
الله تعالى دعاءَهما، فبعث جبريل، فأراهما المناسك في يوم عرفة، فلمَّا بلغ عرفات قال: عرفت يا إبراهيم! قال إبراهيم: نعم، فَسمِّي ذلك الوقت عرفة، والموضع عرفات. وفي قراءة ابن مسعود ﴿وأرهِم مناسكَهم﴾ بإعادة الضمير إلى الذرية. وقرأ (١) ابن كثير، والسُّوسيُّ عن أبي عمرو، ويعقوب ﴿أرْنَا﴾ بإسكان الراء قياسًا على فخذ في فخذٍ، ولكن أبو عمرو يُشِمُّ الكسرة، وقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصًّا عن العرب، قال الشاعر:
أَرْنَا إدَاوَةَ عَبْدِ الله نَمْلَؤُهَا | مِنْ مَاءِ زَمْزَمٍ إنَّ القَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا |
١٢٩ - ﴿رَبَّنَا﴾ ﴿و﴾ يا مَالِكَ أمرِنا ﴿ابعث﴾ وأرسل ﴿فِيهِمْ﴾؛ أي: في جماعة الأمة المسلمة من أولادنا، وهم

العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ﴿رَسُولًا﴾ ونبيًّا ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من أنفسهم ونسبهم، ولم يبعث من ذريتهما غير محمد - ﷺ -، فهو المجاب به دعوتهما، كما قال - ﷺ -: "أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أُمي التي رأت حين وضعتني، وقد خرج لها نور ساطع أضاءت لها منه قصور الشام" أخرجه أحمد من حديث العرباض بن سارية. وقال: ﴿مِنْهُمْ﴾ ولم يقل: فيهم؛ لأنَّ البعث فيهم لا يستلزم البعث منهم، بل يكون منهم، ومن غيرهم. وجملة قوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: يقرأ عليهم ﴿آيَاتِكَ﴾؛ أي: آيات القرآن صفةٌ لرسولًا؛ أي: رسولًا يملي عليهم آياتك القرآنية ليأخذوها منه، ويتعلَّموها، أو يأمرهم بتلاوة القرآن، وحفظ ألفاظه، أو يقرؤها عليهم ويبلِّغها إياهم بلا كتمان شيءٍ منها.
﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ معطوف على يتلو؛ أي: يعلِّمهم بحسب قوَّتهم النظريَّة معاني الكتاب والقرآن، بتعليمهم ما فيه من دلائل التوحيد، والنبوة، والأحكام الشرعية، فلمَّا ذكر الله تعالى أوَّلًا أمر التلاوة، وهي حفظ القرآن، ودراسته؛ ليبقى مصونًا من التحريف والتبديل، وفيه إشارةٌ إلى فنِّ القراءة، وما يتعلَّق به، ذكر بعده تعليم معانيه، وحقائقه، وأسراره، وفيه إشارةٌ إلى فنِّ التفسير، وما يتعلَّق به ﴿وَ﴾ يعلمهم ﴿الحكمة﴾؛ أي: السنة والحديث، وفهم ما في القرآن، قاله قتادة، وفيه إشارةٌ إلى فنِّ الحديث، وما يتعلَّق به درايةً وروايةً، أو يعلِّمهم ما يُكمّل به نفوسهم من المعارف الحقّة، والأحكام الشرعيَّة. قال أبو بكر ابن دريد: وكُلُّ كلمةٍ وَعَظَتْك، أودعتك إلى مكرمةٍ، أو نَهَتْك عن قبيحٍ، فهي حكمةٌ ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ بحسب قوّتهم العمليَّة؛ أي: يطهِّرهم عن دنس الشرك والوثنيَّة، وفنون المعاصي، سواء كانت بترك الواجبات، أو بفعل المنكرات، وفيه إشارةٌ إلى علم العقائد. ثمَّ إنّ إبراهيم لمَّا ذكر هذه الدعوات الثلاث، ختمها بالثناء على الله تعالى؛ لأنّه أرجى للقبول، فقال: ﴿إِنَّكَ﴾ يا ربَّنا! ﴿أَنْتَ الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب الذي لا يغالب ويقهر على ما يريد ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي لا يفعل إلّا ما تقتضيه الحكمة البالغة، والمصلحة العامَّة لعباده، فهو سبحانه عزيزٌ حكيمٌ بذاته، وكُلُّ ما سواه ذليلٌ جاهلٌ في نفسه.