
«مِنْ دَابَّةٍ» تدب عليها بما يشمل الإنسان والحيوان والحوت والطير وغيرها «وَلكِنْ» يحلم عليهم فيمهلهم علهم يتوبوا فيغفر لهم ولذلك «يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده لا يطلع عليه غيره «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ» المحتوم ولم يرجعوا إليه وبقوا مصرين على ما هم عليه، أوقع بهم عذابه جزاء أعمالهم الخبيثة، وإذ ذاك «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ» في ذلك اليوم كما هو الآن وقبل وبعد «بَصِيراً» ٤٥ بمن يستحق العقوبة ممن يستحق الكرامة، لم تخف عليه حقيقة أحد منهم.
هذا، ولا يوجد سورة في القرآن مختومة بمثل هذه الكلمة غير هذه والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة مريم عدد ٤٤- ١٩
نزلت بمكة بعد سورة فاطر عدا الآيتين ٥٨ و ٧١، وتسمى سورة كهيعص، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، وهي ثمان وتسعون آية، وسبعمائة وثمانون كلمة، وثلاثة آلاف وسبعمائة حرف.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى «كهيعص» ١ كلمة مؤلفة من مبادئ أسماء الله تعالى الحسنى كريم وكبير، وهاد، ورحيم، وعليم، وصادق، وصبور، ولا يعلم معناها الحقيقي إلا الله والمنزل عليه هذا القرآن، راجع تفسير المص تجد ما يتعلق بها، وهذا الذي نتلوه عليك يا أكرم الرسل «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» ٢ حينما دعا ربه بطلب الولد وأنعم عليه به بعد كبر سنه وعقر زوجته وكبرها على عقمها، فاذكر لقومك معجزة ربهم لرسوله زكريا كيف رحمه وأجاب دعاءه «إِذْ نادى رَبَّهُ» سأله واستغاث به «نِداءً خَفِيًّا» ٣ سرا بينه وبين ربه، لأنه أبعد عن الرياء وأدخل في الإخلاص، ولئلا يلومه قومه إذا سمعوا منه طلب الولد من ربه مع شيخوخته وعقم زوجته، لأنهم يرون ذلك طلبا تافها عقيما محالا، ولا ينبغي لمثله وهو على ما هو عليه من المركز بينهم أن صفحة رقم 136
يفعل ذلك، لعدم معرفتهم بقدرة الله الذي له خرق العادات لضعف إيمانهم، ثم ذكر صفة دعائه بقوله عز قوله «قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ» دق وضعف من الكبر «الْعَظْمُ مِنِّي» وإذا كان العظم صار كذلك، فما بالك باللحم وغيره من قوام وجوده؟ وزاد لفظة (مني) مع أنه لو قال عظمي لكفى بالمقصود، لأنه أحوج في الدلالة على الجنسية المقصودة هنا وهي أفصح ما يمكن أن يقال في هذا المقام وقد أخذ ابن دريد قوله:
واشتعل المبيّض في مسودّه | مثل اشتعال النار في جمر الغضا |

ولن يتساوى سادة وعبيدهم | على أن أسماء الجميع موالي |
مطلب في الأسماء وما يستحب منها ويجوز ويحرم:
«يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى» وهو أسم خصصناه به «لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ» في الدهور الماضية «سَمِيًّا» ٧ قط تشريفا له وفيه إعلام بأن الغريب جدير بالأثرة وكان ذلك لأنه لم يكن له مثل في أنه يعص الله قط ولم يهمّ بمعصية قط، وانه ولد بين شخصين هرمين، وأنه كان حصور لا يأتي النساء مع القدرة، لأن الأنبياء كاملين لا يعتريهم خلل، ولم يشرب الخمر صفحة رقم 138

مع أنه غير محرم عليه، ولم يلعب مع الصبيان. قالوا كانت العرب تسمي بالأسماء النادرة لهذه الغاية، قال بعضهم في مدح قوم:
شنع الأسامي مسبلي أزر | حمر تمس الأرض أهدابها |
فقال: لأني غريب الدار غريب الاسم خفيف الجرم. وكانت تختار الأسماء التي يتفاءل بها بعيدهم: كسعد وسعيد ومبارك ورزق ومرزوق ومسعود ومهنأ وبشير وشبهها، ويختارون الأسماء الدالة على الغلظة والشر لأنفسهم: كغضبان وعذاب وجدعان ومرار وذباح وهامة ونمر وفهد وما أشبه ذلك. ولما قيل لهم في ذلك قالوا إن اسماء عبيدنا لنا فنختار الأحسن، وأسماؤنا لأعدائنا فنختار لهم ما يوقع مهابتنا فيهم، مثل الضاري والسبع والهيثم والعادي، أما الأسماء المطلوبة في الإسلام فهي كما قال عليه الصلاة والسلام: خير الأسماء ما عبد وحمد كعبد الله وعبد الرحمن وعبد اللطيف ومحمد وأحمد ومحمود وما أشبه ذلك، وكرهوا اسم نافع ورابح وخير وشبهها لتفاؤل الشر بنفيها من قولهم لا نافع ولا رابح ولا خير في الدار إلى غير ذلك، وحرموا التسمية بعبد الحارث وعبد العزى وعبد الدار وغيرها من اسماء الجاهلية لما فيها من نسبة العبودية لغير الله تعالى «قالَ رَبِّ أَنَّى» كيف «يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا» ٨ يبسا وعساوة في المفاصل والعظام وصرت في حالة يأس، وهذا الاستفهام منه عليه السلام ليس على طريق الاستبعاد، وسيأتي توضيحه في تفسير الآية ٤٠ من آل عمران في ج ٣ إن شاء الله فراجعه، إذ جاءت هذه القصة فيها أوضح من غيرها في سائر السور، وهكذا نؤخر بيان القصص إلى السور التي هي فيها أوسع لأنها أوفى بالمقصود منها «قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ» مثل هذا الأمر الذي ترونه صعبا أولا يكون «هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ» ليس بشيء كيف «وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ» يحيى يا رسولي «وَلَمْ تَكُ شَيْئاً» ٩ موجودا أو خلقت أباك آدم من العدم، أفلا أخلق لك ولدا من أبوين مهما كانا صفحة رقم 139

في الهرم؟ وفي هذه الآية دلالة كافية على أن المعدوم ليس بشيء كما هو معتقد أهل السنة والجماعة قال في بدء الأمالي:
وما المعدوم مرثيا وشيئا | لفقه لاح في بمن الهلال |