آيات من القرآن الكريم

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ
ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ

وَقَوْلُهُ: ﴿لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ أَيْ: أَهْلُ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مِنْ صِفَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَإِذَا فَقَدُوا ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهَا رُبَّمَا احْتَجُّوا بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ لِئَلَّا يَحْتَجُّوا بِمُوَافَقَةِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَهَذَا أَظْهَرُ.
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: ﴿لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ يَعْنِي بِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ حِينَ قَالُوا: صُرف مُحَمَّدٌ إِلَى الْكَعْبَةِ.
وَقَالُوا: اشْتَاقَ الرَّجُلُ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ (١) وَدِينِ قَوْمِهِ. وَكَانَ حُجَّتُهُمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصِرَافَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَنْ قَالُوا: سَيَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا كَمَا رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، نَحْوَ هَذَا.
وَقَالَ هَؤُلَاءِ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ يَعْنِي: مُشْرِكِي قُرَيْشٍ.
وَوَجَّهَ بَعْضُهُمْ حُجّة الظَّلَمَةِ -وَهِيَ دَاحِضَةٌ -أَنْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّجُلُ يزعمُ أَنَّهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ: فَإِنْ كَانَ تَوَجُّهُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَلِمَ رَجَعَ عَنْهُ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ لَهُ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلًا لِمَا لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَأَطَاعَ رَبَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ، ثُمَّ صَرَفَهُ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ -وَهِيَ الْكَعْبَةُ -فَامْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَهُوَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، لَا يَخْرُجُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وأمتهُ تَبَع لَهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ أَيْ: لَا تَخْشَوْا شُبَهَ الظَّلَمَةِ الْمُتَعَنِّتِينَ، وأفْرِدُوا الْخَشْيَةَ لِي، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُخْشَى مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ عَطْفٌ عَلَى ﴿لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ أَيْ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِيمَا شَرَعْتُ لَكُمْ مِنَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، لِتَكْمُلَ لَكُمُ الشَّرِيعَةُ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهَا ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أَيْ: إِلَى مَا ضَلّت عَنْهُ الْأُمَمُ هَدَيْنَاكُمْ إِلَيْهِ، وخَصصْناكم بِهِ، وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ أشرفَ الْأُمَمِ وَأَفْضَلَهَا.
﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) ﴾
يُذكر تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بِعْثَةِ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ وَيُزَكِّيهم، أَيْ: يُطَهِّرُهُمْ مِنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ ودَنَس النُّفُوسِ وَأَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلَمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ -وَهُوَ الْقُرْآنُ -وَالْحِكْمَةَ -وَهِيَ السُّنَّةُ -وَيُعَلِّمُهُمْ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ. فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ الجَهْلاء يُسفَهُون بِالْقَوْلِ الفرَى، فَانْتَقَلُوا بِبَرَكَةِ رِسَالَتِهِ، ويُمن سِفَارَتِهِ، إِلَى حَالِ الْأَوْلِيَاءِ، وَسَجَايَا الْعُلَمَاءِ فَصَارُوا أَعْمَقَ النَّاسِ عِلْمًا، وَأَبَرَّهُمْ قُلُوبًا، وَأَقَلَّهُمْ تَكَلُّفًا، وَأَصْدَقَهُمْ لَهْجَةً. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾

(١) في أ: "في بيت الله".

صفحة رقم 464

الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٤]. وَذَمَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٨].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِنِعْمَةِ اللَّهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلِهَذَا نَدَب اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَمُقَابَلَتِهَا بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، فَقَالَ: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾.
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ﴾ (١) يَقُولُ: كَمَا فَعَلْتُ فَاذْكُرُونِي.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَشْكُرُكَ؟ قَالَ لَهُ رَبُّهُ: تذكرُني وَلَا تَنْسَانِي، فَإِذَا ذَكَرْتَنِي فَقَدْ شَكَرْتَنِي، وَإِذَا نَسِيتَنِي فَقَدْ كَفَرْتَنِي.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، إِنَّ اللَّهَ يَذْكُرُ مَنْ ذَكَرَهُ، وَيَزِيدُ مَنْ شَكَرَهُ وَيُعَذِّبُ مَنْ كَفَرَهُ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٢] قَالَ: هُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، ويُشْكَرَ فَلَا يُكْفَر.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا عُمَارَةُ الصَّيْدَلَانِيُّ، حَدَّثَنَا مَكْحُولٌ الْأَزْدِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ قَاتِلَ النَّفْسِ، وَشَارِبَ الْخَمْرِ وَالسَّارِقَ وَالزَّانِي يَذْكُرُ اللَّهَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ ؟ قَالَ: إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ هَذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ بِلَعْنَتِهِ، حَتَّى يَسْكُتَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ قَالَ: اذْكُرُونِي، فِيمَا افْتَرَضْتُ عَلَيْكُمْ أَذْكُرْكُمْ فِيمَا أَوْجَبْتُ لَكُمْ عَلَى نَفْسِي.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: اذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِمَغْفِرَتِي، وَفِي رِوَايَةٍ: بِرَحْمَتِي.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ (٢) قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ".
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنْ ذَكَرْتَنِي فِي نَفْسِكَ ذَكَرْتُكَ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرْتَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُكَ، فِي مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ -أَوْ قَالَ: [فِي] (٣) مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ -وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي شِبْرًا دَنَوْتُ مِنْكَ ذِرَاعًا، وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي ذِرَاعًا دَنَوْتُ مِنْكَ بَاعًا، وَإِنْ أَتَيْتَنِي تَمْشِي أَتَيْتُكَ أُهَرْوِلُ"
صَحِيحُ الْإِسْنَادِ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ (٤). وَعِنْدَهُ قَالَ قَتَادَةُ: اللَّهُ أَقْرَبُ بِالرَّحْمَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِشُكْرِهِ، وَوَعَدَهُ عَلَى شُكْرِهِ بِمَزِيدِ الْخَيْرِ، فَقَالَ: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٧].
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْفُضَيْلِ (٥) بْنِ فَضَالَةَ -رَجُلٍ مِنْ قَيْسٍ-

(١) في ط: "فيكم" وهو خطأ.
(٢) في هـ: "اذكروني" والمثبت من ط.
(٣) زيادة من أ، والمسند.
(٤) المسند (٣/١٣٨) وصحيح البخاري برقم (٧٥٣٦).
(٥) في أ: "عن الفضل".

صفحة رقم 465
تفسير القرآن العظيم
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي
تحقيق
سامي سلامة
الناشر
دار طيبة للنشر والتوزيع
سنة النشر
1420
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
8
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية