
قوله تعالى: فَاعْبُدْهُ أي: وحّده، لأن عبادته بالشِّرك ليست عبادة، وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ أي:
اصبر على توحيده وقيل: على أمره ونهيه. قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا روى هارون عن أبي عمرو أنه كان يُدغم «هل تعلم»، ووجهه أن سيبويه يجيز إِدغام اللام في التاء والثاء والدال والزاي والسين والصاد والطاء، لأنّ آخر مخرج من اللام قريب من مخارجهن، قال أبو عبيدة: إِذا كان بعد «هل» تاء، ففيه لغتان وبعضهم يُبين لام «هل»، وبعضهم يدغمها. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: مِثْلاً وشبهاً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة. والثاني: هل تعلم أحداً يسمّى «اللهَ» غيرُه، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: هل تعلم أحداً يستحق أن يقال له:
خالق وقادر، إلّا هو، قاله الزّجّاج.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٦ الى ٧٢]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢)
قوله تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ.
(٩٦٥) سبب نزولها أن أُبيَّ بن خلف أخذ عظماً بالياً، فجعل يفتّه بيده ويذريه في الريح ويقول:
زعم لكم محمد أن الله يبعثنا بعد أن نكون مثل هذا العظم البالي، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وروى عطاء عن ابن عباس: أنه الوليد بن المغيرة.
قوله تعالى: لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا إِن قيل: ظاهره ظاهر سؤال، فأين جوابه؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن الأنباري: أحدها: أن ظاهر الكلام استفهام، ومعناه معنى جحد وإِنكار، تلخيصه: لستُ مبعوثاً بعد الموت. والثاني: أنه لمّا استفهم بهذا الكلام عن البعث، أجابه الله عزّ وجلّ بقوله: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ، فهو مشتمل على معنى: نعم، وأنت مبعوث. والثالث: أن جواب سؤال هذا الكافر في يس عند قوله عزّ وجلّ: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا «١»، ولا يُنكَر بُعْد الجواب، لأن القرآن كلَّه بمنزلة الرسالة الواحدة، والسورتان مكيَّتان.
قوله تعالى: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بفتح الذال مشددة الكاف. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر: «يَذْكُرُ» ساكنة الذال خفيفة. وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو المتوكّل النّاجي أو لا يتذكَّر الإِنسان: بياء وتاء. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن: «يذْكُر» بياء من غير تاء ساكنة الذال مخففة مرفوعة الكاف، والمعنى: أولا يتذكّر
__________
(١) سورة يس: ٧٨.

هذا الجاحد أوَّل خلقه، فيستدل بالابتداء على الإعادة؟! فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ يعني: المكذِّبين بالبعث وَالشَّياطِينَ أي: مع الشياطين، وذلك أن كل كافر يُحشَر مع شيطانه في سلسلة، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ قال مقاتل: أي: في جهنم، وذلك أن حول الشيء يجوز أن يكون داخلَه، تقول: جلس القوم حول البيت: إِذا جلسوا داخله مطيفين به. وقيل: يجثون حولها قبل أن يدخلوها. فأما قوله: جِثِيًّا فقال الزجاج: هو جمع جاثٍ، مثل قاعدٍ وقعودٍ، وهو منصوب على الحال، والأصل ضم الجيم، وجاء كسرها إِتباعاً لكسرة الثاء. وللمفسرين في معناه خمسة أقوال: أحدها: قعوداً، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: جماعات جماعات، وروي عن ابن عباس أيضاً. فعلى هذا هو جمع جثْوة وهي المجموع من التراب والحجارة. والثالث: جثيّاً على الرُّكَب، قاله الحسن، ومجاهد والزجاج. والرابع:
قياماً، قاله أبو مالك. والخامس: قياماً على رُكَبهم، قاله السدي، وذلك لضيق المكان بهم.
قوله تعالى: لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي: لنأخذنّ من كل فِرقة وأُمَّة وأهل دين أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي: أعظمهم له معصية، والمعنى: أنه يُبدَأ بتعذيب الأعتى فالأعتى، وبالأكابر جُرْماً، والرؤوس القادة في الشرِّ. قال الزجاج: وفي رفع «أَيُّهم» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه على الاستئناف، ولم تعمل «لننزعنّ» شيئا، وهذا قول يونس. والثاني: أنه على معنى الذي يقال لهم: أيُّهم أشدُّ على الرحمن عِتِيّاً؟ قاله الخليل، واختاره الزجاج، وقال: التأويل: لننزعنّ الذي من أجل عُتُوِّه يقال: أيُّ هؤلاء أَشَدُّ عِتِيّاً؟ وأنشد:
وَلَقَدْ أَبِيتُ عن الفَتَاةِ بمنزل | فأبيت لا حرج ولا محروم |
والثالث: أنّ «أيّهم» مبنية على الضمّ، لأنها خالفت أخواتها، فالمعنى: أيُّهم هو أفضل. وبيان خلافها لأخواتها أنك تقول: اضرب أيُّهم أفضل. ولا يَحْسُن: اضرب مَنْ أفْضل، حتى تقول: من هو أفضل، ولا يَحْسُن: كُلْ ما أطيب، حتى تقول: ما هو أطيب، ولا خُذْ ما أفضل، حتى تقول: الذي هو أفضل، فلما خالفت «ما» و «مَنْ» و «الذي» بُنيت على الضم، قاله سيبويه.
قوله تعالى: هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا يعني: أن الأَوْلى بها صِلِيّاً الذين هم أشدُّ عِتِيّاً فيُبْتَدَأُ بهم قبل أتباعهم. و «صِلِيّاً» : منصوب على التفسير، يقال: صَلي النار يصلاها: إِذا دخلها وقاسى حَرَّها. قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها في الكلام إِضمار تقديره: وما منكم أحد إِلا وهو واردها. وفيمن عُني بهذا الخطاب قولان: أحدهما: أنه عامّ في حق المؤمن والكافر، هذا قول الأكثرين. وروي عن ابن عباس أنه قال: هذه الآية للكفار. وأكثر الروايات عنه كالقول الأول. قال ابن الأنباري: ووجه هذا أنه لما قال: لَنُحْضِرَنَّهُمْ وقال: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا كان التقدير وإِن منهم، فأبدلت الكاف من الهاء، كما فعل في قوله: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً «١» المعنى: كان لهم، لأنه مردود على قوله:
وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ «٢»، وقال الشاعر:
شطّت مزار العاشقين وأصبحت | عسرا عليّ طلابك ابنة مخرم |
(٢) سورة الإنسان: ٢١.

أراد: طلابها. وفي هذا الورود خمسة أقوال «١» :
أحدها: أنه الدخول. روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال:
(٩٦٦) «الورود: الدخول لا يبقى بَرّ ولا فاجر إِلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إِبراهيم، حتى إِن للنار- أو قال: لجهنم- ضجيجاً من بردهم».
وروي عن ابن عباس أنه سأله نافع بن الأزرق عن هذه الآية، فقال له: «أمّا أنا وأنت فسندخلها، فانظر أيُخرجنا الله عزّ وجلّ منها، أم لا؟ فاحتج بقوله تعالى: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ «٢» وبقوله تعالى:
أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ «٣». وكان عبد الله بن رواحة يبكي ويقول: أُنبئت أني وارد، ولم أُنبَّأ أني صادر.
وحكى الحسن البصري: أن رجلاً قال لأخيه: يا أخي هل أتاك أنك واردٌ النار؟ قال: نعم قال: فهل أتاك أنك خارجٌ منها؟ قال: لا قال: ففيم الضحك؟! وقال خالد بن معدان: إِذا دخل أهل الجنة الجنة، قالوا: ألم يَعِدْنا رَبُّنا أن نرد النار؟ فيقال لهم: بلى، ولكن مررتم بها وهي خامدة. وممن ذهب إِلى أنه الدخول: الحسن في رواية، وأبو مالك. وقد اعتُرِض على أرباب هذا القول بأشياء. فقال الزجاج: العرب تقول: وردت بلد كذا، ووردت ماء كذا: إِذا أشرفوا عليه وإِن لم يدخلوا، ومنه قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ «٤» والحجة القاطعة في هذا القول قوله تعالى: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها «٥»، وقال زهير:
فَلَمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمَامُهُ | وَضَعْنَ عِصيَّ الحاضِرِ المُتَخيِّم «٦» |
والثاني: أن الورود: الممرُّ عليها، قاله عبد الله بن مسعود، وقتادة. وقال ابن مسعود: يَرِد الناس النار، ثم يصدرون عنها بأعمالهم، فأولُهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحُضْر الفرس، ثم كالراكب في رحله، ثم كشدِّ الرحل، ثم كمشيه. والثالث: أن ورودها: حضورها، قاله عبيد بن عمير. والرابع:
أن ورود المسلمين: المرور على الجسر، وورود المشركين: دخولها. قاله ابن زيد. والخامس: أن ورود المؤمن إِليها: ما يصيبه من الحمَّى في الدنيا، روى عثمان بن الأسود عن مجاهد أنه قال: الحمّى
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي ٧/ ٥٥: رجال أحمد ثقات اه. وهو حديث حسن.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ٣٦٧: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: يردها الجميع ثم يصدر عنها المؤمنون فينجيهم الله ويهوي فيها الكفار.
(٢) سورة هود: ٩٨.
(٣) سورة الأنبياء: ٩٨.
(٤) سورة القصص: ٣٣.
(٥) سورة الأنبياء: ١٠١ و ١٠٢.
(٦) البيت في «شرح ديوان زهير» ١٣، و «اللسان» - زرق-. والزّرق: المياه الصافية. وجمامة: راحة وشبع وريّ.