آيات من القرآن الكريم

وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ

[محمد: ١٩] وكقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾ [النساء: ١٣٦]، في أحد الوجهين (١). وعند أصحاب هذا القول، لا يجوز على الأنبياء في سابقة حالهم الشرك والكبائر، بل عصمهم الله سبحانه ودفع عنهم مالم يدفع عن غيرهم. فأما محمد - ﷺ - فعامة أصحابنا: على أنه ما كفر بالله طرفةَ عينٍ، ولا كان مشركًا قطُّ. ثم قال بعضهم: كان قبل البَعْث على دين عيسى، ومنهم من قال: كان يعبد الله تعالى على دين إبراهيم. قال ابن كيسان: معنى (أسلم): أخلِصْ دينك لله بالتوحيد (٢) فيكون أصل الإسلام على هذا القول: من السلامة، كأنه يخلص دينه فيسلم من الشرك، والشك، وقال عطاء: أسلِمْ نفسَك إلى الله وفوِّض أمورَك إليه (٣).
وقوله تعالى: ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال ابن عباس: في رواية عطاء: يريد بقلبه ولسانه وجوارحه، فلم يعدل بالله شيئا، ورضي أن يُحرَق بالنار في رضى الله تعالى، ولم يستعن بأحد من الملائكة (٤).
١٣٢ - قوله تعالى: ﴿وَوَصَّى﴾ يقال: وصَّى يُوَصّي توصية (٥)، يكونُ المصدر منه على تفعلة، ولا يكون على تفعيل؛ لأنك لو جئت به على تفعيل

(١) ينظر: "البحر المحيط" ١/ ٣٩٦، "تفسير الفخر الرازي" ٤/ ٧١.
(٢) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١/ ١١٩٥، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٥، والبغوي ١/ ١٥٣، والقرطبي ٢/ ١٢٣، وهذا اختيار ابن كثير ١/ ١٩٨، وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" ١/ ٣٩٦.
(٣) ذكره عنه الثعلبي ١/ ١١٩٥، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٦، والبغوي في "تفسيره" ١/ ١٥٣ وأبو حيان في "البحر المحيط" ١/ ٣٩٥.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" بنحوه، وذكره البغوي في "تفسيره" ١/ ١٥٣.
(٥) المادة المذكورة في "الحجة" لأبي علي الفارسي ٢/ ٢٢٧ - ٢٢٨، "اللسان" ٨/ ٤٨٥٣ - ٤٨٥٤ (وصى).

صفحة رقم 338

للزم في حيّيتُ ونحوه أن يكون على تفعيل، فيجتمع ثلاث ياءات.
والوصاة: اسم من التوصية، يقوم مقام المصدر، يقال: وصَّاه وصاةً، كما يقال: كلَّمه كلامًا، قال الله تعالى: ﴿وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا﴾ [الأحزاب: ٤٩]، قال الشاعر:

ألا مَنْ مبلغٌ عَنِّي يزيدًا وَصاةً من أخي ثقةٍ وَدودِ (١)
المصدر من هذا الباب ينقسمُ إلى: تفعيل وتفعلة وفِعَّال ومُفَعَّل، قال الله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: ١٦٤] وقال: ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى﴾ [ق: ٨]. وقال: ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا﴾ [عم: ٢٨]. وقال: ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ: ١٩]. وفيما جاء على فِعال وهو اسم ينوب عن المصدر كما ذكرنا، إلا أن العربَ تُؤْثِر التَّفْعِلة على التفعيل في ذوات الأربعة، يقولون: وصَّيْتُه توصيةً، وصفّيْتُه تصفيةً. قال الله تعالى: ﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ [الواقعة: ٩٤]. وقال: ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾ [يس: ٥٠]. والعلةُ فيه ما ذكرنا، واشتقاقُ التوصية من قول العرب: وصَى الشيء، إذا اتصل، قال أبو عُبيد (٢): وَصَيْتُ الشيءَ ووَصَلْتُه سواء، قال ذو الرمة:
وصى الليل بالأيامِ حتى صلاتُنا مُقاسمةٌ يشتَقُّ أنصافَها السَّفْرُ (٣).
وفلاة واصية: تتصلُ بفَلاةٍ أخرى، وقال ذو الرمة:
(١) البيت بلا نسبة في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٠٢، "لسان العرب" ٨/ ٤٨٥٤ (وصى)، "المعجم المفصل" ٢/ ٢٥٦.
(٢) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٠٢ (وصى).
(٣) ينظر: "ديوانه" ص ٥٩٠، "لسان العرب" ٨/ ٤٨٥٤، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٠٢، "ديوان الأدب" ٣/ ٢٥٧، "أساس البلاغة" (وصى)، "المعجم المفصل" ٣/ ٢٨٢، ورواية " التهذيب" (نَصِي) بدل (وصى).

صفحة رقم 339

بين الرَّجَا والرَّجَا من جنبِ واصيةٍ يَهْمَاءُ خابطُها بالخوفِ مَكْعُومُ (١) (٢)
الأصمعي: وَصَى الشيءُ يَصي، إذا اتصلَ، ووَصَاه غيرُه يَصِيه، إذا وَصَلَه، لازمٌ وواقع (٣). ثعلب، عن ابن الأعرابي: الوصيُّ النباتُ الملتفُّ (٤)، وقيل لعلي - رضي الله عنه -: (وصيٌّ) (٥)، لاتصالِ نسبه وسببه (٦) وسمته بنسب النبي - ﷺ - وسببه وسمته، وسميت الوصيّةُ وصيةً؛ لاتصالها بأمر الميت، وقيل: لأنَّ الموصَى وصَلَها إلى الموصي إليه (٧).
وفي هذا الحرف قراءتان: وصَّى، وأوصى (٨)، ولهما أمثلة من الكتاب. فمثال التشديد قوله: ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾ [يس: ٥٠]، وقوله:
(١) ينظر: "ديوانه" ص٤٠٧، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٢٠، "لسان العرب" ٣/ ١٦٠٥، ٧/ ٣٨٩١، ٨/ ٤٨٥٤، "المعجم المفصل" ٧/ ٢١٨، ورواية "التهذيب"، و"اللسان" معكوم.
(٢) في (ش): (معكوم).
(٣) ذكره في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٠٢ (وصى).
(٤) المصدر السابق.
(٥) لم أجد في النصوص ما يدل على وصف علي -رضي الله عنه- بالوصي سواء بالمفهوم الذي ذكره المؤلف أو بمفهوم الرافضة. وقد بين شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ٤/ ٧٧ أن الرافضة خرج أولهم في زمن علي -رضي الله عنه- صاروا يدعون أنه خُص بأسرار من العلوم والوصية حتى كان يسأله عن ذلك خواص أصحابه فيخبرهم بانتفاء ذلك.. وقد خرج أصحاب الصحيح كلام علي هذا من غير وجه مثل ما في الصحيح عن أبي جحيفة، قال: سألت عليًا، هل عندكم شيء ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ماعندنا إلا ما في القرآن إلا فهمًا يعطيه الله لرجل في كتابه، وما في الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال. العقل وفكاك الأسير.
(٦) ذكره في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٠٢ (وصى).
(٧) ينظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٠٢، "لسان العرب" ٨/ ٤٨٥٤ (وصى).
(٨) قرأ نافع وابن عامر: (وأَوْصَى) بها وقرأ الباقون من السبعة: (وَوَصَّى). ينظر: "السبعة" ص ١٧٠، "الحجة" لأبي علي ٢/ ٢٢٧، "الحجة" لابن خالويه ص ٨٩.

صفحة رقم 340

﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ﴾ [الأحقاف: ١٥] ومثال الإفعال: قوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ [النساء: ١١] وقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ﴾ [النساء: ١٢] (١). قال الزجاج: ووَصَّى أبلغ من أَوْصَى؛ لأن أَوْصَى جائزٌ أن يكون قال لهم مرة واحدة، ووَصَّى لا يكون إلا لمرات كثيرة (٢).
وقوله تعالى: (بِهَا) اختلفوا في هذه الكناية، فقال بعضُهم: إنهَّا ترجع إلى الوصية؛ لأنه ذكر الفعلَ، والفعلُ يدُلُّ على المصدرِ وعلى الاسمِ منه، كقول الشاعر:
إذا نُهِيَ السفيهُ جرى إليه (٣)
أي: إلى السَّفَهِ، فدل السفيهُ على السَّفَهِ. وهذا قولُ أبي عبيدة، قال: وإن شئت رددتها إلى الملة؛ لأنه قد ذكر ملة إبراهيم (٤). وقال المفضَّلُ وجماعة: الكناية عائدة إلى غير مذكور، ثم اختلفوا إلى ماذا تعود؟ فقال المفضل: تعود إلى الطاعة (٥)، كأنه قال: ووصّى بالطاعة. وقال الكلبي (٦)

(١) "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٠٣.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢١١، وينظر: "البحر المحيط" ١/ ٣٩٧.
(٣) تمام البيت:
وخالف والسفيه إلى خلاف.
لم ينسب البيت لقائل. أنشده الفراء في "معاني القرآن" ١/ ٢٤٨، وثعلب في "مجالسه" ١/ ٦٠، وذكره في "خزانة الأدب" ٤/ ٣٣٥، وفي "الخصائص" ٣/ ٤٩، وفي "همع الهوامع" ١/ ٢٦٤.
(٤) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١/ ١٢٠٣، ونقله البغوي في "تفسيره" ١/ ١٥٣، وينظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢١١.
(٥) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١/ ١٢٠٣، وذكره ولم ينسبه أبو حيان في "البحر" ١/ ٣٩٧، والسمين في "الدر المصون" ١/ ٣٧٦.
(٦) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١/ ١٢٠٣، والواحدي في "البسيط" ١/ ١٢٠٤، والبغوي في "تفسيره" ١/ ١٥٣.

صفحة رقم 341

ومقاتل (١): يعني بكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله. والكناية عن غير مذكور جائزة كثيرة، كقوله تعالى: ﴿وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ [القصص: ٨٠] يعنى: الجنة لم يسبق لها ذكر، وقال: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ [ص: ٣٢] يعني: الشمس.
وقال طرفة (٢)؟

على مثلها أمضي إذا قال صاحبي ألا ليتني أَفْدِيكَ منها وأَفْتَدي (٣)
أي: من الفلاة، وقال بعضهم: رجعت الكناية إلى كلمةٍ سبقت، وهو قوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (٤).
وقوله تعالى: ﴿يَا بَنِيَّ﴾ قيل: أراد أن يا بني، فحذف (أن) كأنه قال: وصَّاهم أن يا بني، وكذلك هو في قراءة أُبي وابن مسعود، بإثبات أن (٥). قال الفراء: إنمَّا حذف (أن) لأن الوصية قول، وكل كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول (أن) وجاز إلقاؤه (٦)، كما قال: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ﴾ [النساء: ١١]، ولم يقل: أن للذكر، كأنّ معناه: قال الله: للذكر، فجرى الوصية على معنى القول. قال: وأنشدني الكسائي:
(١) "تفسير مقاتل" ١/ ١٤٠، "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٠٣، "تفسير البغوي" ١/ ١٥٣.
(٢) هو: طرفة بن العبد بن سفيان البكري، تقدمت ترجمته.
(٣) ينظر: "ديوانه" ص ٢٩، "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٠٤ "الإنصاف" لابن الأنباري ص ٨٥، "الدرر اللوامع على همع الهوامع" ٢/ ٢٦٩، والهاء في قوله: (منها) تعود إلى مضمر، وهي الصحراء المهلكة، وهو الشاهد حيث عادت على غير مذكور.
(٤) كذا في "البحر المحيط" ١/ ٣٩٨.
(٥) كذا في "معاني القرآن" للفراء ١/ ٨٠، "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٠٧، "شواذ القراءة" ص ٣٢، "تفسير القرطبي" ٢/ ١٢٥.
(٦) في (م): كأنها (الغاوه).

صفحة رقم 342

إني سأبدي لك فيما أبدي
لي شَجَنان شجن بنجد
وشَجَنٌ لي ببلاد السند (١)
ولم يقل: أن لي؛ لأن الإبداء بلسانه في معنى القول، قال: ومثله قوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ [المائدة: ٩]، لأن العِدَةَ قولٌ، وإذا جعلت الوصية بمعنى القول لا يحسن أن يقال: أراد أن يا بني فحذف؛ لأنه لا يحتاج إلى إضمار أن مع القول (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى﴾ قال أبو إسحاق: إنما كسرت (إنّ) لأن معنى وصى وأوصى: قول، والمعنى: قال لهم: إن الله اصطفى (٣). قال ابن عباس: إن إبراهيم قال لبنيه: لا تَعْدِلُوا بالله شيئًا، وإن نُشرتم بالمناشير وقُرضتم بالمقاريض وحُرقتم بالنار (٤).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى﴾ يريد: دين الإسلام دين الحنيفية، والألف واللام فيه للعهد لا للجنس؛ لأنه لم يختر جميع الجنس من الدين، إنما اختار دين الإسلام على سائر الأديان (٥).
وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ قال الفراء في كتاب

(١) الرجز ذكره الفراء، عن الكسائي في "معاني القرآن" ١/ ٨٠، وهو بلا نسبة في "تفسير الطبري" ١/ ٥٦١، "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٠٧، "المخصص" ١٢/ ٢٢٣، "مقاييس اللغة" ٣/ ٢٤٩.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٨٠
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢١١.
(٤) ذكره في "الوسيط" ١/ ٢١٦، "تفسير ابن عباس" ص ١٩.
(٥) "البحر المحيط" ١/ ٣٩٩.

صفحة رقم 343
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
الناشر
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
سنة النشر
1430
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية