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قوله:"كما أرسلنا فيكم رَسولا منكم"، فإنه يعني بذلك العرب، قال لهم جل ثناؤه: الزموا أيها العربُ طاعتي، وتوجهوا إلى القبلة التي أمرتكم بالتوجُّه إليها، لتنقطع حُجة اليهود عنكم، فلا تكون لهم عليكم حجَة، ولأتم نعمتي عليكم، وتهتدوا، كما ابتدأتكم بنعمتي، فأرسلت فيكم رسولا منكم. وذلك الرسول الذي أرسلَه إليهم منهم: محمد صلى الله عليه وسلم، كما:-
٢٣١١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"كما أرْسلنا فيكم رسولا منكم"، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.
* * *
وأمّا قوله:"يتلو عليكم آياتنا"، فإنه يعني آيات القرآن، وبقوله:"ويزكيكم" ويطهّركم من دَنَس الذنوب، و"يعلمكم الكتاب" وهو الفرقان، يعني: أنه

صفحة رقم 210
جامع البيان في تأويل آي القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري
تحقيق
أحمد شاكر
الناشر
مؤسسة الرسالة
الطبعة
الأولى، 1420 ه - 2000 م
عدد الأجزاء
24
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية