آيات من القرآن الكريم

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ۖ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا
ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙ ﰿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ

وثانيا- لا لغو فيها: وهو المنكر من القول، والباطل من الكلام، والفحش منه، والفضول الساقط الذي لا ينتفع به: لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [الغاشية ٨٨/ ١١].
وثالثا- لكن يسمعون فيها سلام بعضهم على بعض، وسلام الملائكة عليهم، والسلام: اسم جامع للخير، والمعنى: أنهم لا يسمعون فيها إلا ما يحبون.
ورابعا- لهم ما يشتهون فيها من المطاعم والمشارب بكرة وعشيا، أي قدر هذين الوقتين، إذ لا بكرة ثم ولا عشيا.
وخامسا- هذه الجنة حق خالص يرثه ويتملكه العباد الأتقياء، وهم من اتقى الله وعمل بطاعته، فقام بالأوامر، واجتنب النواهي.
تنزل الوحي بأمر الله تعالى
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
الإعراب:
وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ على حذف: قل، أي قل: ما نتنزل إلا بأمر ربك، فحذف قل، والخطاب لجبريل، وحذف القول كثير في كلام العرب وفي القرآن. ولَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ دليل على أن الأزمنة ثلاثة: ماض وحاضر ومستقبل. وعطف كلام غير الله وَما نَتَنَزَّلُ على كلام الله تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ من غير فصل أمر جائز إذا كانت القرينة ظاهرة، مثل: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة ٢/ ١١٧ وآل عمران ٣/ ٤٧] الذي هو كلام الله، وقوله: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [مريم ١٩/ ٣٦] الذي هو كلام غير الله.

صفحة رقم 136

وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبُّ السَّماواتِ إما مرفوع بدل من رَبِّكَ اسم كانَ، أو خبر مبتدأ مقدر، أي هو ربّ السموات، أو مبتدأ، وخبره فَاعْبُدْهُ عند أبي الحسن الأخفش لأنه يجوز أن تزاد الفاء في خبر المبتدأ، وإن لم يكن المبتدأ اسما موصولا، أو نكرة موصوفة، مثل: «زيد فمنطلق» والأكثرون على أن الفاء عاطفة، لا زائدة، أي هذا زيد فهو منطلق، فكل واحد منهما خبر مبتدأ محذوف.
البلاغة:
لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
نَتَنَزَّلُ التنزل: النزول على مهل وقتا بعد وقت، وهو حكاية قول جبريل حين استبطأه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، ولم يدر ما يجيب، ورجا أن يوحى إليه فيه، فأبطأ عليه خمسة عشر يوما إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ المعنى: وما ننزل وقتا بعد وقت إلا بأمر الله ومشيئته على ما تقتضيه حكمته. وقرئ: وما يتنزل، والضمير للوحي لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ له ما أمامنا في الزمان المستقبل، وما وراءنا من الزمان الماضي، وما بينهما من الزمان الحاضر وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي ناسيا تاركا لك، بتأخير الوحي عنك، والمعنى: ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به، ولم يكن ذلك عن ترك الله لك، وتوديعه إياك، كما زعمت الكفرة، وإنما كان لحكمة رآها فيه.
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما بيان لامتناع النسيان عليه فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ خطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مرتب على ما سبق، أي لما عرفت ربّك بأنه لا ينبغي له أن ينساك، فأقبل على عبادته واصطبر عليها، أي اصبر على مشاقها وشدائدها، ولا تتشوش بإبطاء الوحي وهزء الكفرة. وإنما عدّي باللام لِعِبادَتِهِ لتضمنه معنى الثبات للعبادة، كما تقول للمحارب: اصطبر لقرنك، أي اثبت له في حملاته هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي مثلا ونظيرا مسمى بذلك، أي الله؟ فإن المشركين لم يسموا الصنم الإله: (الله) قط. وإذا صح ألا أحد مثله ولا يستحق العبادة غيره، لم يكن بد من التسليم لآمره والاشتغال بعبادته والاصطبار على مشاقها.
سبب النزول:
أخرج أحمد والبخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وآله وسلّم لجبريل: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا، فنزلت: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ.

صفحة رقم 137

وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: أبطأ جبريل في النزول أربعين يوما، فذكر نحوه.
وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس: أن قريشا لما سألوه عن أصحاب الكهف، مكث خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله له في ذلك وحيا، فلما نزل جبريل، قال له: أبطأت، فذكره.
وروي عن ابن عباس «أن جبريل عليه السلام احتبس عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أياما، حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، ولم يدر عليه الصلاة والسلام كيف يجيب؟ فحزن واشتد عليه ذلك، وقال المشركون: إن ربّه ودّعه وقلاه، فلما نزل، قال له عليه الصلاة والسلام: يا جبريل، احتسبت عني، حتى ساء ظني، واشتقت إليك، فقال: إني إليك لأشوق، ولكني عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست، وأنزل الله هذه الآية» «١».
ولا مانع من تعدد الوقائع وأسباب النزول.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصص الأنبياء كزكريا وإبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس، تثبيتا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذكر ما أنعم الله عليهم وما أحدثه الخلف بعدهم، وجزاء الفريقين، ذكر الله سبب تأخر الوحي على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، تنبيها على قصة قريش واليهود، من أولئك الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وختما لقصص أولئك المنعم عليهم بمخاطبة أشرفهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي هو من ذرية إبراهيم.
التفسير والبيان:
وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا عطف الله هذه الآية التي هي كلام غير الله على آية: تِلْكَ الْجَنَّةُ..

(١) تفسير الرازي: ٢١/ ٢٣٩

صفحة رقم 138

التي هي كلام الله من غير فصل، وهو جائز إذا كانت القرينة ظاهرة، مثل عطف آية وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [مريم ١٩/ ٣٦] التي هي كلام غير الله، على قوله: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة ٢/ ١١٧ وآل عمران ٣/ ٤٧] الذي هو كلام الله.
ومعنى الآية: بعد أن استبطأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نزول جبريل عليه، أمر الله جبريل أن يقول: وما نتنزل نحن الملائكة بالوحي على الأنبياء والرسل إلا بأمر الله بالتنزيل على وفق الحكمة والمصلحة وخير العباد في الدنيا والآخرة.
إن لله تعالى التدبير والتصرف وأمر الدنيا والآخرة وما بين ذلك من الجهات والأماكن والأزمنة الماضية والحاضرة والمستقبلة، فلا نقدم على أمر إلا بإذنه.
وقوله: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ خطاب جماعة لواحد، وذلك لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول. والتنزل هنا: النزول على مهل، أي أن نزول الملائكة وقتا بعد وقت لا يكون إلا بأمر الله تعالى.
وما نسيك ربك يا محمد، وإن تأخر عنك الوحي، ولا ينسى شيئا، ولا يغفل عن شيء، وإنما يقدّم ويؤخّر لما يراه من الحكمة، وهذه الآية كقوله تعالى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى ٩٣/ ١- ٣].
روى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني عن أبي الدرداء مرفوعا قال: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرّمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا» ثم تلا هذه الآية: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا.
والدليل على ذلك قوله سبحانه:
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ

صفحة رقم 139

سَمِيًّا
أي إن الله خالق السموات والأرض ومالكهما وما بينهما، وهو المدبر والحاكم والمتصرف الذي لا معقب لحكمه، فاثبت على عبادة ربك، واصطبر على العبادة والطاعة وما فيها من المتاعب والشدائد، ولا تنصرف عنها بسبب إبطاء الوحي، هل تعلم للرب مثلا أو شبيها، يكون أهلا للعبادة؟ فهو الخالق والمدبر والرازق والمنعم بأصول النعم وفروعها من خلق الأجسام والحياة والعقل وما يحتاجه الإنسان وغيره، فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه سبحانه.
والمراد بنفي العلم نفي الشريك على أي وجه، والاستفهام للإنكار، وهل بمعنى لا، أي لا تعلم.
قال ابن عباس: ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى وتقدس اسمه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على أمرين:
الأول- إن الملائكة رسل الله بالوحي لا تنزل على أحد من الأنبياء والرسل من البشر إلا بأمر الله مدبر الكائنات في كل زمان ومكان، والذي لا يغفل عن شيء ولا ينساه، إذا شاء أن يرسل الملك أرسله.
الثاني- إن الله عز وجل هو رب السموات والأرض وخالقهما وخالق ما بينهما، ومالكهما ومالك ما بينهما، فكما إليه تدبير الأزمان، كذلك إليه تدبير الأعيان، وبما أنه المالك على الإطلاق فهو الذي وجبت عبادته، ولا يستحقها أحد سوى المالك المعبود، الذي ليس له ولد ولا نظير أو مثيل أو شبيه يستحق مثل اسمه الذي هو الله وهو الرحمن.
والعبادة: الطاعة بغاية الخضوع لله تعالى، وما على الرسول وغيره من المؤمنين إلا الاشتغال بما أمر به والاستمرار عليه، دون استبطاء شيء آخر.

صفحة رقم 140
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية