وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ وهي الكتب التي خصت من خصته منهم، أو ما يشمل ذلك والمعجزات، وهو تعميم بعد التخصيص كيلا يخرج من الإيمان أحد من الأنبياء مِنْ رَبِّهِمْ متعلق ب أُوتِيَ قبله، والضمير- للنبيين- خاصة، وقيل: ل مُوسى وَعِيسى أيضا، ويكون ما أُوتِيَ تكريرا للأولى، والجار متعلقا بها، وهو- على التقديرين- ظرف لغو، وجوّز أن يكون في موضع الحال من العائد المحذوف، واحتمال أن يكون ما مبتدأ والجار خبره بعيد لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي كما فرق أهل الكتاب، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض- بل نؤمن بهم جميعا- وإنما اعتبر عدم التفريق بينهم، مع أن الكلام فيما أوتوه لاستلزام ذلك- عدم التفريق- فيه بين- ما أوتوه- وأَحَدٍ أصله- وحد- بمعنى- واحد- وحيث وقع في سياق النفي عم واستوى فيه- الواحد والكثير- وصح إرادة كل منهما- وقد أريد به هنا الجماعة- ولهذا ساغ أن يضاف إليه بَيْنَ ويفيد عموم الجماعات- كذا قاله بعض المحققين- وهو مخالف لما هو المشهور عند أرباب العربية من أن الموضوع في النفي العام أو المستعمل مع كل في الإثبات- همزته- أصلية بخلاف ما استعمل في الإثبات بدون كل فإن- همزته- منقلبة عن- واو- ومن هنا قال العلامة التفتازاني: إن أَحَدٍ في معنى الجماعة بحسب الوضع لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع، ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة- كل- أو مع النفي، نص على ذلك أبو عليّ وغيره من أئمة العربية، وهذا غير- الأحد- الذي هو أول العدد في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:
١] وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرة في سياق النفي- على ما سبق- إلى كثير من الأوهام، ألا ترى أنه لا يستقيم لا نُفَرِّقُ بين رسول من الرسل إلا بتقدير عطف أي رسول ورسول، ولَسْتُنَّ- كَأَحَدٍ- مِنَ النِّساءِ [الأحزاب: ٣٢] ليس في معنى- كامرأة منهن- انتهى. وأنت- بعد التأمل- تعلم أن ما ذكره العلامة لا يرد على ذلك البعض، وإنما ترد عليه المخالفة في الأصالة وعدمها فقط- ولعل الأمر فيها سهل- على أن دعوى عدم تلك الاستقامة إلا بذلك التقدير غير مجمع عليه، فقد ذكر في الانتصاف أن النكرة الواقعة في سياق النفي تفيد العموم لفظا عموما شموليا حتى ينزل المفرد فيها منزلة الجمع في تناوله- الآحاد- مطابقة، لا كما ظنه بعض الأصوليين من أن مدلولها بطريق المطابقة في النفي كمدلولها في الإثبات، وجعل هذا التعدد والعموم وضعا هو المسوّغ لدخول بَيْنَ عليها هنا، ومن الناس من جوّز كون أَحَدٍ في الآية بمعنى واحد، وعمومه بدلي، وصحة دخول بَيْنَ عليه باعتبار معطوف قد حذف لظهوره بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وغيره، وفيه من الدلالة على تحقق التفريق بين كل فرد فرد منهم، وبين من عداه كائنا من كان ما ليس في أن يقال: لا نُفَرِّقُ بينهم- ولا يخفى ما فيه- والجملة حال من الضمير في آمَنَّا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي خاضعون لله تعالى بالطاعة، مذعنون بالعبودية، وقيل: منقادون لأمره ونهيه، ومن جعل الضمير المجرور لما تقدم ذكره من الأنبياء فقد أبعد، والجملة حال أخرى، أو عطف على آمَنَّا.
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا متعلق بقوله سبحانه: قُولُوا آمَنَّا إلخ، أو بقوله عز شأنه: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ إلخ، وإن- لمجرد الفرض والكلام من باب الاستدراج، وإرخاء العنان مع الخصم حيث يراد تبكيته، وهو مما تتراكض فيه خيول المناظرين- فلا بأس بحمل كلام الله تعالى عليه- يعني نحن لا نقول: إننا على الحق وأنتم على الباطل، ولكن إن حصلتم شيئا مساويا لما نحن عليه مما يجب الإيمان أو التدين به فقد اهتديتم ومقصودنا هدايتكم كيفما كانت، والخصم إذا نظر بعين الإنصاف في هذا الكلام وتفكر فيه علم أن الحق ما عليه المسلمون لا غير، إذ لا مثل لما آمنوا به، وهو ذاته تعالى وكتبه المنزلة على أنبيائه- ولا دين كدينهم- ف آمَنُوا متعدية- بالباء- ومثل- على ظاهرها، وقيل: آمَنُوا جار مجرى اللازم- والباء- إما للاستعانة والآلة والمعنى إن دخلوا في الإيمان بواسطة شهادة مثل شهادتكم قولا واعتقادا فَقَدِ اهْتَدَوْا أو فإن تحروا- الإيمان- بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق، كما قيل: الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق، والمقام مقام تعيين الدين الحق لا مقام تعيين شخص الطريق الموصل إليه ليأتي هذا التوجيه، وإما زائدة للتأكيد وما مصدرية وضمير بِهِ لله، أو لقوله سبحانه: آمَنَّا بِاللَّهِ إلخ بتأويل المذكور، أو للقرآن، أو لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والمعنى فَإِنْ آمَنُوا بما ذكر مثل إيمانكم به، وإما للملابسة، أي فآمنوا متلبسين بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ متلبسين به، أو فإن آمنوا إيمانا متلبسا بمثل ما آمنتم إيمانا متلبسا به من الإذعان والإخلاص وعدم التفريق بين الأنبياء عليهم السلام، وقيل: المثل مقحم كما في قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ [الأحقاف: ١٠] أي عليه، ويشهد له قراءة أبي «بالذي آمنتم به» وقراءة ابن عباس «بما آمنتم به» وكان رضي الله تعالى عنه يقول: اقرؤوا ذلك فليس لله تعالى مثل، ولعل ذلك محمول على التفسير لا على أنه أنكر القراءة المتواترة- وخفي عليه معناها- ومن الناس من قال: يمكن الاستغناء عن جميع ذلك بأن يقال: فإن آمن اليهود بمثل ما آمنتم كمؤمنيهم قبل التحريف، فإنهم آمنوا بمثل ما آمن المؤمنون. فإن فيما أوتي به النبيون في زمن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما أنزل إليه- ولم يكن ذلك قبله- إلا أن هذا التوجيه يقتضي إبقاء صيغة الماضي على معناها كما في قولهم: إن أكرمتني فقد أكرمتك، فتأمل انتهى.
وأنت تعلم أن المؤمن به لا يتصور فيه التعدد وإبقاء الكلام على ظاهره، والاستغناء عن جميع ما ذكر يستدعي وجود ذلك التعدد المحال، فماذا عسى ينفع هذا سوى تكثير القيل والقال، وتوسيع دائرة النزاع والجدال، فتدبر.
وَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإيمان المأمور به، أو عن قولكم في جواب قولهم.
فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي مخالفة لله تعالى- قاله ابن عباس- أو منازعة ومحاربة- قاله ابن زيد- أو عداوة- قاله الحسن- واختلف في اشتقاق- الشقاق- فقيل: من الشق أي الجانب، وقيل: من المشقة، وقيل: مأخوذ من قولهم: شق العصا إذا أظهر العداوة- والتنوين للتفخيم- والجملة جواب الشرط إما على أن المراد مشاقتهم الحادثة بعد توليهم عن الإيمان، وأوثرت الاسمية للدلالة على ثباتهم واستقرارهم على ذلك، وإما بتأويل فاعلموا.
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم وتفريح للمؤمنين بوعد النصر والغلبة وضمان التأييد والإعزاز على أبلغ وجه للسين الدالة على تحقق الوقوع البتة، أو للتذييل الآتي حيث إن السين في المشهور لا تدل على أكثر من التنفيس عقب ذكر ما يؤدي إلى الجدال والقتال، والمراد سيكفيك كيدهم وشقاقهم لأن الكفاية لا تتعلق
بالأعيان بل بالأفعال، وتلوين الخطاب بتجريده للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنه سبحانه أنجز وعده الكريم بما هو كفاية للكل من قتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير لما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مع الأصل والعمدة في ذلك وهو سلك حبات أفئدة المؤمنين ومطمح نظر كيد الكافرين، وللإيذان بأن القيام بأمور الحروب وتحمل المشاق ومقاساة الشدائد في مناهضة الأعداء من وظائف الرؤساء فنعمته تعالى في الكفاية والنصرة في حقه أتم وأكمل وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تذييل لما سبق من الوعد وتأكيد له أي هُوَ السَّمِيعُ لما تدعو به الْعَلِيمُ بما في نيتك من إظهار دينه فيستجيب لك ويوصلك إلى مرادك أو وعيد للكفرة بمعنى- يسمع- ما يبدون- ويعلم- ما يخفون مما لا خير فيه وهو معاقبهم عليه، وفيه أيضا تأكيد الوعد السابق فإن وعيد الكفرة وعد للمؤمنين صِبْغَةَ اللَّهِ الصبغة بالكسر فعلة من- صبغ- كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها- الصبغ- عبر بها عن التطهير بالإيمان بما ذكر على الوجه الذي فصل لأنه ظهر أثره عليهم ظهور- الصبغ- على- المصبوغ- وتداخل في قلوبهم تداخله فيه وصار حلية لهم فهناك استعارة تحقيقية تصريحية والقرينة الإضافة والجامع ما ذكر، وقيل: للمشاكلة التقديرية فإن النصارى كانوا- يصبغون- أولادهم بماء أصفر يسمونه المعمودية يزعمون أنه الماء الذي ولد فيه عيسى عليه الصلاة والسلام ويعتقدون أنه تطهير للمولود كالختان لغيرهم، وقيل: هو ماء يقدس بما يتلى من الإنجيل ثم تغسل به الحاملات، ويرد على هذا الوجه أن الكلام عام لليهود غير مختص بالنصارى اللهم إلا أن يعتبر أن ذلك الفعل كائن فيما بينهم في الجملة ونصبها على أنها مصدر مؤكد لقوله تعالى: آمَنَّا وهي من المصادر المؤكدة لأنفسها فلا ينافي كونها للنوع والعامل فيها- صبغنا- كأنه قيل- صبغنا الله صبغته- وقدر المصدر مضافا إلى الفاعل لتحقق شرط وجوب حذف عامله من كونه مؤكدا لمضمون الجملة إذ لو قدر منكرا لكان مؤكدا لمضمون أحد جزئيه أعني الفعل فقط نحو ضربت ضربا، وقيل: إنها منصوبة بفعل الإغراء أي الزموا- صبغة الله- لا عليكم وإلا لوجب ذكره- كما قيل- وإليه ذهب الواحدي، ولا يجب حينئذ إضمار العامل لأنه مختص في الإغراء بصورتي التكرار أو العطف كالعهد العهد وكالأهل والولد وذهب الأخفش والزجاج والكسائي. وغيرهم إلى أنها بدل من ملة إبراهيم وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار، وقوله تعالى: صِبْغَةَ تمييز منقول من المبتدأ نحو زيد أحسن من عمرو وجها- والتقدير- ومن صبغته أحسن من صبغة الله تعالى- كما يقدر وجه زيد أحسن من وجه عمرو، والتفضيل جار بين الصبغتين لا بين فاعليهما أي لا صبغة أَحْسَنُ من صبغته تعالى على معنى أنه أَحْسَنُ مِنَ كل صِبْغَةَ وحيث كان مدار التفضيل على تعميم- الحسن- للحقيقي والفرضي المبني على زعم الكفرة لم يلزم أن يكون في صِبْغَةَ غيره تعالى حسن في الجملة، والجملة معترضة مقررة لما في صبغة الله تعالى من التبجح والابتهاج أو جارية مجرى التعليل للإغراء وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ أي موحدون أو مطيعون متبعون ملة إبراهيم أو خاضعون مستكنون في اتباع تلك الملة، وتقديم الجار لإفادة اختصاص العبادة له تعالى، وتقديم المسند إليه لإفادة قصر ذلك الاختصاص عليهم، وعدم تجاوزه إلى أهل الكتاب فيكون تعريضا لهم بالشرك أو عدم الانقياد له تعالى باتباع ملة إبراهيم، والجملة عطف على آمَنَّا وذلك يقتضي دخول صبغة الله في مفعول قُولُوا لئلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي، وإيثار الجملة الاسمية للإشعار بالدوام، ولمن نصب صِبْغَةَ على الإغراء أو البدل أن يضمر قُولُوا قبل هذه الجملة معطوفا على الزموا على تقدير الإغراء، وإضمار القول سائغ شائع، والقرينة- السياق- لأن ما قبله مقول المؤمنين وأن يضمر اتبعوا في بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ لا نتبع ويكون قُولُوا آمَنَّا بدلا من اتبعوا بدل البعض لأن الإيمان داخل
في اتباع ملة إبراهيم فلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا بين البدل والمبدل منه بالأجنبي وما قيل: إنه يلزم الفصل ببدل الفعل بين المفعول، والمبدل منه ففيه أن قُولُوا ليس بدلا من الفعل
فقط بل الجملة بدل من الجملة فلا محذور، وأما القول- بأنه يمكن أن تجعل هذه الجملة حالا من لفظة الله في قوله سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً أي صبغته بتطهير القلب أو الإرشاد أو حفظ الفطرة أحسن الإصباغ حال إخلاص العبادة له- فليس بشيء كما لا يخفى قُلْ أَتُحَاجُّونَنا تجريد الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما أن المأمور به من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة والسلام، والهمزة للإنكار، وقرأ زيد، الحسن، وغيرهما بإدغام النون أي تجادلونا.
فِي اللَّهِ أي في دينه وتدعون أن دينه الحق اليهودية والنصرانية وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما، وقيل: المراد في شأن الله تعالى واصطفائه نبيا من العرب دونكم بناء على أن الخطاب لأهل الكتاب وسوق النظم يقتضي أن تفسر المحاجة بما يختص بهم، والمحاجة في الدين ليست كذلك والقرينة على التقييد قوله سبحانه قيل:
وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وبعد وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً حيث إنه تعريض بكتمان أهل الكتاب شهادة الله سبحانه بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وما روي في سبب النزول أن أهل الكتاب قالوا الأنبياء كلهم منا فلو كنت نبيا لكنت منا فنزلت، ولا يخفى عليك أن المحاجة في الدين على ما ذكرنا مختصة بهم على أن ظاهر السوق يقتضي ذمهم بما صار ديدنا لهم وشنشنة فيهم حتى عرفوا فيه، ومشركو العرب وإن حاجوا في الدين أيضا لكنهم لم يصلوا فيه إلى رتبة أهل الكتاب لما أنهم أميون عارون عن سائر العلوم جاهلون بوظائف البحث بالكلية نظرا إلى أولئك القائمين على ساق الجدال وإن القرينتين السابقة واللاحقة على التقييد في غاية الخفاء وأن ما روي في سبب النزول ليس مذكورا في شيء من كتب الحديث ولا التفاسير المعتبرة كما نص على ذلك الإمام السيوطي وكفى به حجة في هذا الشأن.
وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ جملة حالية أي أتجادلوننا والحال أنه لا وجه للمجادلة أصلا لأنه تعالى مالك أمرنا وأمركم وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ عطف على ما قبله أي لنا جزاء أعمالنا الحسنة الموافقة لأمره ولكم جزاء أعمالكم السيئة المخالفة لحكمه وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ في تلك الأعمال لا نبتغي بها إلا وجهه فأنى لكم المحاجة ودعوى حقية ما أنتم عليه والقطع بدخول الجنة بسببه ودعوة الناس إليه. والجملة حالية كالتي قبلها، وذهب بعض المحققين أن هذه الجملة كجملتي وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ اعتراض وتذييل للكلام الذي عقب به مقول على ألسنة العباد بتعليم الله تعالى لا عطف، وتحريره أن وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مناسب- لآمنا- أي نؤمن بالله وبما أنزل على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ونستسلم له وننقاد لأوامره ونواهيه وقوله تعالى:
وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ ملائم لقوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ لأنها بمعنى دين الله فالمصدر كالفذلكة لما سبق، وهذه الآية موافقة لما قبلها، ولعل الذوق السليم لا يأباه، وأما القول بأن معنى وَهُوَ رَبُّنا إلخ أنه لا اختصاص له تعالى بقوم دون قوم فيصيب برحمته من يشاء فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا كما أكرمكم بأعمالكم كأنه ألزمهم على كل مذهب يفتحونه إفحاما وتبكيتا فإن كرامة النبوة إما تفضل من الله تعالى فالكل فيه سواء، وإما إفاضة حق على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلي بالإخلاص فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله تعالى في إعطائها فلنا أيضا أعمال ونحن له مخلصون بها لا أنتم، فمع بنائه على ما علمت ركاكته غير ملائم لسباق النظم الكريم وسياقه بل غير صحيح في نفسه كما أفتى به مولانا مفتي الديار الرومية لما أن المراد بالأعمال من الطرفين ما أشير إليه من الأعمال الصالحة والسيئة ولا ريب أن أمر الصلاح والسوء يدور على موافقة الدين المبني على البعثة ومخالفته فكيف يتصور اعتبار تلك الأعمال في استحقاق النبوة واستعدادها المتقدم على البعثة بمراتب هذا؟! وقد اختلف الناس في الإخلاص،
فروي عن النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «سألت جبريل عن الإخلاص ما هو؟ فقال: سألت رب العزة عنه فقال: سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببته من عبادي»
وقال سعيد بن جبير: الإخلاص أن لا تشرك في دينه ولا تراء أحدا في عمله، وقال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله تعالى منهما، وقال حذيفة المرعشي: أن تستوي أفعال العبد في الباطن والظاهر، وقال أبو يعقوب: المكفوف أن يكتم العبد حسناته كما يكتم سيئاته، وقال سهل: هو الإفلاس، ومعناه احتقار العمل وهو معنى قول رويم- ارتفاع عملك عن الرؤية- قيل:
ومقابل الإخلاص الرياء، وذكر سليمان الداراني ثلاث علامات له. الكسل عند العبادة في الوحدة، والنشاط في الكثرة، وحب الثناء على العمل.
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى أَمْ إما متصلة معادلة للهمزة في أَتُحَاجُّونَنا داخلة في حيز الأمر والمراد بالاستفهام إنكارهما معا بمعنى كل من الأمرين منكر ينبغي أن لا يكون إقامة الحجة وتنوير البرهان على حقية ما أنتم عليه، والحال ما ذكر والتشبث بذيل التقليد والافتراء على الأنبياء عليهم السلام، وفائدة هذا الأسلوب مع أن العلم حاصل بثبوت الأمرين الإشارة إلى أن أحدهما كاف في الذم فكيف إذا اجتمعا كما تقول لمن أخطأ تدبيرا ومقالا: أتدبيرك أم تقريرك، وبهذا يندفع ما قاله أبو حيان من أن الاتصال يستدعي وقوع إحدى الجملتين والسؤال عن تعيين إحداهما وليس الأمر كذلك إذ وقعتا معا، وإما منقطعة مقدرة ببل والهمزة دالة على الإضراب والانتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقرأ غير ابن عامر، وحمزة والكسائي وحفص «أم يقولون» - بالياء- ويتعين كون أَمْ حينئذ منقطعة لما فيها من الإضراب من الخطاب إلى الغيبة ولا يحسن في المتصلة أن يختلف الخطاب من مخاطب إلى غيره كما يحسن في المنقطعة ويكون الكلام استئنافا غير داخل تحت الأمر بل وارد منه تعالى توبيخا لهم. وإنكارا عليهم، وحكى أبو جعفر الطبري عن بعض النحاة جواز الاتصال لأنك إذا قلت- أتقوم يا زيد أم يقوم عمرو- صح الاتصال، واعترض عليه ابن عطية بأن المثال غير جيد لأن القائل فيه واحد والمخاطب واحد والقول في الآية من اثنين والمخاطب اثنان غير أن يتجه معادلة أَمْ للهمزة على الحكم المعنوي كان معنى قُلْ أَتُحَاجُّونَنا أي يحاجون يا محمد أم يقولون، ولا يخفى أن القول بالانقطاع إن لم يكن متعينا فلا أقل من أنه أولى.
قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ أي لستم أعلم بحال إبراهيم عليه السلام في باب الدين بل الله تعالى أعلم بذلك وقد أخبر سبحانه بنفي اليهودية والنصرانية عنه، واحتج على انتفائهما عنه بقوله: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران: ٦٥] وهؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا فحالهم حاله فلم تدعون له ولهم ما نفى الله تعالى؟ فما ذلك إلا جهل غال ولجاج محض وَمَنْ أَظْلَمُ إنكار لأن يكون أحد أظلم مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً ثابتة.
عِنْدَهُ واصلة مِنَ اللَّهِ إليه وهي شهادته تعالى لإبراهيم عليه السلام بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية حسبما تلي آنفا، وجيء بالوصفين لتعليل الإنكار وتأكيده فإن ثبوت- الشهادة عنده- وكونها من جانب جناب العلي الأعلى عز شأنه من أقوى الدواعي إلى إقامتها وأشد الزواجر عن كتمانها، وتقديم الأول مع أنه متأخر في الوجود لمراعاة طريق الترقي والمعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب- حيث كتموا هذه الشهادة وأثبتوا نقيضها بما ذكر من الافتراء- والجملة تذييل يقرر ما أنكر عليهم من ادعاء اليهودية والنصرانية وتعليق الأظلمية بمطلق الكتمان للإيماء إلى أن مرتبة من يردها ويشهد بخلافها في الظلم خارجة عن دائرة البيان، أو لا أحد- أظلم منا لو كتمنا هذه- الشهادة- ولم نقمها في مقام المحاجة، والجملة حينئذ تذييل مقرر ما أوقع في قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ من أنهم
شاهدون بما شهد الله تعالى به مصدقونه بما أعلمهم، وجعلها على هذا من تتمة قُولُوا آمَنَّا لأنه في معنى إظهار الشهادة. وعلى الأول من تتمة قُلْ أَتُحَاجُّونَنا لأنه في معنى كتمانها ظاهر التعسف، ولا يخفى أن في الآية تعريضا بغاية أظلمية أهل الكتاب على نحو ما أشير إليه، وفي إطلاق الشهادة- مع أن المراد بها ما تقدم من الشهادة المعينة- تعريض بكتمانهم شهادة الله تعالى لنبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة والإنجيل، وفي ري الظمآن أن- من- صلة أَظْلَمُ والكلام على التقديم والتأخير كأنه قيل: ومن أظلم من الله ممن كتم شهادة حصلت عنده كقولك ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين للشهادة، والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه يهودا أو نصارى ثم إن الله تعالى كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عما لا يليق علمنا أن الأمر ليس كذلك، وقيل: إن مِمَّنْ صلة كَتَمَ والكلام على حذف مضاف- أي كتم من عباد الله شهادة عنده- ومعناه أنه تعالى ذمهم على منع أن يوصلوا إلى عباد الله تعالى، ويؤدوا إليهم شهادة الحق، ولا يخفى ما في هذين الوجهين من التكلف والتعسف وانحطاط المعنى فلينزه كتاب الله تعالى العظيم عنه، على أنك لو نظرت بعين الإنصاف رأيت الوجه الثاني من الأولين لا يخلو عن بعد لأن الآية إنما تقدمها الإنكار لما نسب إلى إبراهيم عليه السلام، ومن ذكر معه فالذي يليق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب لا مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأتباعه لأنهم مقرون بما أخبر الله تعالى به وعالمون بذلك فلا يفرض في حقهم كتمانه والتذييل الذي ادعي فيه خلاف الظاهر أيضا.
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد وتهديد لأهل الكتاب أي إن الله تعالى لا يترك أمركم سدى بل هو محصل لأعمالكم محيط بجميع ما تأتون وتذرون فيعاقبكم بذلك أشد عقاب، ويدخل في ذلك كتمانهم لشهادته تعالى وافتراؤهم على أنبيائه عليهم السلام، وقرىء- عما يعملون- بصيغة الغيبة فالضمير إما لمن كتم باعتبار المعنى أو لأهل الكتاب.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ تكرير لما تقدم للمبالغة في التحذير عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم كما يقال: اتق الله اتق الله، أو تأكيد وتقرير للوعيد يعني أن الله تعالى يجازيكم على أعمالكم ولا تنفعكم آباؤكم ولا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم بل عن أعمال أنفسكم، وقيل: الخطاب فيما سبق لأهل الكتاب، وفي هذه الآية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم، وقيل: المراد بالأمة في الأول الأنبياء وفي الثاني أسلاف اليهود لأن القوم لما قالوا في إبراهيم وبنيه: إنهم كانوا ما كانوا- فكأنهم قالوا- إنهم على مثل طريقة أسلافنا فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يعنوا بالآية، ولا يخفى ما في ذلك من التعسف الظاهر.
تم طبع الجزء الأول، ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني وأوله