آيات من القرآن الكريم

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ

قال البيضاوي: واعلم أن السبب في هذه الضلالة أن أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون الأب على الله تعالى، باعتبار أنه السبب الأول، حتى قالوا: إن الأب هو الرب الأصغر، والله تعالى هو الرب الأكبر، ثم ظنّ الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة، فاعتقدوا ذلك تقليداً، ولذلك كفر قائله ومنع منه مطلقاً حسماً لمادة الفساد. هـ.
الإشارة: اعلم أنك إذا نظرت بعين البصيرة، أو بحق البصيرة، إلى الوجود بأسره، وجدته ذاتاً واحدة، ونسبته من الحق نسبة واحدة، أنوار ظاهرة، وأسرار باطنة، حكمته ظاهرة، وقدرته باطنة حسن ظاهر، ومعنى باطن، عبودية ظاهرة، وأسرار معاني الربوبية باطنة إذ لا قيام للعبودية إلا بأسرار معاني الربوبية، قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا، وقال تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وقال في الحكم: «الأكوان ظاهرها غرة وباطنها عبرة، فالنفس تنظر إلى ظاهر بهجتها، والقلب ينظر إلى باطن عبرتها». فأهل الفَرْقِ يثبتون الأشياء مستقلة مع الله، وربما تغالى بعضهم فأشركها معه في الألوهية، فتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً.
قال محيي الدين الحاتمي: من رأى الخلق لا فعلَ لهم فقد فاز، ومن رآهم لا حياة لهم فقد جاز، ومن رآهم بعين العدم فقد وصل. هـ. قلت: ومن أثبتهم بالله فقد تمكن وصاله، وأنشدوا:

مَن أبصرَ الخلقَ كالسرابِ فقَد تَرقَّى عن الحجابِ
إِلى وُجودٍ تراهُ رَتْقاً بِلاَ ابتعادٍ ولا اقْتِرابِ
ولم تُشَاهِدْ به سواهُ هناك تهدي إلى الصوابِ
فَلا خِطابَ بِه إليهِ وَلا مُشِيرَ إلى الخطابِ. هـ.
ولما قال رافع بن حريملة- من أحبار يهود- للرسول صلّى الله عليه وسلّم: أسمعنا كلام الله إن كنت رسوله، أو أرنا آية تصدقك، ردّ الله تعالى عليه، فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٨ الى ١١٩]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩)

صفحة رقم 158

قلت: هذه المقالة صدرت من بعض اليهود والمشركين، قالوا ذلك تعنتاً وعناداً، لا طلباً لليقين، فلذلك نفى الله عنهم العلم رأساً، والمقصود في هذه الآيات كلها توبيخ اليهود.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الَّذِينَ لا علم عندهم: هلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ حتى نسمع منه أنك رسوله، أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ ظاهرة، نراها جهرة تدل على رسالتك، كما كانت لموسى- عليه السلام-.
وهذه المقالة التي صدرت من اليهود، تَعنتاً وعناداً، قد صدرت ممن قبلهم من أسلافهم، فقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، ومن النصارى فقالوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ، ومن المشركين فقالوا:
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً الآية. فقد تماثلت قلوبهم في الكفر والعناد، وتشابهت في العتو والفساد، قد أوضحنا لك الآيات البينات، تحقق رسالتك وتقرر اصطفائيتك، لمن طلب مزيد الإيقان، وكشف البيان على نعت العيان، فأعظمُها القرآن، ثم ما أوضحته من شرائع الأحكام، وما بينته من الحلال والحرام، ثم ما أخبرت به من الغيوب، وما كشفته عن القلوب من الكروب، ثم نطق الجمادات والأحجار، كحنين الجذع وانقياد الأشجار، وتسبيح الحصى، وتسليم الحجر، وقد نبع الماء من بين أصابعه وانهمر، إلى ما لا يعد ولا يحصى.
فقد أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ، أي: متلبساً بالحق ومبيناً له، بَشِيراً لمن صدقك واتبعك بالنعيم المقيم، ونَذِيراً لمن خالفك بعذاب الجحيم. فلا تسأل عن حالهم إذا أفضوا إليه، فإنه أعظم من أن يذكر، وأفظع من أن يسمع، إذ لا يمكن تفسير حالهم، ولا يستطيع أحد سماع أهوالهم، فالله يعصمنا من موارد الردى، ويوفقنا لاتباع الحق والهدى، أو لا يسألك ربك عنهم فهو أعلم بحالهم، وبالله التوفيق.
الإشارة: طلب الكرامات وظهور الآيات من طبع أهل الجهل والعناد، وليس هو من شيم أهل الهداية والاسترشاد. فالطريق واضح لمن طلب السبيل، والحق لائح لمن أبصر الدليل، فمن كَحل عين بصيرته بإثمد التوحيد الخاص، لم يقع بصره إلا على الحق، ولا يعرف إلا إياه، ورأى الأشياء كلها قائمة بالله، بل لا وجود لها مع الله، ومن فتح الله سمع قلبه لم يسمع إلا من الحق، ولا يسمع إلا به، كما قال القائل: أنا بالله أنطق ومن الله أسمع.
وقال الجنيد رضي الله عنه: (لي أربعون سنة أُناجي الحق، والناس يَروْن أني أناجى الخلق). فالخلق محذوفون عند أهل العلم بالتحقيق، مُثْبَتُونَ عند أهل الجهل والتفريق. يقولون: لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية، مع أنه يكلمهم في كل

صفحة رقم 159
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
أبو العباس أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني الأنجري الفاسي الصوفي
تحقيق
أحمد عبد الله القرشي رسلان
الناشر
الدكتور حسن عباس زكي - القاهرة
سنة النشر
1419
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية