: ﴿واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين﴾ : هذه الجملة معطوفة على مجموع الجملة السابقة من قوله: «ولما جاءهم» إلى آخرها.
وقال أبو البقاء: إنها معطوفة على «أشربوا» أوع لى «نبذ فريق»، وهذا ليس بظاهر؛ لأن عطفها على «نبذ» يقتضي كونها جواباً لقوله تعالى: ﴿وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ﴾.
واتِّباعُهُم لما تتلو الشياطين ليس مترتباً على مجيء الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام بل كان اتباعهم لذلك قبله، فالأولى أن تكون معطوفة على جملة «لما» كما تقدم، و «ما» موصولة، وعائدها محذوف، والتقدير: تتلوه.
وقيل: «ما» نافية، وهو غلط فاحش لا يقتضيه نظم الكلام، [ذكره] ابن العربي.
و «يتلو» في معنى «تلت» فهو مضارع وقاع موقع الماضي؛ كقوله: [الكامل]
٦٩٢ - وَإِذَا مَرَرْتَ بِقَبْرِهِ فَاعْقِرْ بِهِ | كُومَ الهِجَانِ وَكُلَّ طَرْفٍ سَابِحِ |
واتْضَحْ جَوَانِبَ قَبْرِ بِدِمَائِهَا | فَلَقَدْ يَكُونُ أَخَا دَمٍ وَذَبَائِحِ |
وقال الكوفيون: الأصل: وما كانت تتلو الشياطين، ولا يريدون بذلك أن صلة «ما» محذوفة، وهي «كانت» و «تتلو» في موضع الخبر، وإنما قصدوا تفسير المعنى، وهو صفحة رقم 323
نظير: «كان زيد يقوم» المعنى على الإخبار، وبقيامه في الزمن الماضي، وقرأ الحسن والضحاك «الشياطون» إجراء له مجرى جمع السَّلامة، قالوا: وهو غلط. وقال بعضهم: لحن فاحش.
وحكى الأصمعي «بُسْتَانُ فُلاَنٍ حَوْلَهُ بساتون» وهو يقوي قراءة الحسن.
قوله تعالى: ﴿على مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ فيه قولان:
أحدهما: أنه على معنى «في»، أي: في زمن ملكه، والمُلْكُ هنا شَرْعه.
والثاني: أن يضمن تتلوا معنى تَتقوَّل أي: تقول على ملك سليمانن وتَقَوَّل يتعدى بعلى، قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل﴾ [الحاقة: ٤٤].
وهذا الثاني أولى، فإن التجوّز في الأفعال أولى من التجوّز في الحروف، وهو مذهب البصْريين كما تقدم وإنما أحْوَجَ إلى هذين التأويلين؛ لأن تلا إذا تعدَّى ب «على» كان المجرور ب «على» شيئاً يصحّ أن يتلى عليه نحو: تلوت على زيد القرآن، والملك ليس كذلك.
قال أبو مسلم: «تتلو» أي: تكذب على ملك سليمان يقال: تلا عليه: إذا كذب وتلا عنه إذا صدق. وإذا أبهم جاز الأمران.
قال ابن الخطيب: أي يكون الذي كانوا يخبرون به عن سليمان مما يتلى ويقرأ فيجتمع فيه كل الأوصاف، والتلاوة: الاتباع أو القراءة وهو قريب منه.
قال أبو العباس المقرىء: و «على» ترد على ثلاثة أوجه:
الأول: بمعنى «في» كهذه الآية.
وبمعنى «اللام»، قال تعالى
﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ﴾ [الأنعام: ١٥٤] أي: للذي.
وبمعنى «» من «، قال تعالى: ﴿الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ﴾ [المطفيين: ٢] أي: من الناس يستوفون.
و» سليمان «علم أعجمي، فلذلك لم ينصرف.
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى:» وفيه ثلاثة أسباب: العُجْمة والتَّعريف والألف والنون «، وهذا إنما يثبت بعد دخول الاشتقاق فيه، والتصريف حتى تعرف زيادتها، وقد تقدَّم أنهما لا يَدْخُلان في الأسماء الأعجميّة، وكرر قوله:» وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ «بذكره ظاهراً؛ تفخيماً له، وتعظيماً؛ كقوله: [الخفيف]
٦٩٣ - لا أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ.......................
وقد تقدم تحقيق ذلك.
فصل في المراد بقوله تعالى: واتبعوا» المراد بقوله: «وَاتَّبَعُوا» هم اليهود.
فقيل: هم الذين كانوا في زمن محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقيل: هم الذين كانوا في زمن سليمان صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من السَّحَرة؛ لأن أكثر اليهود ينكرون نبوّة سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ويعدونه من جُمْلة الملوك في الدنيا، وهؤلاء ربما اعتقدوا فيه أنه إنما وجد الملك العظيم بسبب السحر.
وقيل: إنه يتناول الكل وهو أولى.
قال السّدي: لما جاءهم محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عارضوه بالتوراة فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والفرقان، فنبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب «آصف» وسِحْر «هاروت وماروت» فلم يوافق القرآن، فهذا هو قوله تعالى: ﴿وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ. واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أخبر عنهم بأنهم كتب السّحر.
واختلفوا في المراد من الشياطين.
فقال المتكلمون من المعتزلة: هم شياطينُ الإنس، وهم المتمرِّدون في الضلال؛ كقول جرير: [البسيط]
٦٩٤ - أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانُ مِنْ غَزَلِي | وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانَا |
قال السدي: إن الشياطين كانوا يسترقون السَّمع، ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلقونها إلى الكَهَنَةِ، وقد دوّنها في كتب يقرءونها ويعلمونها الناس، وفشا ذلك في زمن سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقالوا: إن الجنّ تعلم الغيب، وكانوا يقولون: هذا علم سليمان، وما تم له ملكه إلاَّ بهذا العلم، سخّر الجن والإنس [والطير] والريح التي تجري بأمره.
وأما القائلون بأنهم شياطين الإنس فقالواك روي أن سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان قد دفن كثيراً من العلوم التي خصّه الله تعالى بها تحت سرير ملكه حرصاً على أنه صفحة رقم 325
إن هلك الظَّاهر منها يبقى ذلك المدفون، فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السِّحْر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه، ثم بعد موته واطّلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان، وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه إلاّ بسبب هذه الأشياء.
فصل في الباعث على نسبتهم السحر لسليمان
إنما أضافوا السِّحْر إلى سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لوجوه:
أحدها: أضافوه تفخيماً لشأنه، وتعظيماً لأمره، وترغيباً للقوم في قبول ذلك منهم.
وثانيها: أن اليهود كانوا يقولون: إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب السّحر.
وثالثها: أنه تعالى لما سخر الجن لسليمان، فكان يخاطلهم، ويستفيد منهم أسراراً عجيبة غلب على الظنون أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ استفاد السحر منه فقوله تعالى: «وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ» تنزيه له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن الكفر، وذلك بدلّ على أن القوم نسبوه إلى الكُفْرِ السحر، فروي عن بعض أَحْبَار اليهود أنهم قالوا: ألا تعجبون من محمد عليه الصَّلاة والسَّلام يزعم أن سليمان كان نبياً وما كان إلا ساحراً، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي أن السَّحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان، فبرأه الله تعالى من ذلك، وبين أن الذي برأه الله منه لاصق بغيره، وهو قوله تعالى: «وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ».
هذه الواو عاطفة جملة الاستدراك على ماقبلها.
وقرأ ابن عامر، والكسائي وحمزة بتخفيف «لكن» ورفع ما بعدها، والباقون بالتشديد، والنصب وهو واضح.
وأما القراءة الأولى، فتكون «لكن» مخففة من الثقيلة جيء بها لمجرّد الاستدراك، وإذا خففت لم تعمل عند الجمهور ونٌقِل جواز ذلك عن يونس [والأخفش. وهل تكون عاطفة؟ الجمهور على أنها تكون عاطفة إذا لم يكن معها «الواو»، وكان ما بعدها مفرداً وذه يونس] إلاَّ أنها لا تكون عاطفةً وهو قوي، فإنه لم يسمع في لسانهم: ما قام زيد لكن عمرو، وإن وجد ذلك في كتب النحاة فمن تمثيلاتهم، ولذلك لم يمثل بها سيبويه رَحِمَهُ اللهُ إلا مع الواو وهذا يدل على نفيه.
وأما إذا وقعت بعدها الجمل فتارة تقترن بالواو، وتارة لا تقترن. صفحة رقم 326
قال زهير: [البسيط]
٦٩٥ - إنَّ ابْنَ وَرْقَاءَ لاَ تُخْشَى بَوَادِرُهُ | لَكِنْ وَقَائِعُهُ في الحَرْبِ تُنتَظَرُ |
قوله: «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» «الناس» مفعول أول، و «السِّحْر» مفعول ثان، واختلفوا في هذه الجملة على خمسة أقوال:
أحدها: أنها حال من فاعل «كفروا» أي مُعَلِّمين.
الثاني: أنها حال من الشياطين، وردّه أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى بأن «لكن» لا تعمل في الحال، وليس بشيء فإن «لكن» فيها رائحة الفعل.
الثالث: أنها في محلّ رفع على أنها خبر ثان للشياطين.
الرابع: أنها بَدَلٌ من «كفروا» أبدل الفعل من الفعل.
الخامس: أنها استئنافية، أَخْبر عنهم بذلك، وهذا إذا أعدنا الضمير من «يعملون» على الشَّيَاطين.
أما إذا أعدناه على «الذين اتَّبَعُوا ما تتلو الشَّياطين» فتكون حالاص من فاعل «اتبعوا».
أو استئنافية فقط.
والسِّحْر: كلّ ما لَطف ودَقَّ سِحْرُهُ، إذا أَبْدَى له أمرأ يدقُّ عليه ويخفى.
قال: [الطويل]
٦٩٦ -................... أَدَاءُ عَرَانِي مِنْ حُبَابِكِ أمْ سِحْرُ
ويقال: سَحَرَهُ: أي خَدَعَهُ وعلَّله؛ قال امرؤ القيس: [الوافر]
٦٩٧ - أَرَانَا مُوضِعِينَ لأَمْرٍ غَيْبٍ | ونُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وبِالشَّرَابِ |
٦٩٨ - عَرَفْتُ الشَّرَّ لا لِلشَّرْرِ | لَكِنُ لِتَوَقِّيهِ |
قلنا: الغرض من ذلك التعليم التَّنبيه على إبطاله.
وقوله: «تعليم السِّحْر كفر».
قلنا: إنه واقعة حال فيكفي في صدقها سورة واحدة.
وقوله: يضاف السحر للكفرة والمردة.
قلنا: فرق بين العمل والتعليم، فيجوز أن يكون العمل منبهاً عنه، والتعليم لغرض التنبيه على فساده فلا يكون مأموراً به.
والجمهور على فتح لام «المَلَكين» على أنهما من الملائكة.
وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن والضحاك بكسرها على أنهما رجلان من الناس، وسيأتي تقريره. صفحة رقم 339
قوله: «بِبَابِلَ» متعلق ب «أنزل»، والباء بمعنى «في» أي: في «بابلط. ويجوز أن يكون فى محلّ نصب على الحال من المَلَكين، أو من الضمير في» أنزل «فيتعلق بمحذوف. ذكر هذين الوجهين أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ.
و» بابل «لا ينصرف للعُجْمة والعلمية، فإنها اسم أرض، وإن شئت للتأنيث والعلمية وسميت بذلك قيل: لِتَبَلْبُلِ السنة الخلائق بها، وذلك أن الله تعالى أمر ريحاً، فحشرتهم بهذه الأرض، فلم يدر أحد ما يقول الآخر، ثم فرقتهم الريح في البلاد فتكلم كل واحد بلغة، والبَلْبَلَة التفرقة.
وقيل: لما أُهْبِط نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ نزل فبنى قرية، وسماها» ثمانين «، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة.
وقيل: لتبلبل ألسنة الخلق عند سقوط صرح نمرود.
وهي بابل» العراق «.
وقال ابن مسعود:» بابل «أرض» الكوفة «.
وقيل:» جبل نهاوَند «.
قوله:» هَارُوتَ وَمَارُوتَ «الجمهور على فتح تائها.
واختلف النحاة في إعرابها، وذلك مبني على القراءتين في» الملكين «، فمن فتح لام» الملكين «، وهم الجمهور كان في هاروت وماروت أربعة أوجه:
أظهرها: أنها بدل من» الملكين «، وجُرَّا بالفتحة لأنهما ينصرفان للعجمة والعلمية.
الثاني: أنهما عطف بيان لهما.
الثالث: أنهما بدل من» الناس «في قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» وهو بدل بعض من كل، أو لأن أقل الجمع اثنان.
الرابعك أنهما بدل من «الشياطين» في قوله: «ولكن الشياطين كفروا» في قراءة من نصب، وتتوجيه البدل كما تقدم.
وقيل: هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجن، فيكون بدل كل من كل، والفتحة على هذين القولين اللنصب.
وأما من قرأ برفع «الشياطين»، فلا يكون «هاروت وماروت» بدلاً منهم، بل يكون منصوباً في هذا القول على الذم أي: أذم هاروت وماروت من بين الشياطين كلها؛ كقوله: [الطويل]
٦٩٩ - أقَارعُ عَوْشفٍ لا أُحَاوِلُ غَيْرَهَا | وُجُوهَ قُرُودٍ تَبْتَغِي مَنْ تُجَادِعُ |
وقرأ الحسن «هَارُوتُ وماروتُ» برفعهما، وهما خبر لمبتدأ محذوف أي: هما هاروت وماروت، ويجوز أن يكون بدلاً من «الشياطين» الأولى وهو قوله: «ما تَتْلُو الشياطين»، أو الثاني على قراءة من رفعه.
ويُجْمَعَان على هَوَاريت ومَوَاريت، وهَوَارتة ومَوَارتة، وليس من زعم اشتقاقهما من الهَرْتِ والمَرْتِ وهو الكسر بمصيب لعدم انصرافهما، ولو كانا مشتقّين كما ذكر لانصرفا.
فصل في توجيه قراءة فتح اللام
أما القرءاة بفتح لام «الملكين»، فقيل: هما ملكان من السماء اسمهما هاروت وماروت.
وقيل: هما جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام.
وقيل غيرهما.
وأما من كسر اللام فقيل: إنهما اسم لقبيلتين من الجن.
وقيل: هما داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام.
وقيل: هما رجلان صالحان.
وقيل: كانا رجلين ساحرين.
وقيل: كانا علجين أقنعين ب «بابل» يعلمان الناس السحر.
قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ هذه الجملة عطلف على ما قبلها، والجمهور على «يُعَلِّمَان» مضعفاً.
واختلف فيه على قولين:
أحدهما: أنه على بابه من التعليم.
والثاني: أنه بمعنى يعلمان من «أعلم»، فالتضعيف والهمزة متعاقبان.
قالوا: لأن المَلَكين لا يعلمان الناس السحر، إنما يُعْلِمانِهِمْ به، ويَنْهَيَانِهِم عنه، صفحة رقم 341
وإليه ذهب طحلة بن مصرف، وكان يقرأ «يُعْلِمَان» من الأعلام.
ومن حكى أن تَعَلَّمْ بمعنى «اعْلَم» ابنُ الأعرابي، وابن الأنباريِّ؛ وأنشدوا قول زُهَيْر: [البسيط]
٧٠٠ - تَعَلَّمَنْ هما لَعَمْرُ اللهِ ذا قَسَماً | فَاقْدِرْ بِذَرْعِكَ وَانْظُرْ أَيْنَ تَنْسَلِكُ؟ |
٧٠١ - تَعَلَّمْ أَنَّ بَِعْدَ الْغَيِّ رُشْداً | وَأَنَّ لِذَلِكَ الغَيِّ انْقِشَاعَا |
٧٠٢ - تَعَلَّمْ رَسُولَ اللهِ أَنَّكَ مُدْرِكِي | وَأَنَّ وَعِيداً مِنْكَ كَالأَخْذِ بِالْيَدِ |
٧٠٣ - تَعَلَّمْ أَنَّهُ لاَ طَيْرَ إِلاَّ | عَلَى مُتَطَيِّرٍ وَهُوَ الثُّبُورُ |
أحدهما: أنه يعود على هاروت وماروت.
والثانيى: أنه عائد على [الملكين، ويؤيده قراءة أُبَيّ بإظهار الفاعل: «وَمَا يُعَلِّم الملكان».
والأول هو الأصح؛ لأن الاعتماد إنما هو على البدل] دون المبدل منه، فإنه في حكم المطَّرح، فمراعاته أولى؛ تقول: «هِنْدٌ حُسْنُهَا فَاتِنٌ» ولا تقول: «فَاتِنَةٌ» مراعاة لِهِنْد، إلاّ في قليل من الكلام؛ كقوله: [الكامل]
٧٠٤ - إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّهَا ورَواحَهَا | تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأَعْضَبِ |
٧٠٥ - فَكَأَنَّهُ لَهِقُ السَّراة كَأَنَّهُ | مَا حَاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ |
٧٠٦ - فَمَا كَانَ قَيْسُ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ | وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا |
وأجاب أبو حيان عن البيتين بأن «رَوَاحها وغدوها» منصوب على الظرف، وأن قوله: «مُعَيَّن» خبر عن «حَاجِبَيْهِ»، وجاز ذلك؛ لأن كل اثنين لا يغني أحدهما عن الآخر، يجوز فيهما ذلك؛ قال: [الهزج]
٧٠٧ -.......................... بِهَا الَيْنَان تَنْهَلُّ
وقال: [الكامل]
٧٠٨ - لَكَأَنَّ فِي الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ | أَوْ سُنْبُلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ |
٧٠٩ - إِذَا ذَكَرَتْ عَيْنِي الزَّمَانَ الّّذِي مَضَى | بِصَحْرَاءَ فَلْجٍ ظَلَّتَا تِكِفَانِ |
و «أحد» هنا الظاهر أنه الملازم للنفي، وأنه الذي همزته أصل بنفسها. صفحة رقم 343
وأجاز أبو القاء أن يكو بمعنى واحد، فتكون همزته بدلاً من الواو.
فصل فيمن قال بأنهما ليسا من الملائكة
القائلون بأنهما ليسا من الملائكة احتجوا بأن الملائكة عليهم السلام لا يليق بهم تعليم السحر، وقالوا: كيف يجوز إنزال الملكين مع قوله: ﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر﴾ [الأنعام: ٨].
وأيضاً لو أنزل الملكين، فإما أن يجعلهما فى صورة الرجلين، أو لا يجعلهما كذلك، فإن جعلهما في صورة الرجلين مع أنهما ليسا برجلين كان ذلك تجهيلاً وتلبيساً على الناس وهو لا يجوز، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن كل واحد من الناس الذي تشاهدهم أنه لا يكون الحقيقة إنساناً، بل يكون ملكاً ن الملائكةن؟ وإن لم يجعلهما في صورة الرجلين قدح ذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً﴾ [الأنعام: ٩].
وأجاب القائلون بأنهما من الملائكة عن الأول بأنا سنبين وجه الحكمة في إنزال [الملكين] لتعليم السحر وعن الثاني: بأن هذه الآية عامة، [وقراءة المَلَكين بفتح اللام متواتورة وتلك] خاصة والخاص مقدم على العام.
وعن الثالث: أن الله تعالى أنزلهما في صورة رَجُلين، كان الواجب على الملكين في زمان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أن يقطعوا على من صروته صورة الإنسان بكونه إنساناً، كما أنه في زمان الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كانالواجب على من شاهد حية الكَلْبي ألاَّ يقطع بكونه من البشر، بل الواجب التوقف فيه.
فصل في فساد رواية الزهرة
رووا قصة الزُّهَرة وما جرى لها الملكين.
ولهم في الزهرة قولان:
أحدهما: أنها الكوكب المعروف.
والثاني: أنها من بنات آدم ومسخت إلى هذا الكوكب.
وقيل: مسخت بها.
قال ابن الخطيب: وهذه الرواية فاسدة مردودة؛ لأنه ليس في كتاب الله تعالى مايدل عليها، بل فيه ما يبطلها من وجوه:
الأول: الدلائل الدالة على عِصْمَةِ الملائكة عليهم السلام من كل المعاصي.
الثاني: أن قولهم: إنهما خُيِّرا بَيْن عذاب الدنيا، وبين عذاب الآخرة فاسد، بل كان صفحة رقم 344
الأولى أن يُخَيَّرا بَيْنَ التوبة والعذاب؛ لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره، فكيف يبخل عليهما بذلك؟
الثالث: أن من أعجب الأمور قوله: أنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين، ويدعوان إليه، وهما يعاقبان [ولما ظهر فساد هذا القول فنقول: السبب] في إنزالهما وجوه:
أحدها: أن السحرة كثرت في ذلك الزمان، واستنبطت أبواباً غريبة من السحر، وكانوا يَدَّعُون النبوة، ويتحَدَّون الناس بها، فبعث الله تعالى هذين الملكين لأَجْلِ أن يعلّما الناس أبواب السِّحر حتى يتمكّنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذباً، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد.
وثانيها: أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسّحر متوقّف على العلم بماهية المعجزة، وبماهية السحر، والناس كانوا جاهلين بماهية السِّحر، فلا جرم تعذّرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة، فبعث الله تعالى هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض.
وثالثها: لا يمتنع أن يقال: السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله، والألفة بين أولياء الله كان مباحاً عندهم، أو مندوباً، فالله تعالى بعث مَلَكين لتعليم السِّحر لهذا الغرض، ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما، واستعملوه في الشر، وإيقاع الفُرْقة بين أولياء الله، والألفة بين أعداء الله.
ورابعها: أن تحصيل العلم بكل شيء حسن، ولما كان السِّحر منهياً عنه وجب أن يكون متصوراً معلوماً؟ لأن الذي لا يكون متصوراً يمتنع النهي عنه.
وخامسها: لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها، فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أموراً يقدرون بها على معارضة الجن.
وسادسها: يجز أن يكون ذلك تشديداً في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصّل به إلى اللَّذات العاجلة، ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقّة، فيستوجب به الثواب الزائد، كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال: ﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني﴾ [البقرة: ٢٤٩] فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السّحر، والله أعلم.
فصل في زمن وقوع هذه القصة.
قال بعضهم: هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس عليه الصَّلاة والسلام. صفحة رقم 345
قوله: ﴿حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾.
«حتى» : حرف غاية ونصب، وهي هنا بمعنى «إلى»، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» ولا يجوز إظهارها، وعلامة النصب حذف النوت، والتقدير: إلى أن يقولا وهي متعلقة بقوله: «وَمَا يُعَلِّمَانِ»، والمعنى أنه ينتفي تعليمهما أو إعلامهما على ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية، وهي قولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ﴾.
وأجاز أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ أن تكون «حتى» بمعنى «إلا» قال: والمعنى: وما يعلمان من أحد إلاّ أن يقولا وهذا الذي أجاز لا يعرف عن أكثر المتقدمين، وإنما قاله ابن مالك؛ وأنشد: [الكامل]
٧١٠ - لَيْسَ الْعَطَاءُ مِنَ الْفُضُولِ سَمَاحَةً | حَتَّى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ |
و «حتى» تكون حرف جر بمعنى «إلى» كهذه الآية، وكقوله: ﴿حتى مَطْلَعِ الفجر﴾ [القدر: ٥]، وتكون حرف عطف، وتكون حرف ابتداء فتقع بعدها الجمل؛ كقوله: [الطويل]
٧١١ - فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا | بِدَجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ |
و «إنما» مكفوفة ب «ما» الزائدة، فلذلك وقع بعدها الجملة، وقد تقدم أن بعضهم يجيز إعمالها، والجملة في محلّ نصب بالقول، وكذلك: «فَلاَ تَكْفُر».
فصل في المراد بالفتننة
المراد هاهنا بالفتنة المحنة التي بها يتيمز المطيع عن العاصي، كقولهم: فتنت الذهب بالنار أذا عرض على النار ليتميز الخاصّ عن المشوب، وقد بَيّنا الحكمة في بعثة الملكين لتعليم السحر.
فالمراد أنهما لا يعلمان أحداً السحر ولا يصفانه عن المشوب، وقد بَيْنا الحكمة في بعثة الملكين لتلعيم السحر.
فالمراد أنهما لا يعلمان أحداً السحر ولا يصفانه لأحد، ولا يكشفان له وجوه صفحة رقم 346
الاحتيال حتى يبذلا له النَّصيحة فيقولا له: «إِنَّمَا نَحْنُ فَتْنَةٌ» أي: هذا الذي نصفه لك، وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر عن المعجزة، ولكنه يمكنك أن تتوصّل به إلى المفاسد والمعاصي، فإياك أن تستعمله فيما نهيت عنه، أو تتوصل به إلى شيء من الأعراض العاجلة.
قوله تعالى: «فَيَتَعَلَّمُونَ» في هذه الجملة سبعة أقوال:
أظهرها: أنها معطوفة على قوله تعالى: «وما يعلمان» والضمير في «فيتعلّمون» عائد على «أحد»، وجمع حملاً على المعنى، كقوله تعالى: ﴿فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٧].
فإن قيل: المعطوف عليه منفي، فيلزم أن يكون «فيتعلّمون» منفياً أيضاً لعطفه علبيه، وحينئذ ينعكس المعنى. فالجواب ما قالوه، وهو أن قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ﴾، وإن كان منفياً لفظاً فهو موجب معنى؛ لأن المعنى: يعلمان الناس السحر بعد قولهما: إنما نحن فتنة، وهذا الوجه ذكره الزجاج وغيره.
الثَّاني: أنه معطوف على «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السَّحْر» قاله الفراء.
وقد اعترض الزجاج هذا القول بسبب لفظ الجمع في «يعلمون» مع إتيانه بضمير التثنية في «منهما» يعنى: فكان حقه أن يقال: «منهم» لأجل «يعلمون» وأجازه [أبو علي] وغيره، وقالوا: لا يمتنع عطف «فيتعلمون» على «يعلِّمون»، وإن كان التعليم من الملكين خاصّة، والضمير في «منهما» راجع إليهما، فإن قوله: «منهما» إنما جاء بعدم تقدّم ذكر المَلَكَيْنِ.
وقد اعترض على قول الفراء من وجه آخر: وهو أنه يلزم منه الإضمار قبل الذكر، وذلك أن الضمير في «منهما» عائد على الملكين، وقد فرضتم أن «فيتعلمون منهما» عطف على «يعلمون»، [فيكن التقدير: «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فَيَتَعَلَّمُونَ منهما» ] فيلزم الإضمار في «منهما» قبل ذكر المَلَكيْن، وهو اعتراض وَاهٍ فإنهما متقدمان لفظاً، وتقدير تأخرهما لا يضرّ؛ إذ المحذور عَوْدُ الضمير على غير مذكور في اللفظ.
الثالث: وهو أحد قولي سيبويه أه عطف على «كفروا»، فعل في موضع رفع، فلذلك عطف عليه فعل مرفوع.
قال سيبويه: [وارتفع] «فيتعلمون» ؛ لأنه لم يُخْبِرْ عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر فيتعلموا ليَجْعَلا كفره سبباً لتعلم غيره، ولكنه على: كفروا فيتعلمون، وشَرْحُ ما قاله هو أنه يريد أن ليس «فيتعلمون» جواباً لقوله: فلا تكفر فيتنصب في جواب النهي، كما النصب: ﴿فَيُسْحِتَكُم﴾ [طه: ٦١]، بعد قوله: «لاَ تَفْتَرُوا» لأن كُفْرَ من نهياه أن يكفر ليس
سبباً لتعلّم من يتعلم. واعترض على هذا بما تقدّم من لزوم الإضمار قبل الذكر، وتقدم جوابه.
الرابع: وهو القول الثاني ل «سيبويه» أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقديرك «فهم يتعلمون»، فعطف جلمة اسمية على فعلية.
الخامس: قال الزَّجَّاج أيضاً: والأجود أن يكون معطوفاً على «يعلّمان فيتعلّمون» فاستغني عن ذكر «يعلمون» على ما في الكلام من الدليل عليه [واعتراض أبو علي قول الزجاج؛ فقال: «لا وجه لقوله: اسغني عن ذلكر» يعلمان «؛ لأنه موجود في النص». وهذا الاعتراض من أبي علي ت حامل عليه لسبب وقع بينهما؛ فإن الزجاج لم يرد أن «فيتعلمون» عطف على «يعلمان» المنفي ب «ما» في قوله: «وما يعلمان» حتى يكون مذكوراً في النص، وإنما أراد أن ثم فعلاً مضمراً يدل عليه قوة الكلام وهو: «يعلمان فيتعلمون» ].
السَّادس: أنه عطف على معنى ما دلّ عليه أول الكلام، والتقدير: فيأتون فيتعلّمون، ذكره الفراء والزجاج أيضاً.
السَّابع: قال أبو البقاء: وقيل: هو مستأنف، وهذا يحتمل أن يريد أنه خبر مبتدأ مضمر كقول سيبويه رَحِمَهُ اللهُ وأن يكون مستقلاً بنفسه غير محمل على شيء قبله، وهو ظاهر كلامه.
قوله: «مِنْهُمَا» متعلّق ب «يعلمون».
و «من» لابتداء الغاية، وفي الضمير ثلاثة أقوال: أظهرها: عوده إلى المَلَكين، سواء قرىء بكسر اللام أو فتحها.
والثاني: يعود على السّحر وعلى المنزل على الملكين.
والثالث: أنه يعود على الفتنة، وعلى الكفر المفهوم من قوله: «فلا تكفر»، وهو قول أبى مسلم.
قوله: «مَا يُفَرِّقُونَ به» الظَّاهر في «ما» أنها موصولة اسمية.
وأجاز أبو البقاء أن تكن نكرة موصوفة، وليس بواضح، ولا يجوز أن تكن مصدرية لعود الضمير في «به» عليها، والمصدرية حرف عند جمهور النحويين كما تقدم غير مَرّة.
و «بَيْنَ الْمَرْءِ» ظرف ل «يُقَرّقُونَ».
والجمهور على فتح ميم «المَرْءِ» مهموزاً، وهي اللغة العالية.
وقرأ أين أبي أسحاق: «المُرْء» بضم الميم مهموزاً.
وقرأ الأشهب العقيلي والحسن: «المِرْءُ» بكسر الميم مهموزاً.
فأما الضم فلغة محكية.
وأما الكسر فيحتمل أن يكون لغة مطلقاً، ويحتمل أن يكون للإتباع، وذلك أن في «المرء» لغة وهي أن «فاءه» تَتْبَعُ «لامه»، فإن ضم ضمت، وإن فتح فتحت، وإن كسر كسرت، تقول: «ما قام المُرْءُ» بضم الميم و «رأيت المَرْءَ» بفتحها، و «مررت بالمِرْءِ» بكسرها، وقد يجمع بالواو والنون، وهو شاذ.
قال الحسن في بعض مواعظه: «أحْسِنُوا مَلأَكُمْ أَيُّهَا المَرْؤون» أي: أخلاقكم.
وقرأ الحسن، والزهري «المَرِ» بفتح الميم وكسر الراء خفيفة، ووجهها أنه نقل حركة الهمزة على «الواو» وحذف الهمزة تخفيفاً وهو قياس مطّرد.
وقرأ الزهري أيضاً: «المَرِّ» بتشديد الرَّاء من غير همز، ووجهها أنه نقل حرة الهمزة إلى الرَّاء، ثم رأى الوقف عليها مشدّداً، كما روي عن عصام ﴿مُّسْتَطَرٌ﴾ [القمر: ٥٣] بتشديد الراء ثم أجرى الوَصْل مجرى الوقف.
فصيل في تفسير التفريق
ذكروا في تفسير التفريق هاهنا وجهين:
الأول: أن هذا التفريق إنما يكون بأن يعتقد بأن ذلك السرح مؤثر في هذا التفريق، فيصير كافراً، وإذا صار كافراً بَانَتْ منه امرأته، فيحصل تفريق بينهما.
الثاني: أنه يفرق بينهما بالتمويه والحِيَل، والتَّضْريب وسائر الوجوه المذكورة. وذكره التفريق دون سائر الصُّور التي يتعلّمونها تنبيهاً على الباقي، فإن ركون الإنسان إلى زوجته معروف زائد على مودّة قريبة، فإذا وصل بالسحر إلى هذا الأمر مع شدّته فغيره أولى، يدلّ عليه قوله تعالى: «وَما هُمْ بِضَارِّينَ بهِ مِنْ أَحَدِ» يجوز في «ماء» وجهان.
أحدهما: أن تكون الحجازية، فيكون «هم» اسمها، و «بِضَارين» خبرها، و «الباء» زائدة، فهو في محل نصب.
والثاني: أن تكون التميمية، فيكون «هم» مبتدأ، و «بِضَارِّينَ» خبره، و «الباء» زائدة أيضاً فهو في محل رفع.
والضمير فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه عائد على السَّحرة العائد عليهم ضمير «فَيَتَعَلَّمُونَ».
الثاني: يعود على اليهود العائد عليهم ضمير «واتبعوا».
الثالث: يعود على الشياطين والضمير في «به» يعود على «ما» في قوله: «وَمَا يُفَرِّقُونَ بِهِ».
والجمهور على «بَضَارِّينَ» بإثبات النون و «مِنْ أَحَدٍ» مفعول به، وقرأ الأعمش: «بِضَرِّي» من غير نون، وفي توجيه ذلك قولان:
أظهرهما: أنه أسقط النون تخفيفاً، وإن لم يقع اسم الفاعل صلةً ل «أل» ؛ مثل قوله: [الطويل]
٧١٢ - وَلَسْنَا إِذَا تَأْبَوْنَ سِلْماً بِمُذْعِنِي | لَكُمْ غَيْرَ أَنَّا إِنْ نُسَالَمْ نُسَالمِ |
والثاني وبه قال الزَّمخشري، وأبن عطية أن النُّونَ حذفت للإضافة إلى «أحدٍ»، وفصل بين المضاف والضاف إليه بالجار والمجرور، وهو «به» ؛ كما فصل به في قوله الآخر: [الطويل]
٧١٣ - هُمَا أَخَوَا فِي الْحَرْبِ مَنْ لاَ أَخَا لَهُ | إِذَا خَافَ يَوْماً نَبْوةً فَدَعَاهُمَا |
٧١٤ - كَمَا خُطَّ الْكِتَابُ بِكَفِّ يَوْماً | يَهُودِيِّ يُقارِبُ أَوْ يُزِيلُ |
٧١٥ - تَثُولُ أُنَاسٌ لاَ يَضِيرُكَ نَأْيُهَا | بَلَى كُلُّ ما شَفَّ النُّفُوسَ يَضِيْرُهَا |
ونقل بعضهم: أنه لا يبنى من نفع اسم مفعول فيقال: منفوع، والقياس لا يأباه.
قوله: «وقد علموا» تقدم أن هذه اللاَّم جواب قسم محذوف.
و «علم» يجوز أن تكون متعدية إلى اثنين أو إلى واحد، وعلى كلا التقديرين فهي مُعَلَّقة عن العمل فيما بعدها لأجل اللام، فالجملة بعدها في محل نصب؛ إما سادّة مسدَّ مفعولين، أو مفعول واحد على حسب ما تقدم، ويظهر أثر ذلك في العطف عليها، فإن اعتقدنا تعديها لاثنين عطفنا على الجملة بعدها مفعولين، وإلا عطفنا واحداً، ونظيره في الكلام: علمت لزيد قائم وعمراً ذاهباً، أو علمت لزيد قائم وذهاب عمرو.
والذي يدل على أن الجملة المعلقة بعد علم في محل نصب وعَطْفَ المنصوب على محلها قولُ الشاعر: [الطويل]
٧١٦ - وَمَا كُنْتُ أَدْرِي قَبْلَ عَزَّةَ مَا الْهَوَى | وَلاَ مُوجِعَاتِ القَلْبِ حَتَّى تَوَلَّتِ |
ةوالضمير في «علموا» فيه خمسة أقوال:
أحدها: ضمير الهيود الذين بحضرة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو ضمير من بحضرة سليمان، أو ضمير جميع اليهود، أو ضمير الشياطين أو ضمير الملكين عند من يرى أن الاثنين جمع.
قوله: «لَمَنِ اشْتَرَاهُ» في هذه اللام قولان:
أحدهما: وهو ظاهر قول النحاة أنها لام الابتداء المُعَلَّقة ل «عَلِمَ» عن العمل صفحة رقم 353
كما تقدم، و «مَنْ موصولة في محلّ رفع بالابتداء، و» اشتراه «صلتها وعائدها.
و ﴿مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ﴾ جلمة من مبتدأ وخبر، و» من «زائدة في المبتدأ، والتقدير: ماله خلاق في الآخرة.
وهذه الجملة في محل رفع خبر ل» من «الموصولة، فالجملة من قوله:» ولقد علموا «مقسم عليها كما تقدم، و» لَمَن اشْتَرَاهُ «غير مقسم عليها، هذا مذهب سيبويه رَحِمَهُ اللهُ تعالى والجمهور.
الثاني: وهو قول الفراء، وبتبعه أبو البقاء: أن تكونه هذه اللام هي الموطّئة للقسم، و «مَنٍ» شرطية في محل رفع بالابتداء، و ﴿مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ﴾ جواب القسم، ف «اشترااه» على القول الأول صلة، وعلى الثاني خبر لاسم الشرط، ويكون جواب الشرط محذوفاً؛ لأنه إذا اجتمع شرط وقسم، ولم يتقدمهما ذو خبر أجيب سابقهما غالباً، وقد يجاب الشرط مطلقاً كقوله: [الطويل]
٧١٧ - لَئِنْ كَانَ مَا حُدِّثْتُهُ الْيَوْمَ صَادِقاً | أَصُمْ فِي نَهَارِ الْقَيْظِ لِلشَّمْسِ بَادِيَا |
٧١٨ - لَئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ | لَيَعْلَمُ رَبِّي أَنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ |
فصل في أوجه استعارة لفظ الشراء
واستعير لفظ الشراء لوجوه:
أحدها: أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظُهُورهم، وأقبلوا على التمسُّك بما تتلو الشَّياطين، فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله تعالى. صفحة رقم 354
وثانيها: أن المَلَكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة، فلما استعمل السحر، فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا.
وثالثها: أنهم تحملوا مشقة تعليمه ليستعملوه، فكأنهم أبدلوا الراحة في مقالبة التعليم لأجل الاستعمال. والخَلاَق: النصيب.
قال الزّجاج: أكثر استعماله في الخير.
فأما قول أميّة بن أي الصلت: [البسيط]
٧١٩ - يَدْعُونَ بالْوَيْلِ فِيهَا لاَ خَلاَقَ لَهُمْ | إِلاَّ سَرَابِيلُ مِنْ قَطْرٍ وَأَغْلاَلُ |
أحدها: أنه على سبيل التهكُّم بهم؛ كقوله: [الوافر]
٧٢٠ -......................... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ َجِيعُ
والثاني: أنه استثناء منقطع، أي: لكن لهم السَّرَابيل من كذا.
الثالث: أنه استعمل في الشر على قلة.
والخلاق: القَدْر؛ قال: [المتقارب]
٧٢١ - فَمَا لَكَ بَيْتٌ لَدَى الشَّامِخَاتِ | وَمَا لَكَ فِي غَالِبٍ مِنْ خَلاَقْ |
قال القَفَّال رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يشبه أن يكون أصل الكلمة من الخلق، ومعناه التقدير، ومنه: خلق الأديم، ومنه يقال: قدر للرجل كذا درهماً رزقاً على عمل كذا. والضمير المنصوب في «اشتراه» فيه أربعة أقوال: يعود على السحر، أو الكفر، أو كَيْلهم الذى باعوا به السحر، أو القرآن لتعويضهم كتب السحر عنه.
وتقدم الكلام على قوله: «وَلَبْئْسَ مَا» وما ذكر الناس فيها، واللام في «لبئسما» جواب قسم محذوف تقديره: والله لبئسما، والمخصوص بالذّّم محذوف أي: السحر أو الكفر.
قوله: «لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» جواب «لو» محذوف تقديره: لو كانوا يعلمون ذم ذلك صفحة رقم 355
لما باعوا به أنفسهم، وهذا أحسن من تقدير أبي البقاء: لو كانوا ينتفعون بعلمهم لامتنعوا من شراء السحر؛ لأن المقدر كلما كان مُتصَيَّداً من اللفظ كان أَوْلَى. والضمير في «به» يعود على السحر، أو الكفر، وفي «يعلمون» يعود على اليَهُودِ باتفاق.
قال الزمخشري: فإن قلت كيف أثبت لهم العلم أولاً في: «وَلَقَدْ عَلِمُوا» على سبيل التوكيد القسمي، ثم نفاه عنهم في قوله: «لوْ كانُوا يَعْلَمُونَ».
قلت: معناه: لو كانوا يعملون بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه، وهذا بناء منه على أن الضميرين في «عَلِمُوا» و «يَعْلَمُونَ» لشيء واحد.
وأجاب غيره على هذا التقدير بأن المراد بالعلم الثاني العَقْل؛ لأن العلم من ثمرته، فلما انتفى الأصل انتفى ثمرته، فصار وجود العلم كعدمه حيث لم ينتفعوا به كما سمى الله تعالى، الكفار «صُمّاً وبُكْماً وعُمْياً» إذ لم ينتفعوا [بهذه الحواس] أو يغاير بين متعلّق العلمين أي: علموا ضرره في الآخرة، ولم يعلما نفعه في الدنيا.
وأما إذا أعدت الضمير في «علموا» على الشياطين، أو على مَنْ بحضرة سليمان، أو على الملكين، فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم حينئذ.