
وكلامهم هذا يتضمن أن ملتهم هى الهدى لا ما سواها، ومن ثم ردّ الله عليهم بقوله آمرا نبيّه.
(قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى) أي إن الهدى هو ما أنزله الله على أنبيائه، لا ما أضافه إليه اليهود والنصارى بالهوى والتشهي، ففرقوا دينهم وكانوا شيعا، كلّ شيعة تكفر الأخرى وتقول إنها ليست على شىء.
(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي ولئن اتبعت ما أضافوه إلى- دينهم وجعلوه أصلا من أصول شريعتهم بعد ما حصل لك من اليقين والطمأنينة بالوحى الإلهى الذي نزل عليك، ومنه علمت أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه بالتأويل، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به.
(ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي فالله لا ينصرك ولا يساعدك على ذلك، إذ أن اتباع الهوى لا يكون طريقا موصلا إلى الهدى، وإذا لم ينصرك الله ويتولّ شئونك فمن ذا الذي ينصرك من بعده؟
وهذا الإنذار الشديد والوعيد والتهديد وإن كان موجها إلى النبي ﷺ الذي عصمه الله من الزيغ والزلل وأيده بالكرامة، هو في الحقيقة خطاب للناس كافة فى شخص النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جرى العرف في خطاب الملوك أن يقال للملك:
إذا فعلت كذا كانت العاقبة كذا، ويراد إذا فعلته دولتك أو أمتك.
والكلام هنا جاء على هذا الأسلوب ليرشد من يأتي بعده أن يصدع بالحق، وينتصر له ولا يبالى بمن خالفه مهما قوى حزبه واشتدّ أمره، فمن عرف الحقّ وعرف أن الله ولىّ أمره وناصره لا يخاف في تأييده لوم اللائمين، ولا إنكار المعاندين.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢١ الى ١٢٣]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)

المعنى الجملي
هذه الآيات سيقت استدراكا على ما قبلها، فإن ما تقدم كان تيئيسا للنبى ﷺ والمؤمنين من إيمان أهل الكتاب وسلب ما كان يخالج نفوسهم من الرجاء، وهنا أرشد إلى أن فريقا منهم يرجى إيمانهم وهم الذين يتدبرون كتابهم ويميزون بين الحق والباطل ويفهمون أسرار الدين ويعلمون أن ما جئت به هو الحق الذي يتفق مع مصالح البشر، فهو الذي يهذب نفوسهم، ويصفى أرواحهم، وينظم معايشهم، وبه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
وبعد أن أقام عليهم الحجة دعاهم وناداهم وطلب إليهم أن يتركوا الغرور المانع لهم من الإيمان، إذ لا ينبغى لمن كرمه الله وفضله على غيره من الشعوب أن يكون حظه من كتابه كحظ الحمار يحمل أسفارا.
الإيضاح
(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي ومن أهل الكتاب طائفة تقرأ التوراة قراءة تأخذ بمجامع قلوبهم، وتدخل في شغاف أفئدتهم، فيراعون ضبط لفظها ويتدبرون معناها، ويفقهون أسرارها وحكمها، أولئك هم الذين يعقلون أن ما جئت به هو الحق، فيؤمنون به ويهتدون بهديه إلى سواء السبيل كعبد الله ابن سلام وأضرابه ممن آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ومن يكفر بما أنزل إليك بعد أن تبين

له أنه الحق من الرؤساء المعاندين، والجهال المقلدين (وكثير ما هم) فأولئك هم الذين خسروا سعادة الدنيا والمجد والسيادة التي يعطيها الله من ينصر دينه، كما قال تعالى:
(وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) وخسروا نعيم الآخرة، وحقّ عليهم العذاب الذي أعدّه الله للكافرين.
وكفرانهم به آت إما بتحريف كتابهم المبشر به حتى لا تنطبق البشارة عليه، ليوافق أهواءهم، وإما بإهماله اكتفاء بقول علمائهم الذين أضافوا إلى التوراة ما شاءوا ليشتروا به ثمنا قليلا.
وفي الآية إيماء إلى أن الذين يتلون الكتاب دون أن يتدبروا معانيه، لا حظ لهم من الإيمان، لأنهم لا يفقهون هداية الله فيه، ولا تصل العظة إلى أفئدتهم بتلاوته.
وفي هذا عبرة لنا كما قال: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) فينبغى أن يكون ذلك حافزا لنا في تدبر القرآن وفهمه، لا قراءته لمجرد التلاوة كما قال تعالى:
(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) وقال: (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ).
ولكن وا أسفا إن كل هذه الآيات والعبر لم تحل بين هذه الأمة وتقليدها من قبلها وحذوها حذوهم شبرا فشبرا وباعا فباعا، والقرآن حجة عليها كما جاء في الحديث (والقرآن حجة لك أو عليك).
ومن يتله وهو معرض عن تدبره والتأمل في العبرة منه يكن كالمستهزئ بربه، وما مثله إلا مثل من يرسل كتابا إلى آخر لغرض خاص فيقرؤه المرسل إليه مثنى وثلاث ورباع، ويترنم به ولا يلتفت إلى معناه، ولا يكلف نفسه إجابة ما طلب فيه، أيرضى المرسل بمثل هذا ويكتفى به عن إجابة طلبه أم يعدّه استهزاء به؟
فعلى المؤمن في كل زمان ومكان أن يتلوا القرآن بالتدبر والفهم والعمل بما فيه، فإن كان أمّيّا أو أعجميّا فإنه ينبغى أن يطلب من أهل الذكر أن يفهموه معناه ويشرحوا له مغزاه.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) هذا عظة لليهود الذين كانوا في عصر التنزيل، وتذكير لهم بما سلف من نعمة الله على آبائهم بإنقاذهم من أيدى عدوهم وإنزاله المنّ والسلوى عليهم، وتمكينه لهم في البلاد بعد أن كانوا أذلاء مقهورين، وإرساله الرسل منهم وتفضيلهم على غيرهم ممن كانوا بين ظهرانيهم حين كانوا مطيعين للرسل مصدّقين لما جاءهم من عند ربهم- حتى يتركوا التمادي فى الغى والضلال ويثوبوا إلى رشدهم.
ومن أجلّ ما أنعم به عليهم التوراة التي أنزلت عليهم، وذكرها يكون بشكرها، وشكرها يكون بالإيمان بجميع ما جاء فيها، ومن جملته وصف النبي ﷺ فهو المبشّر به فيها.
(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) تقول جزى عنى هذا الأمر يجزى كما تقول قضى يقضى، زنة ومعنى، أي واتقوا يا معشر بنى إسرائيل المبدّلين كتابى، المحرفين له عن وجهه، المكذبين برسولى محمد صلى الله عليه وسلم- عذاب يوم لا تقضى فيه نفس عن نفس شيئا من الحقوق التي لزمتها، فلا تؤخذ نفس بذنب أخرى، ولا تدفع عنها شيئا كما
ورد في الصحيحين «يا فاطمة بنت محمد سلينى من مالى ما شئت لا أغنى عنك من الله شيئا».
(وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) العدل الفدية: أي لا يؤخذ من نفس فدية تنجو بها من النار، إذ هى لا تجد ذلك لتفتدى به، ولا يشفع فيما وجب عليها من حقّ شافع، وقد كانوا يعتقدون بالمكفّرات تؤخذ فدية عما فرطوا فيه، وبشفاعة أنبيائهم لهم، فأخبرهم الله أنه لا يقوم مقام الاهتداء به شىء آخر.
(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي إنه لا يأتيهم ناصر ينصرهم فيمنع عذاب الله عنهم إذا نزل بهم.
وهذا ترهيب لمن سلفت عظتهم في الآية قبلها.