
يستنصرون به «عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» من مشركي العرب وغيرهم، إذ كانوا يقولون عند الشدة اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي وصفته لنا في التوراة فكان يستجاب لهم وينصرون على أعدائهم، وكانوا يقولون للمشركين قد أطل زمان نبي يخرج بتصديق ما نحن عليه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فأكذبهم الله تعالى إذ لم يوفوا بقولهم هذا لقوله تعالى «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا» وهو محمّد صلّى الله عليه وسلم «كَفَرُوا بِهِ» بغيا وحسدا لأنه ليس منهم «فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ ٨٩» بما في كتب الله الجاحدين لرسله «بِئْسَمَا» قبح شيء «اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» على رسوله من القرآن بأن استبدلوا الباطل بالحق «بَغْياً» وعدوانا وإنكارا من «أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» كمحمد مثلا حسدا وطلبا لما ليس لهم، ولأنه ليس منهم «فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ» لأنهم ضيعوا التوراة إذ لم يأخذوا بما فيها، وكفروا بمحمد والقرآن أيضا، أي أنهم رجعوا بغضب كثير، لأن المراد به الترادف والتكاثر لا غضبان فقط، وعلى هذا قوله:
ولو كان رمحا واحدا لاتقيته | ولكنه رمح وثان وثالث |
قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» القرآن فما قبله «قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» أي التوراة فقط مع أنهم لم يؤمنوا بها لجحدهم ما جاء فيها من لزوم الإيمان بالرسول محمد «وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ» أي الكتاب العظيم الذي أنزل بعد كتابهم والرسول الكريم الذي أرسل بعد رسولهم أي الإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد «وَهُوَ الْحَقُّ»
لأن كلا جاء «مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» من الكتاب العظيم الصحيح «قُلْ» لهم يا سيد الرسل إذا كنتم تؤمنون بما أنزل إليكم «فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ» قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلم ونزول كتابه ومن قبل مولد عيسى ونزول كتابه إلينا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (٩١) بالتوراة، لأنها تمنع من معارضة الأنبياء ولو قولا، فضلا عن القتل، وتأمر باتباعهم ولم تتبعوهم. صفحة رقم 59

هذا، وقد أضاف الله تعالى ما فعله آباؤهم إليهم لرضاهم به، والراضي بالشيء كفاعله، ولأنهم أنفسهم مصرون على ما فعله أسلافهم بيحيى وعيسى ومحبذون له. قال تعالى «وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ» حينما ذهب لميقات ربه ليأتيكم بالتوراة «وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ» (٩٢) كرره تأكيدا لإيقاع الحجة عليهم وتبكيتا بهم وتقريعا «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» وقلنا لكم «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» كرره أيضا لتلك الغاية بزيادة قوله «وَاسْمَعُوا» سماع قبول وطاعة لما تؤمرون به. ونظير هاتين الآيتين الآيتان المارتين ٥١ و ٦٧. قال تعالى حاكيا عنادهم «قالُوا سَمِعْنا» قولك «وَعَصَيْنا» أمرك ولولا مخافة هبوط الجبل علينا لما سجدنا «وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ» بأن تداخل حبه وتغلغل في قلوبهم فاندمج فيها، والأصل حب العجل وقد حذف إيجازا والحذف في مثله كثير في القرآن لأنه من أنواع البديع، وعبر بالشرب لأن من أراد حصر الحب أو البغض استعار له اسم الشراب لأنه أبلغ مساغا في البدن، ولهذا قال الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية.
وكان شدة حبهم العجل «بِكُفْرِهِمْ» بسببه حرصا على عبادته «قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ» الذي تزعمونه إشارة إلى قولهم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) والمخصوص بالذم ما تقدم من قولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) وعبادة العجل، وفي إسناد الأمر إلى الإيمان تهكم بهم، وفي إضافة الإيمان إليهم إيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة ينبيء عنه قوله جل قوله «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (٩٣) لأن حرف (إِنْ) يؤذن بالشك ويدل على عدم الوقوع غالبا وهو تكذيب لهم من الله بدعواهم الإيمان، أي لو كنتم مؤمنين ما فعلتم «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ» كما تزعمون وهذا إشارة لقولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) في الآية ١١١ الآتية، ولقولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) الآية ٢١ من المائدة الآتية بما يدل على أنهما نزلنا قبل هذه الآيات، أي إذا كنتم كما تزعمون من خلوص الدار الباقية لكم «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (٩٤) لأن من علم أن الجنة مأواه أحب الإسراع إليها تخلصا

من هذه الدار الكدرة النكدة الفانية وتوصلا إلى السعادة الأبدية الهنية، قال تعالى «وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً» لعلمهم كذب ادعائهم بذلك «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من القبائح، وخص اليد دون بقية الجوارح لأن مبدأ أكبر جنايات الإنسان من يده «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» (٩٥) حال إيقاعهم الظلم وقبله، وصفهم بالظلم لأنه أعم من الكفر فكل كافر ظالم ولا عكس.
مطلب حرص اليهود على الدنيا وعداوتهم لجبريل عليه السلام وابن حوريا وعمر بن الخطاب وقوة إيمانه:
«وَلَتَجِدَنَّهُمْ» يا سيد الرسل «أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» أي لا أحرص منهم عليها «وَ» حتى أنهم أحرص «مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» على الحياة مع أنهم لا كتاب لهم يعلمون منه أن هناك دارا أخرى ينعم بها المؤمن ويعذب فيها الكافر فلا لوم عليهم إذا حرصوا على البقاء في الدنيا، وفي هذه الآية زيادة توبيخ لليهود لأنهم يقرون بالمعاد ويتأهبون له، ويحرصون على الدنيا أكثر من المشركين الذين لا يعترفون به. ثم بين شدة حرصهم بقوله جل قوله «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» يا حسرهم وأسفهم لأنه لا ينفعهم تعميرهم مهما كان «وَما هُوَ» تعميرهم تلك المدة لو كان واقعا فإنه ليس «بِمُزَحْزِحِهِ» ومباعده أو محركه «مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» تلك المدة أو أكثر منها، لأن مرجعه الآخرة ليبصر نتيجة أعماله «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» (٩٦) في دنياهم لا يخفى عليه شيء منه ومجازيهم عليها في الآخرة، ولما قال عبد الله بن صوريا أحد أحبار اليهود إلى محمد صلّى الله عليه وسلم أي ملك يأتيك من السماء؟ قال جبريل، قال هو عدونا فلو جاءك ميكائيل لآمنا بك، جبريل ينزل بالعذاب، ولأن الله تعالى أخبر نبينا أن بختنصر يخرب بيت المقدس ويهلكنا قتلا وتدميرا، وقد بعثنا رجلا ليقتله ببابل فدافع عنه جبريل قائلا له إن كان الله أمره بهلاككم فلن تسلطوا عليه، وإن لم يكن هو فعلى أي شيء تقتله، وكان بختنصر وهو الذي دافع عنه حتى بقي حيا وفعل ما فعل فينا، فأنزل الله تعالى «قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ» بسبب إتيانه بالقرآن لك وإنزاله من لدنا عليك يا سيد الرسل «فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ»

أي القرآن كناية عن مذكور وإضمار ما لم يسبق ذكره يكون للتفخيم إذ يجعله لفرط شهرته دالا على نفسه. راجع الآية الأولى من سورة القدر والآية ٣٣ من سورة ص في ج ١، وهذا شائع في كل مشهور متعارف، أي ان الذي يكره جبريل من أجل إنزال القرآن «عَلى قَلْبِكَ» يا سيد الرسل «بِإِذْنِ اللَّهِ» الذي أمره بذلك ولم يفعله من تلقاء نفسه، وكان ذلك القرآن «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب السماوية «وَهُدىً وَبُشْرى» من الله «لِلْمُؤْمِنِينَ» (٩٧) بحسن العاقبة، قل لهم يا سيد الرسل «مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ» كان عدوا لله، ومن كان عدوا لله فهو كافر، ولهذا قال تعالى «فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ» (٩٨) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع قول عدو الله بن صوريا من كان عدوا لأحدهما أي جبريل وميكايل فهو عدو للآخر، ومن كان عدوا لهما كان عدوا لله، فلما نزلت هذه الآية قال صلّى الله عليه وسلم لعمر قد وافقك ربك يا عمر، فقال والله لقد رأيتني في ديني بعد ذلك أصلب من الحجر. أي أنه لم يغتر بذلك كما وقع لعبد الله بن أبي سرح المار ذكره في الآية ١٤ من المؤمنين ج ٢، وذلك أن القرآن العظيم كما ذكرنا في الآية ٤٤ من سورة فصلت المارة في ج ٢ نور لأناس ضلال لآخرين بآن واحد، لأن سيدنا عمر زادته إيمانا موافقته لربه في هذه الآية، وعبد الله بن أبي سرح لما رأى ما خطر بباله من إكمال الآية المذكورة وهي جملة (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ونزلت الآية بها ارتد والعياذ بالله وقال ما قال فأنزل الله فيه (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ) الآية ١٩٣ من الأنعام في ج ٢ فراجعها، ولما قال عدو الله المذكور ما جئتنا بشيء يا محمد ولم ينزل الله عليك آية أنزل الله تعالى «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ» لا تحتاج إلى نظر أو تدبر «وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ» (٩٩) الخارجون عن الطاعة، لأن آيات القرآن واضحة كافية لمن يريد الإيمان بها والاعتراف بمنزلها والتصديق لمن أنزلت عليه، ومن لم يرد لو ملأت له الدنيا آيات ينتفع بها أبدا. ولما قال مالك بن الصيف والله ما عهد الله إلينا في محمد عهدا أي في لزوم الإيمان به أنزل الله تعالى «أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً
صفحة رقم 62