
«وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ» من هوله فتخسف «وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا» ٩٠ لعظمته فتسقط عن موضعها عليهم
«أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً» ٩١ لما فيه من الافتئات على الله بما لا يليق بعظمته وجلاله، لأن مثل هذا الكلام ينفي ملاك الإيمان وأهم أركانه وقواعده، وأعظم أصوله وفروعه، ولا يقال كيف تؤثر هذه الكلمة في هذه الجمادات، لأن الله تعالى يقول كدت أن أفعل هذا بهذه الأجرام عند صدور هذه الكلمة غضبا مني على من تفوه بها لولا حلمي وإني لا أعجل بالعقوبة، والقادر قادر فكيف بغير الجماد، فإنه يذوب كما يذوب الملح بالماء، ثم نزه نفسه عن اتخاذ الولد ونفاه عن ذاته المقدسة فقال «وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً» ٩٢ ولا يليق بجنابه أن بوصف بذلك، لأن الولد قد يشبه أباه ويكون للحاجة والسرور والاستعانة والذكر، والله ليس كمثله شيء وغني عن كل شيء ومنزه عن كل شيء من سمات المخلوقين «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» ٩٣ أذلاء حاضعين مملوكين يأوون لحضرته بالعبودية ويستكينون لعظمته وينقادون لكبريائه، وفي هذه الآية إيذان بأن الوالد لا يملك ولده وأن الله مالك مطلق لجميع من في الكون يتصرف فيه كما يشاء ويختار، والله الذي لا إله إلا هو «لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا» ٩٤ حصرهم وأحاط بهم وعلم أنفاسهم وآثارهم بحيث لا يخرج أحد عن قبضته وقدرته، راجع قوله تعالى: (لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) في الآية ٥٤ من سورة الأعراف المارة وآية (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) ٨ من سورة الرعد في ج ٣، «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» ٩٥ لا مال ولا ولد معهم ولا خدم ولا حشم، مجردين عن كل شيء كما ولدوا، وهذه الآية مثل الآية ٨٠ المارة وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ٩٣ من الأنعام في ج ٢، فيأتونه وكلهم حاجة إلى رحمته فكيف ينسبون له الولد تعالى عن ذلك «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» الذين نزهوا ربهم عن الشريك والولد وغيره ويعترفون بوحدانيته ونبوة أنبيائه واليوم الآخر «سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» ٩٦ في الدنيا فيحببهم لخلقه ويحبب الخلق إليهم، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة

عن النبي ﷺ أنه قال: إذا أحب الله سبحانه وتعالى عبدا دعا جبريل عليه السلام فيقول له إن الله يحب فلانا فأحبّه فيحبه جبريل فينادي في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبدا دعا جبريل فيقول له أنا أبغض فلانا فابغضه، فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فابغضوه، ثم يوضع له البغضاء في الأرض.
وسيأتي لهذا البحث صلة نفيسة في الآية ٦٨ من سورة الزخرف في ج ٢. قالوا إن هذه الآية نزلت في الذين هاجروا إلى الحبشة لأنهم كانوا ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله ذلك وأنجز لهم وعده، وسيأتي بيان ما وقع لهم مع ملك الحبشة في الآية ١٩٩ من آل عمران في ج ٣، وإليكم أن من يجمل الله له ودّا في الدنيا من أجل إيمانه وعمله الصالح فإنه يجعل له ودا في الآخرة من باب أولى لأن الدنيا مزرعة الآخرة وتوادّ الآخرة بين الله وبين عباده أكثر من توادهم بينهم، راجع الآية ٥٥ من سورة المائدة في ج ٢. قال تعالى «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ» هذا القرآن العظيم «بِلِسانِكَ» يا سيد الرسل «لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ» بما لهم عند الله من الكرامة في الآخرة التي تضمحل عندها عزة الملوك، وأبن عطاء الملوك في الدنيا من إكرام ملك الملوك في الآخرة «وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» ٩٧ شديدي الخصومة بالباطل ممتنعين عن الإيمان بالله لجاجا وعنادا لم يحسبوا لعاقبتهم أمرا ولا لحسابهم عذرا «وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ» من القرون الماضية بسبب إصرارهم على الكفر وفي هذه الجملة وعيد لقومه ووعد لرسوله ﷺ ضمن وعيدهم بالإهلاك وحثّ له على إدامة العمل بإنذارهم ولهذا التفت اليه وخاطبه عز خطابه بقوله وانظر يا حبيبي «هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ» من أولئك القرون الهالكة، أي تشعر كأنهم ما كانوا «أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً» ٩٨ أقل صوت، والركز هو الخفاء ومنه الركاز المال المدفون في الأرض، وركز الرمح إذا غيبت طرفه في الأرض، والمعنى أهلكناهم جميعا عن بكرة أبيهم، بحيث لا يرى منهم أحد، ولا يسمع لهم صوت، لأن الله عز وجل أخذهم استئصالا فلم يبق منهم عين ولا أثر. ولا يوجد سورة مختومة بمثل هذه اللفظة. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله.