آيات من القرآن الكريم

يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا
ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ

الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَفِي الْآخِرَةِ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ.
وَالثَّانِي: لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْجَنَّةِ بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ أَمْرٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُنْذِرَ مَنْ فِي زَمَانِهِ فَيَصْلُحَ بِأَنْ يَجْعَلَ هَذَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ أَرَادَ بِهِ اخْتِلَافَ جَمِيعِهِمْ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الْإِنْذَارُ فَهُوَ التَّخْوِيفُ مِنَ الْعَذَابِ لِكَيْ يَحْذَرُوا مِنْ تَرْكِ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا يَوْمُ الْحَسْرَةِ فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مِنْ حَيْثُ يَكْثُرُ التَّحَسُّرُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَقِيلَ يَتَحَسَّرُ أَيْضًا فِي الْجَنَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّابِقِينَ الْوَاصِلِينَ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْحَسْرَةَ غَمٌّ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الثَّوَابِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ فَفِيهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ بِبَيَانِ الدَّلَائِلِ وَشَرْحِ أَمْرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَثَانِيهَا: إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ يَوْمَ الْحَسْرَةِ بِفَنَاءِ الدُّنْيَا وَزَوَالِ التَّكْلِيفِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِقَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ ظَهَرَتِ الْحُجَجُ وَالْبَيِّنَاتُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَثَالِثُهَا:
رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: قُضِيَ الْأَمْرُ: «فَقَالَ حِينَ يُجَاءُ بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُذْبَحُ وَالْفَرِيقَانِ يَنْظُرَانِ فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا عَلَى فَرَحٍ وَأَهْلُ النَّارِ غَمًّا عَلَى غَمٍّ»
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَوْتَ عَرَضٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ/ جِسْمًا حَيَوَانِيًّا بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا مَوْتَ الْبَتَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ أَيْ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَعَنْ كَيْفِيَّةِ حَسْرَتِهِ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ بِذَلِكَ الْيَوْمِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها أَيْ هَذِهِ الْأُمُورِ تَؤُولُ إِلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى: وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أَيْ إِلَى مَحَلِّ حُكْمِنَا وَقَضَائِنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ حَتَّى يَكُونَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَهَذَا تَخْوِيفٌ عَظِيمٌ وَزَجْرٌ بليغ للعصاة.
القصة الثالثة: قصة إبراهيم عليه السلام.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٤٥]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
اعْلَمْ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْحَشْرِ، وَالْمُنْكِرُونَ لِلتَّوْحِيدِ هُمُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا مَعْبُودًا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَؤُلَاءِ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ مَعْبُودًا غَيْرَ اللَّهِ حَيًّا عَاقِلًا فَاهِمًا وَهُمُ النَّصَارَى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ مَعْبُودًا غَيْرَ اللَّهِ جَمَادًا لَيْسَ بِحَيٍّ وَلَا عَاقِلٍ وَلَا فَاهِمٍ وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَالْفَرِيقَانِ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الضَّلَالِ إِلَّا أَنَّ ضَلَالَ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَعْظَمُ فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى ضَلَالَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ تَكَلَّمَ فِي ضَلَالِ الْفَرِيقِ الثَّانِي وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فَقَالَ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ تعالى واذكر عطف على قوله: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم: ٢] كَأَنَّهُ لَمَّا انْتَهَتْ قِصَّةُ عِيسَى وَزَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قَالَ قَدْ ذَكَرْتَ حَالَ زَكَرِيَّا فَاذْكُرْ حَالَ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا أُمِرَ بِذِكْرِهِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ هُوَ وَلَا قَوْمُهُ وَلَا أَهْلُ بَلْدَتِهِ مُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ وَمُطَالَعَةِ الْكُتُبِ فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ كَمَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ وَمُعْجِزًا قَاهِرًا دَالًّا عَلَى نُبُوَّتِهِ. وإنما شرع

صفحة رقم 541

فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أن إبراهيم عليه السلام كان أب الْعَرَبِ وَكَانُوا مُقِرِّينَ/ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ وَطَهَارَةِ دِينِهِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الْحَجِّ: ٧٨] وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الْبَقَرَةِ: ١٣٠] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِلْعَرَبِ إِنْ كُنْتُمْ مُقَلِّدِينَ لِآبَائِكُمْ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُكُمْ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: ٢٣] وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَشْرَفَ آبَائِكُمْ وَأَجَلَّهُمْ قَدْرًا هُوَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَلِّدُوهُ فِي تَرْكِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنَ الْمُسْتَدِلِّينَ فَانْظُرُوا فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِتَعْرِفُوا فَسَادَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَبِالْجُمْلَةِ فَاتَّبِعُوا إِبْرَاهِيمَ إِمَّا تَقْلِيدًا وَإِمَّا اسْتِدْلَالًا. وَثَانِيهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكُفَّارِ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَقُولُونَ كَيْفَ نَتْرُكُ دِينَ آبَائِنَا وَأَجْدَادِنَا فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ دِينَ أَبِيهِ وَأَبْطَلَ قَوْلَهُ بِالدَّلِيلِ وَرَجَّحَ مُتَابَعَةَ الدَّلِيلِ عَلَى مُتَابَعَةِ أَبِيهِ لِيَعْرِفَ الْكُفَّارُ أَنَّ تَرْجِيحَ جَانِبِ الْأَبِ عَلَى جَانِبِ الدَّلِيلِ رَدٌّ عَلَى الْأَبِ الْأَشْرَفِ الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكُفَّارِ كَانُوا يَتَمَسَّكُونَ بِالتَّقْلِيدِ وَيُنْكِرُونَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: ٢٢] وقالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٥٣] فَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّمَسُّكَ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ تَنْبِيهًا لِهَؤُلَاءِ عَلَى سُقُوطِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَفِي الصِّدِّيقِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِهِ صَادِقًا وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ عَادَتُهُ الصِّدْقَ لِأَنَّ هَذَا الْبِنَاءَ يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ يُقَالُ رَجُلٌ خِمِّيرٌ وَسِكِّيرٌ لِلْمُولَعِ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الَّذِي يَكُونُ كَثِيرَ التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ حَتَّى يَصِيرَ مَشْهُورًا بِهِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ بِالشَّيْءِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ صِدِّيقًا إِلَّا إِذَا كَانَ صَادِقًا فِي ذَلِكَ التَّصْدِيقِ فَيَعُودُ الْأَمْرُ إِلَى الْأَوَّلِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ [الْحَدِيدِ: ١٩] قُلْنَا: الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ صَادِقُونَ فِي ذَلِكَ التَّصْدِيقِ وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَدَّقَهُ وَمُصَدَّقُ اللَّهِ صَادِقٌ وَإِلَّا لَزِمَ الْكَذِبُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا كَوْنُ الرَّسُولِ صَادِقًا فِي كُلِّ مَا يَقُولُ، وَلِأَنَّ الرُّسُلَ شُهَدَاءُ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: ٤١] وَالشَّهِيدُ إِنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا قَوْلُكُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء: ٦٣] وإِنِّي سَقِيمٌ قُلْنَا قَدْ شَرَحْنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِكَذِبٍ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صِدِّيقًا وَلَا يَجِبُ فِي كُلِّ صِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا ظَهَرَ بِهَذَا قُرْبُ مَرْتَبَةِ الصِّدِّيقِ مِنْ مَرْتَبَةِ النَّبِيِّ فَلِهَذَا انْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِ كَوْنِهِ صِدِّيقًا إِلَى ذِكْرِ كَوْنِهِ نَبِيًّا. وَأَمَّا النَّبِيُّ فَمَعْنَاهُ كَوْنُهُ رَفِيعَ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ وَأَيُّ رِفْعَةٍ أَعْلَى مِنْ رِفْعَةِ مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ. وَقَوْلُهُ: كانَ صِدِّيقاً قِيلَ:
إِنَّهُ صَارَ وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَاهُ وُجِدَ صِدِّيقًا نَبِيًّا أَيْ كَانَ مِنْ أَوَّلِ وُجُودِهِ إِلَى انْتِهَائِهِ مَوْصُوفًا بِالصِّدْقِ وَالصِّيَانَةِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَبَدَلِهِ أَعْنِي إِبْرَاهِيمَ وَإِذْ قَالَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ رَأَيْتُ زَيْدًا وَنِعْمَ الرَّجُلُ أَخَاكَ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ إِذْ بَكَانِ أَوْ بِصِدِّيقًا نَبِيًّا أَيْ كَانَ جَامِعًا لِخَصَائِصِ الصِّدِّيقِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ حِينَ خَاطَبَ أباه بتلك المخاطبات/ أما قوله: يا أَبَتِ
فَالتَّاءُ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ وَلَا يُقَالُ يَا أَبَتِي لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ عَنْهُ وَقَدْ يُقَالُ: يَا أَبَتَا لِكَوْنِ الْأَلِفِ بَدَلًا مِنَ الْيَاءِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَكَلَّمَ مَعَ أَبِيهِ بِأَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلَامِ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلِهِ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
ووصف الْأَوْثَانَ بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا قَادِحَةٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أن

صفحة رقم 542

الْعِبَادَةَ غَايَةُ التَّعْظِيمِ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا مَنْ لَهُ غَايَةُ الْإِنْعَامِ وَهُوَ الْإِلَهُ الَّذِي مِنْهُ أُصُولُ النِّعَمِ وَفُرُوعُهَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [مريم: ٣٦] وَقَالَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٨] الْآيَةَ وَكَمَا يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِشُكْرِهَا مَا لَمْ تَكُنْ مُنْعِمَةً وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَتِهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَسْمَعْ وَلَمْ تُبْصِرْ وَلَمْ تُمَيِّزْ مَنْ يُطِيعُهَا عَمَّنْ يَعْصِيهَا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي عِبَادَتِهَا، وَهَذَا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ آمِنًا مِنْ وُقُوعِ الْغَلَطِ لِلْمَعْبُودِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الدُّعَاءَ مُخُّ الْعِبَادَةِ فَالْوَثَنُ إِذَا لَمْ يَسْمَعْ دُعَاءَ الدَّاعِي فَأَيُّ مَنْفَعَةٍ فِي عِبَادَتِهِ وَإِذَا كَانَتْ لَا تُبْصِرُ بِتَقَرُّبِ مَنْ يَقْتَرِبُ إِلَيْهَا فَأَيُّ مَنْفَعَةٍ فِي ذَلِكَ التَّقَرُّبِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ السَّامِعَ الْمُبْصِرَ الضَّارَّ النَّافِعَ أَفْضَلُ مِمَّنْ كَانَ عَارِيًا عَنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَالْإِنْسَانُ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ مِنَ الْوَثَنِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْأَفْضَلِ عِبَادَةُ الْأَخَسِّ. وَخَامِسُهَا: إِذَا كَانَتْ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ فَلَا يُرْجَى مِنْهَا مَنْفَعَةٌ وَلَا يُخَافُ مِنْ ضَرَرِهَا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي عِبَادَتِهَا. وَسَادِسُهَا: إِذَا كَانَتْ لَا تَحْفَظُ أَنْفُسَهَا عَنِ الْكَسْرِ وَالْإِفْسَادِ عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَسَّرَهَا وَجَعَلَهَا جُذَاذًا فَأَيُّ رَجَاءٍ لِلْغَيْرِ فِيهَا وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَابَ الْوَثَنَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: لَا يَسْمَعُ.
وَثَانِيهَا: لَا يُبْصِرُ. وَثَالِثُهَا: لَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: بَلِ الْإِلَهِيَّةُ لَيْسَتْ إِلَّا لِرَبِّي فَإِنَّهُ يَسْمَعُ وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي وَيُبْصِرُ، كَمَا قَالَ: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طَهَ: ٤٦] وَيَقْضِي الْحَوَائِجَ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النَّمْلِ: ٦٢] واعلم أن قوله هاهنا لِمَ تَعْبُدُ
مَحْمُولٌ عَلَى نَفْسِ الْعِبَادَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْمَقَامِ الثَّالِثِ: لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ لَا يُقَالُ ذَلِكَ بَلِ الْمُرَادُ الطَّاعَةُ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَلِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ إِذَا تَرَكْنَا الظَّاهِرَ هاهنا لِدَلِيلٍ وَجَبَ تَرْكُ الظَّاهِرِ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَإِنْ قِيلَ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ أَبَا إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَعْتَقِدُ فِي تِلْكَ الْأَوْثَانِ أَنَّهَا آلِهَةٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا قَادِرَةٌ مُخْتَارَةٌ مُوجِدَةٌ لِلنَّاسِ وَالْحَيَوَانَاتِ أَوْ يُقَالُ إِنَّهُ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ بَلْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا تَمَاثِيلُ الْكَوَاكِبِ وَالْكَوَاكِبُ هِيَ الْآلِهَةُ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ، فَتَعْظِيمُ تَمَاثِيلِ الْكَوَاكِبِ بِمُوجَبِ تَعْظِيمِ الْكَوَاكِبِ أَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ الْأَوْثَانَ تَمَاثِيلُ أَشْخَاصِ مُعَظَّمَةٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْبَشَرِ فَتَعْظِيمُهَا يَقْتَضِي كَوْنَ أُولَئِكَ الْأَشْخَاصِ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ تِلْكَ الْأَوْثَانَ طَلْسَمَاتٌ رُكِّبَتْ بِحَسَبِ اتِّصَالَاتٍ مَخْصُوصَةٍ لِلْكَوَاكِبِ قَلَّمَا يَتَّفِقُ مِثْلُهَا، وَأَنَّهَا مُشَفَّعٌ بِهَا، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَإِنْ كَانَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَانَ فِي نِهَايَةِ الْجُنُونِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ هَذَا الْخَشَبَ الْمَنْحُوتَ فِي هَذِهِ الساعة ليس خالقا للسموات وَالْأَرْضِ مِنْ/ أَجْلَى الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، فَالشَّاكُّ فِيهِ يَكُونُ فَاقِدًا لَأَجْلَى الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ فَكَانَ مَجْنُونًا وَالْمَجْنُونُ لَا يَجُوزُ إِيرَادُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَالْمُنَاظَرَةُ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي فَهَذِهِ الدَّلَائِلُ لَا تَقْدَحُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ إِنَّمَا يَبْطُلُ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَيْسَتْ أَحْيَاءً وَلَا قَادِرَةً عَلَى خَلْقِ الْأَجْسَامِ وَخَلْقِ الْحَيَاةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدليل المذكور هاهنا لَا يُفِيدُ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الدَّلَالَةَ عَدِيمَةُ الْفَائِدَةِ عَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ، قُلْنَا: لَا نِزَاعَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى الْعَاقِلِ أَنَّ الْخَشَبَةَ الْمَنْحُوتَةَ لَا تَصْلُحُ لِخَلْقِ الْعَالَمِ وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُمْ هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ عِبَادَتَهَا تُفِيدُ نَفْعًا إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْخَاصِّيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الطَّلْسَمَاتِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ أَنَّ الْكَوَاكِبَ تَنْفَعُ وَتَضُرُّ، فَبَيَّنَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِي طَاعَتِهَا وَلَا مَضَرَّةَ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْسُنَ عِبَادَتُهَا. النَّوْعُ الثَّانِي: قوله: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ وَطَمِعَ فِي التَّمَسُّكِ بِهِ أَهْلُ التَّعْلِيمِ وَأَهْلُ التَّقْلِيدِ- أَمَّا أَهْلُ التَّعْلِيمِ فَقَالُوا: إِنَّهُ أَمَرَهُ بِالِاتِّبَاعِ فِي

صفحة رقم 543

الدِّينِ وَمَا أَمَرَهُ بِالتَّمَسُّكِ بِدَلِيلٍ لَا يُسْتَفَادُ إِلَّا مِنَ الِاتِّبَاعِ، وَأَمَّا أَهْلُ التَّقْلِيدِ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِهِ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مِنْ طَعَنَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالِاتِّبَاعِ لِتَحْصُلَ الْهِدَايَةُ، فَإِذَنْ لَا تَحْصُلُ الْهِدَايَةُ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِ، وَلَا تَبَعِيَّةَ إِلَّا إِذَا اهْتَدَى لِقَوْلِنَا إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اتِّبَاعِهِ فَيَقَعُ الدَّوْرُ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهِدَايَةِ بَيَانُ الدَّلِيلِ وَشَرْحُهُ وَإِيضَاحُهُ، فَعِنْدَ هَذَا عَادَ السَّائِلُ فَقَالَ: أَنَا لَا أُنْكِرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الدَّلَالَةِ، وَلَكِنِّي أَقُولُ الْوُقُوفُ عَلَى تِلْكَ الدَّلَالَةِ لَا يُسْتَفَادُ إِلَّا مِمَّنْ لَهُ نَفْسٌ كَامِلَةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ النَّقْصِ وَالْخَطَأِ، وَهِيَ نَفْسُ النَّبِيِّ الْمَعْصُومِ أَوِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ فَإِذَا سَلَّمْتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النَّبِيِّ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ فَقَدْ سَلَّمْتَ حُصُولَ الْغَرَضِ، أَجَابَ الْمُجِيبُ وَقَالَ أَنَا مَا سَلَّمْتُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الدَّلَائِلِ مِنْ هِدَايَةِ النَّبِيِّ، وَلَكِنِّي أَقُولُ هَذَا الطَّرِيقُ أَسْهَلُ وَإِنَّ إبراهيم عليه السلام دعاه إلى الْأَسْهَلِ وَالْجَوَابُ عَنْ سُؤَالِ الدَّوْرِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَاتَّبِعْنِي لَيْسَ أَمْرَ إِيجَابٍ بَلْ أَمْرَ إِرْشَادٍ. والنوع الثالث:
قوله: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا أَيْ لَا تُطِعْهُ لِأَنَّهُ عَاصٍ لِلَّهِ فَنَفَّرَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَنِ الْقَبُولِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْخِصَالِ الْمُنَفِّرَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِإِمْعَانِهِ فِي الْإِخْلَاصِ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ جِنَايَاتِ الشَّيْطَانِ إِلَّا كَوْنَهُ عَاصِيًا لِلَّهِ وَلَمْ يَذْكُرْ مُعَادَاتِهِ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّ النَّظَرَ فِي عِظَمِ مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ ذَلِكَ الْعِصْيَانِ غَمَّى فِكْرَهُ وَأَطْبَقَ عَلَى ذِهْنِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ ضَعِيفِ الرَّأْيِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَقِيقًا أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَى رَأْيِهِ وَلَا يُجْعَلَ لِقَوْلِهِ وَزْنٌ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِثْبَاتِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: إِثْبَاتُ الصَّانِعِ. وَثَانِيهَا: إِثْبَاتُ الشَّيْطَانِ. وَثَالِثُهَا: إِثْبَاتُ أَنَّ الشَّيْطَانَ عَاصٍ لِلَّهِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَاصِيًا لَمْ تَجُزْ طَاعَتُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الِاعْتِقَادَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، وَمِنْ شَأْنِ الدَّلَالَةِ الَّتِي تُورَدُ عَلَى الْخَصْمِ أَنْ تَكُونَ مُرَكَّبَةً مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَعْلُومَةٍ مُسَلَّمَةٍ، وَلَعَلَّ أَبَا إِبْرَاهِيمَ كَانَ مُنَازِعًا فِي كُلِّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ، / وَكَيْفَ وَالْمَحْكِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ مَا كَانَ يُثْبِتُ إِلَهًا سِوَى نُمْرُوذَ فَكَيْفَ يُسَلِّمُ وُجُودَ الْإِلَهِ الرَّحْمَنِ وَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ وُجُودَهُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ أَنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ عَاصِيًا لِلرَّحْمَنِ، ثُمَّ إِنَّ عَلَى تَسْلِيمِ ذَلِكَ فَكَيْفَ يُسَلِّمُ الْخَصْمُ بِمُجَرَّدِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَذْهَبَهُ مُقْتَبَسٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، بَلْ لَعَلَّهُ يَقْلِبُ ذَلِكَ عَلَى خَصْمِهِ، قُلْنَا: الْحُجَّةُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهَا فِي إِبْطَالِ مَذْهَبِ آزَرَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَوَّلًا مِنْ قَوْلِهِ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
فَأَمَّا هَذَا الْكَلَامُ فَيَجْرِي مَجْرَى التَّخْوِيفِ وَالتَّحْذِيرِ الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى النَّظَرِ فِي تِلْكَ الدَّلَالَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ السُّؤَالُ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: قوله: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى أَخَافُ أَعْلَمُ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَالِمًا بِأَنَّ أَبَاهُ سَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ وَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْمِنَ فَيَصِيرَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ وَيَجُوزُ أَنْ يُصِرَّ فَيَمُوتَ عَلَى الْكُفْرِ، فَيَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ خَائِفًا لَا قَاطِعًا، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ يَظُنُّ وُصُولَ الضَّرَرِ إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى خَائِفًا إِلَّا إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ وُصُولِ ذَلِكَ الضَّرَرِ إِلَيْهِ تَأَلُّمُ قَلْبِهِ كَمَا يُقَالُ أَنَا خَائِفٌ عَلَى وَلَدِي أَمَّا قَوْلُهُ:
فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا فَذَكَرُوا فِي الْوَلِيِّ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا اسْتَوْجَبَ عَذَابَ اللَّهِ كَانَ مَعَ الشَّيْطَانِ فِي النَّارِ وَالْوِلَايَةُ سَبَبٌ لِلْمَعِيَّةِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ مَجَازٌ وَإِنْ لَمْ يجز حمله الى الْوِلَايَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: ٦٧] وَقَالَ: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الْعَنْكَبُوتِ: ٢٥] وَحَكَى عَنِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ يَقُولُ لهم: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٢] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَذَابِ عَذَابَ الْآخِرَةِ، أَمَّا إِذَا

صفحة رقم 544
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية