
جريج أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم: «ليت شعري ما فعل أبواي ثلاثا فأنزلها الله». وقد فند الطبري الرواية وأول الجملة بتأويل مماثل لتأويلنا.
وهذه الجملة قد تكررت في مقامات عديدة نصا أو معنى ولا سيما في العهد المكي للهدف نفسه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة ويظهر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاءها في هذا المقام في صدد ما كان من شدة إنكار اليهود وجحودهم ودسائسهم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا رواه البخاري أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تعالى كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأمّا شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ ولدا» «١». وفي الحديث تنديد رباني بالمشركين والجاحدين لليوم الآخر بأسلوب آخر غير الأسلوب القرآني الذي تكرر ذلك كثيرا لحكمة يعلمها الله ورسوله.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٣]
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)
. تعليق على الحلقة الرابعة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في اليهود في هذه السورة
وجّه الخطاب في الآية الأولى للنبي صلّى الله عليه وسلّم لتقرر له فيها بأن اليهود والنصارى

لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ويسير على طريقتهم، ولتأمره بالرد عليهم بأن هدى الله الذي هداه إليه هو الهدى الصحيح ولتنبهه بأنه لو اتبع أهواءهم بعد ما جاءه من العلم الذي فيه الحق والهدى لتخلّى الله عن نصرته ولما وجد له من دونه وليا ولا نصيرا.
وفي الآية الثانية إشارة تنويهية إلى الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته ممن آتاهم الله الكتاب. فهؤلاء هم الذين يعرفون الحق الذي فيه ويسيرون على هداه ولا يمارون فيه، أما الذين يكفرون بالحق والهدى منهم فإنهم الخاسرون.
وفي الآيتين الثالثة والرابعة خطاب إنذاري وتذكيري موجه إلى بني إسرائيل ليذكروا نعمة الله عليهم وما كان من تفضيله إياهم على الناس وليتقوا هول اليوم الآخر الذي لا تغني فيه نفس عن نفس، ولا يقبل فيه بدل ولا عدل، ولا تنفع فيه شفاعة ولا يكون لأحد نصر من أحد.
ولقد ذكر المفسرون في صدد الآية الأولى أن كلا من اليهود والنصارى كانوا يطلبون من النبي صلّى الله عليه وسلّم المهادنة ويأملون أن يتبع ملتهم ويراودوه على ذلك ليؤمنوا به. ومما ذكروه كذلك أن كلا منهم كان يطلب منه الثبات على استقبال المسجد الأقصى لأنه قبلتهم حتى يؤمنوا برسالته فنزلت للرد عليهم وتحذير النبي صلّى الله عليه وسلّم من وساوسهم. ويتبادر لنا أن اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى في الآية وأن ذكر النصارى هو للتعبير عن لسان حال الذين تمسكوا بنصرانيتهم كما رجحنا ذلك بالنسبة للآية: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى وأن اليهود قد اضطربوا وانفعلوا حينما تحول سمت القبلة عن قبلتهم إلى المسجد الحرام فحاولوا خداع النبي صلّى الله عليه وسلّم أو إغراءه، والخطاب موجه لبني إسرائيل فقط في الآيتين الأخريين حيث يدعم هذا ترجيحنا كون اليهود هم الموضوع الرئيسي في السلسلة الطويلة وكون ذكر النصارى هو من باب الاستطراد.
ولقد روى المفسرون أربعة أقوال في من عنتهم الآية الثانية، منها قولان عن ابن عباس واحد يذكر أنهم جماعة من الأحباش آمنوا وقدموا المدينة مع جعفر بن

أبي طالب حين رجع من الهجرة الأولى، وواحد يذكر أنهم جماعة من الروم فيهم بحيرا الراهب، وقول عن الضحاك أنهم الذين آمنوا من اليهود مثل عبد الله بن سلام. وقول عن عكرمة أنهم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وليس شيء من الروايات واردا في الصحاح. ورواية الحبشة بعيدة لأن جعفر رجع بعد صلح الحديبية وإجلاء اليهود عن المدينة والآيات تفيد أنهم كانوا ما يزالون فيها. وجماعة النصارى ورد فيها آيات في سورة المائدة، ونعت الجماعة بالذين آتيناهم الكتاب يجعل صرفها إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير سائغ. والسياق في اليهود بحيث يسوغ الترجيح بكونهم من اليهود الذين آمنوا. وفي سورة النساء آية صريحة بأن بعض الراسخين في العلم من اليهود آمنوا برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكانوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهي الآية [١٦٢].
ولقد اختلف المفسرون في عائدية ضمير الغائب في بِهِ في الآية الثانية.
فمنهم من قال إنه عائد إلى القرآن ومنهم من قال إنه عائد إلى كتب أهل الكتاب.
والمقام يتحمل هذا وذاك ونحن نرجح القول الأول الذي عبر عنه بكلمة الْعِلْمِ في الآية الأولى. فتكون الآية الثانية بذلك مع ظرفية نزولها قد انطوت على تقرير عام مستمر المدى بأن كل من يتلو كتب الله حق تلاوتها وتفهمها حق الفهم من أهل الكتاب لا بد من أن يؤمن برسالة محمد وبما أنزله الله عليه. وهذا تقرير صادق دامغ، ولقد أخبرنا الله في آيات عديدة مثل الأنعام [١٩ و ١٠٠] والأعراف [١٥٧] والصف [٦] أن اليهود والنصارى يجدون صفات محمّد في التوراة والإنجيل وأن عيسى بشّر به، وأن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن القرآن منزل من الله. ولقد كانت هذه الآيات تتلى علنا ويسمعها أهل الكتاب وقد علموا ما فيها من حق وصدق فآمن منهم من استطاع أن يتغلب على أنانيته ومنافعه وإذا كان أهل الكتاب اليوم يقولون إن ذلك ليس في التوراة والإنجيل فإن التوراة والإنجيل ليسا في أيديهم وقد فقدا، وإن ما في أيديهم مكتوب بأقلام متأخرة وقد طرأ عليها تحريف وتبديل وشيبت بالتناقض على ما شرحناه في سياق شرحنا للتوراة والإنجيل في تفسير سورة الأعراف.

هذا وننبه على أنه ليس من محل للتوهم من سبك جملة: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مال إلى اتباع ملة اليهود أو النصارى فالجملة أسلوبية ورد مثلها في مقامات عديدة بهدف تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وبثّ الثقة والحذر في نفسه وحسب.
ولعل من مقاصد التحذير من اتباع أهواء اليهود والنصارى التنبه على ما كانوا عليه حين نزول الآيات من خلاف ونزاع وانقسام إلى شيع وأحزاب في الدين وانحرافات وشذوذ عن الأصل الذي تتطابق معه الدعوة الإسلامية. ثم الاستدراك لما عسى أن يوجه إلى القرآن والنبي من نقد بسبب الحملة عليهم وتقرير ضلالهم بعد تقريرهما هذا التطابق، وتقرير كون التطابق هو مع الأصل الصافي الذي حرفوه وانحرفوا عنه.
وإلى هذا ففي هذا التحذير تلقين جليل مستمر المدى في وجوب الثبات على الأصل الصافي للرسالة المحمدية التي يمثلها القرآن والسنة وعدم الانحراف عنهما واتباع الهوى وتأويلهما كما فعل الكتابيون ذلك.
ومع أن جملة يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ هي في صدد أهل الكتاب وكتبهم فإن أهل التأويل والمفسرين وقفوا عندها لاستنباط حكم عام منها على المسلمين بالنسبة للقرآن وقالوا إنها توجب عليهم أن يتدبروا أحكامه ويتمعنوا في محتواه ويتبعوا أوامره ونواهيه حق الاتباع. وأوردوا قولا لابن مسعود جاء فيه: «والذي نفسي بيده إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرّف الكلام عن مواضعه ولا يتناول شيئا على غير تأويله». وذكر القاسمي الذي نقلنا عنه هذا أن قولا مثله مروي عن ابن عباس أيضا وهذا حق في ذاته بل هو تحصيل حاصل بدون ضرورة إلى استنباطه من الجملة التي لا شك في أنها في صدد أهل الكتاب وكتبهم.
وقد يناسب هذا إشارة إلى ما عليه جمهور المسلمين من تلاوة للقرآن تلاوة آلية للتعبد وحسب، ومع أن تلاوة القرآن لذاتها وسيلة قربى إلى الله فإنهم على