مختلفين في هذه الصورة لم يكن بد من إضماره لأنه إذا قال عمرو لبكر ماذا قال زيد لخالد مما يماثل مقالته السابقة له؟ فيقول: إنك محبب مرضي وجب أن يكون التقدير قال زيد لخالد هذه المقالة لا محالة، ولا بعد في تنزيل كلام الزمخشري عليه، وهذا ما لوح إليه صاحب التقريب وآثره الإمام الطيبي وفيه فوات النكتة المذكورة في قالَ رَبُّكَ ثم إنه إن لم يكن سبق القول كان كذبا من حيث الظاهر إذ ليس من القول بلسان الإشارة إلا أن يؤول بأنه مستقبل معنى، هذا والكلام مسوق لما يزيل الاستبعاد ويحقق الموعود المرتاد وفي ذلك التقدير خروج عنه إلى معنى آخر ربما يستلزم هذا المعنى تبعا وما سيق له الكلام ينبغي أن يجعل الأصل انتهى.
وهو كلام تحقيق وتدقيق لا يرشد إليه إلا توفيق، وفي الآية وجه آخر هو ما أشار إليه صاحب الانتصاف، وهَيِّنٌ فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب، والمراد أني كامل القدرة على ذلك إذا أردته كان.
وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً تقرير لما قبل، والشيء هنا بمعنى الموجود أي ولم تك موجودا بل كنت معدوما، والظاهر أن هذا إشارة إلى خلقه بطريق التوالد والانتقال في الأطوار كما يخلق سائر أفراد الإنسان، وقال بعض المحققين: المراد به ابتداء خلق البشر، إذ هو الواقع إثر العدم المحض لا ما كان بعد ذلك بطريق التوالد المعتاد فكأنه قيل: وقد خلقتك من قبل في تضاعيف خلق آدم ولم تك إذ ذاك شيئا أصلا بل كنت عدما بحتا، وإنما لم يقل:
وقد خلقت أباك أو آدم من قبل ولم يك شيئا مع كفايته في إزالة الاستبعاد بقياس حال ما بشر به على حاله عليه السّلام لتأكيد الاحتجاج وتوضيح منهاج القياس من حيث نبه على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه عليه السّلام من العدم لأنه عليه السّلام أبدع أنموذجا منطويا على سائر آحاد الجنس فكان إبداعه على ذلك الوجه إبداعا لكل أحد من فروعه كذلك، ولما كان خلقه عليه السّلام على هذا النمط الساري إلى جميع ذريته أبدع من أن يكون مقصورا على نفسه كما هو المفهوم من نسبة الخلق المذكور إليه وأدل على عظم قدرته تعالى وكمال علمه وحكمته وكان عدم زكريا حينئذ أظهر عنده وكان حاله أولى بأن يكون معيارا لحال ما بشر به نسب الخلق المذكور إليه كما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين في قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الأعراف: ١١] توفية لمقام الامتنان حقه انتهى، ولا يخلو عن تكلف، وجوز أن يكون الشيء بمعنى المعتد به وهو مجاز شائع، ومنه قول المتنبي:
وضاقت الأرض حتى كان هاربهم | إذا رأى غير شيء ظنه رجلا |
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة تدلني على تحقق المسئول ووقوع الخبر، وكان هذا السؤال كما قال الزجاج لتعريف وقت العلوق حيث كانت البشارة مطلقة عن تعيينه وهو أمر خفي لا يوقف عليه لا سيما إذا كانت زوجته ممن انقطع حيضها لكبرها وأراد أن يطلعه الله تعالى ليتلقى تلك النعمة الجليلة بالشكر من حين حدوثها ولا يؤخره إلى أن تظهر ظهورا معتادا، وقيل: طلب ذلك ليزداد يقينا وطمأنينة كما طلب إبراهيم عليه السّلام كيفية إحياء الموتى لذلك والأول أولى، وبالجملة لم يطلبه لتوقف منه في صدق الوعد ولا لتوهم أن ذلك من عند غير الله تعالى، ورواية هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تصبح لعصمة الأنبياء عليهم السّلام عن مثل ذلك وذكر أن هذا السؤال ينبغي أن يكون بعد ما مضى بعد البشارة برهة من الزمان لما روي أن يحيى كان أكبر من عيسى عليهما السّلام بستة أشهر أو بثلاث سنين ولا ريب في أن دعاءه عليه السّلام كان في صغر مريم لقوله تعالى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ وهي إنما ولدت عيسى عليه السّلام وهي بنت عشر سنين أو بنت ثلاث عشرة سنة، والجعل إبداعي واللام متعلقة به، والتقديم على آيَةً الذي هو المفعول لما تقدم مرارا أو بمحذوف وقع حالا من آيَةً وقيل: بمعنى التصيير المستدعي لمفعولين أولهما آيَةً وثانيهما الظرف وتقديمه لأنه لا مسوغ لكون آيَةً مبتدأ عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديم الظرف فلا يتغير حالهما بعد ورود الناسخ.
قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أن لا تقدر على تكليمهم بكلامهم المعروف في محاوراتهم.
روي عن أبي زيد أنه لما حملت زوجته عليه السّلام أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا وهو مع ذلك يقرأ التوراة فإذا أراد مناداة أحد لم يطقها ثَلاثَ لَيالٍ مع أيامهن للتصريح بالأيام في سورة آل عمران والقصة واحدة، والعرب تتجوز أو تكتفي بأحدهما عن الآخر كما ذكره السيرافي، والنكتة في الاكتفاء بالليالي هنا وبالأيام ثمة على ما قيل أن هذه السورة مكية سابقة النزول وتلك مدنية والليالي عندهم سابقة على الأيام لأن شهورهم وسنيهم قمرية إنما تعرف بالأهلّة ولذلك اعتبروها في التاريخ كما ذكره النحاة فأعطى السابق للسابق، والليال جمع ليل على غير قياس كأهل وأهال أو جمع ليلاة ويجمع أيضا على ليايل.
سَوِيًّا حال من فاعل تُكَلِّمَ مفيد لكون انتفاء التكلم بطريق الإعجاز وخرق العادة لا لاعتقال اللسان بمرض أي يتعذر عليك تكليمهم ولا تطيقه حال كونك سوى الخلق سليم الجوارح ما بك شائبة بكم ولا خرس وهذا ما عليه الجمهور، وعن ابن عباس أن سَوِيًّا عائد على الليالي أي كاملات مستويات فيكون صفة لثلاث. وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «أن لا تكلّم» بالرفع على أن أن المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن أي إنه لا تكلم فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ أي من المصلى كما روي عن ابن زيد أو من الغرفة كما قيل،
وأصل المحراب كما قال الطبرسي: مجلس الأشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله، ويسمى محل العبادة محرابا لما أن العابد كالمحارب للشيطان فيه، وإطلاق المحراب على المعروف اليوم في المساجد لذلك وهو محدث لم يكن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد ألف الجلال السيوطي في ذلك رسالة صغيرة سماها إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب. روي أن قومه كانوا من وراء المحراب ينتظرون أن يفتح لهم الباب فيدخلوه ويصلوا فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم متغيرا لونه فأنكروه وقالوا: مالك؟ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي أومأ إليهم وأشار كما روي عن قتادة وابن منبه والكلبي والقرطبي وهو إحدى الروايتين عن مجاهد، ويشهد له قوله تعالى: إِلَّا رَمْزاً [آل عمران: ٤١] وروي عن ابن عباس كتب لهم على الأرض. أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا وهو الرواية الأخرى عن مجاهد لكن بلفظ على التراب بدل على الأرض وقال عكرمة: كتب على ورقة وجاء إطلاق الوحي على الكتابة في كلام العرب ومنه قول عنترة:
كوحي صحائف من عهد كسرى... فأهداها لأعجم طمطي
وقول ذي الرمة:
سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها... بقية وحي في بطون الصحائف
وأَنْ إما مفسرة أو مصدرية فتقدر قبلها الباء الجارة، والمراد بالتسبيح الصلاة مجازا بعلاقة الاشتمال وهو المروي عن ابن عباس وقتادة وجماعة وبُكْرَةً وَعَشِيًّا ظرفا زمان له، والمراد بذلك كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية صلاة الفجر وصلاة العصر، وقال بعض: التسبيح على ظاهره وهو التنزيه أي نزهوا ربكم طرفي النهار، ولعله عليه السّلام كان مأمورا بأن يسبح شكرا ويأمر قومه.
وقال صاحب التحرير والتحبير: عندي في هذا معنى لطيف وهو أنه إنما خص التسبيح بالذكر لأن العادة جارية أن كل من رأى أمرا عجب منه أو رأى فيه بديع صنعة أو غريب حكمة يقول: سبحان الله تعالى سبحان الخالق جل جلاله فلما رأى حصول الولد من شيخ وعاقر عجب من ذلك فسبح وأمر بالتسبيح اهـ.
فأمرهم بالتسبيح إشارة إلى حصول أمر عجيب، وقيل: إنه عليه السّلام كان قد أخبر قومه بما بشر به قبل جعل العلامة فلما تعذر عليه الكلام أشار إليهم بحصول ما بشر به من الأمر العجيب فسروا بذلك.
وقرأ طلحة «أن سبحوه» بهاء الضمير عائدة إلى الله تعالى، وروى ابن غزوان عن طلحة «أن سبحن» بنون مشددة يا يَحْيى على تقدير القول وكلام آخر حذف مسارعة إلى الإنباء بإنجاز الوعد الكريم أي فلما ولد وبلغ سنا يؤمر مثله فيه قلنا يا يحيى خُذِ الْكِتابَ أي التوراة، وادعى ابن عطية الإجماع على ذلك بناء على أن آل للعهد ولا معهود إذ ذاك سواها فإن الإنجيل لم يكن موجودا حينئذ وليس كما قال بل قيل له عليه السّلام: كتاب خص به كما خص كثير من الأنبياء عليهم السّلام بمثل ذلك، وقيل: المراد بالكتاب صحف إبراهيم عليه السّلام، وقيل: المراد الجنس أي كتب الله تعالى بِقُوَّةٍ بجد واستظهار وعمل بما فيه، وقائل ذلك هو الله تعالى على لسان الملك كما هو الغالب في القول للأنبياء عليه السّلام، وأبعد التبريزي فقدر قال له أبوه حين ترعرع ونشأ: يا يحيى إلخ، ويزيده بعدا قوله تعالى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا.
أخرج أبو نعيم وابن مردويه والديلمي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في ذلك: أعطي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين
وجاء في رواية أخرى عنه مرفوعا أيضا قال الغلمان ليحيى بن زكريا عليهما السّلام: اذهب بنا نلعب فقال: اللعب خلقنا، اذهبوا نصلي
فهو قوله تعالى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا والظاهر أن الحكم على هذا بمعنى
الحكمة، وقيل: هي بمعنى العقل، وقيل معرفة آداب الخدمة، وقيل الفراسة الصادقة وقيل النبوة وعليه كثير قالوا: أوتيها وهو ابن سبع سنين أو ابن ثلاث أو ابن سنتين ولم ينبأ أكثر الأنبياء عليهم السلام قبل الأربعين، والجملة عطف على قلنا المقدر وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا عطف على الْحُكْمَ وتنوينه للتفخيم وهو في الأصل من حن إذا ارتاح واشتاق ثم استعمل في الرحمة والعطف، ومنه الحنان لله تعالى خلافا لمن منع إطلاقه عليه عز وجل، وإلى تفسيره بالرحمة هنا ذهب الحسن وقتادة والضحاك وعكرمة والفراء وأبو عبيدة وهو رواية عن ابن عباس، ويروى أنه أنشد في ذلك لابن الأزرق قول طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا | حنانيك بعض الشر أهون من بعض |
وأحدث عهد من أمينة نظرة | على جانب العلياء إذ أنا واقف |
تقول حنانا ما أتى بك هاهنا | أذو نسب أم أنت بالحي عارف |
وعن ابن زيد أن الحنان هنا المحبة وهو رواية عن عكرمة أي وآتيناه محبة من لدنا، والمراد على ما قيل جعلناه محببا عند الناس فكل من رآه أحبه نظير قوله تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: ٣٩] وجوز بعضهم أن يكون المعنى نحو ما تقدم على القول السابق، وقيل: هو منصوب على المصدرية فيكون من باب وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحفظا [الملك: ٥].
وجوز أن يجعل مفعولا لأجله وأن يجعل عطفا على صَبِيًّا وذلك ظاهر على تقدير أن يكون المعنى رحمة لأبويه وغيرهما، وعلى تقدير أن يكون وحنانا من الله تعالى عليه لا يجيء الحال وباقي الأوجه بحاله، ولا يخفى على المتأمل الحال على ما روي عن ابن زيد وَزَكاةً أي بركة كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وهو عطف على المفعول، ومعنى إيتائه البركة على ما قيل جعله مباركا نفاعا معلما للخير. وقيل: الزكاة الصدقة والمراد ما يتصدق به، والعطف على حاله أي آتيناه ما يتصدق به على الناس وهو كما ترى.
وقيل: هي بمعنى الصدقة والعطف على الحال والمراد آتيناه الحكم حال كونه متصدقا به على أبويه وروي هذا عن الكلبي. وابن السائب، وجوز عليه العطف على حَناناً بتقدير العلية، وقيل: العطف على المفعول، ومعنى إيتائه الصدقة عليهما كونه عليه السّلام صدقة عليهما، وعن الزجاج هي الطهارة من الذنوب ولا يضر في مقام المدح الإتيان بألفاظ ربما يستغني ببعضها عن بعض وَكانَ تَقِيًّا مطيعا متجنبا عن المعاصي وقد جاء في غير ما حديث أنه عليه السّلام ما عمل معصية ولا هم بها.
وأخرج مالك وأحمد في الزهد وابن المبارك وأبو نعيم عن مجاهد قال: كان طعام يحيى بن زكريا عليهما صفحة رقم 392
السّلام العشب وإنه كان ليبكي من خشية الله تعالى حتى لو كان القار على عينه لخرقه وقد كانت الدموع اتخذت مجرى في وجهه وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
كثير البر بهما والإحسان إليهما والظاهر أنه عطف على خبر كان وقيل هو من باب علفتها تبنا وماء باردا والمراد وجعلناه برا وهو يناسب نظيره حكاية عن عيسى عليه السّلام، وقرأ الحسن وأبو جعفر في رواية وابن نهيك وأبو مجلز «وبرا» في الموضعين بكسر الباء أي وذا بر وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً
متكبرا متعاليا عن قبول الحق والإذعان له أو متطاولا على الخلق وقيل: الجبار هو الذي لا يرى لأحد عليه حقا، وعن ابن عباس أنه الذي يقتل ويضرب على الغضب.
وقال الراغب: هو في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها.
عَصِيًّا
مخالفا أمر مولاه عز وجل، وقيل: عاقا لأبويه وهو فعول وقيل فعيل، والمراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة وَسَلامٌ عَلَيْهِ
قال الطبري: أمان من الله تعالى عليه يَوْمَ وُلِدَ
من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم وَيَوْمَ يَمُوتُ
من وحشة فراق الدنيا وهو المطلع وعذاب القبر، وفيه دليل على أنه يقال للمقتول ميت بناء على أنه عليه السّلام قتل لبغي من بغايا بني إسرائيل وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
من هول القيامة وعذاب النار وجيء بالحال للتأكيد، وقيل: للإشارة إلى أن البعث جسماني لا روحاني، وقيل للتنبيه على أنه عليه السّلام من الشهداء.
وقال ابن عطية: الأظهر أن المراد بالسلام التحية المتعارفة والتشريف بها لكونها من الله تعالى في المواطن التي فيها العبد في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله عز وجل، وجاء في خبر رواه أحمد في الزهد وغيره عن الحسن أن عيسى ويحيى عليهما السّلام التقيا وهما ابنا الخالة فقال يحيى لعيسى: ادع الله تعالى لي فأنت خير مني فقال له عيسى: بل أنت ادع لي فأنت خير مني سلم الله تعالى عليك وإنما سلمت على نفسي.
وهذه الجملة- كما قال الطيبي- عطف من حيث المعنى على آتَيْناهُ الْحُكْمَ كأنه قيل وأتيناه الحكم صبيا وكذا وكذا وسلمناه أو سلمنا عليه في تلك المواطن فعدل إلى الجملة الاسمية لإرادة الدوام والثبوت وهي كالخاتمة للكلام السابق. ومن ثم شرع في قصة أخرى وذلك قوله تعالى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ
إلخ فهو كلام مستأنف خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمر عليه الصلاة والسّلام بذكر قصة مريم إثر قصة زكريا عليه السّلام لما بينهما من كمال الاشتباك والمناسبة. والمراد بالكتاب عند بعض المحققين السورة الكريمة لا القرآن كما عليه الكثير إذ هي التي صدرت بقصة زكريا عليه السّلام المستتبعة لقصتها وقصص الأنبياء عليهم السّلام المذكورين فيها أي واذكر للناس فيها مَرْيَمَ
أي نبأها فإن الذكر لا يتعلق بالأعيان.
وقوله تعالى: إِذِ انْتَبَذَتْ
ظرف لذلك المضاف لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبئها عند انتباذها فقط بل كل ما عطف عليه وحكي بعده بطريق الاستئناف داخل في حيز الظرف متمم للبناء. وجعله أبو حيان ظرفا لفعل محذوف أي واذكر مريم وما جرى لها إذ انتبذت وما ذكرناه أولى. وقيل: هو ظرف لمحذوف وقع حالا من ذلك المضاف، وقيل: بدل اشتمال من مريم لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه تفخيم لقصتها العجيبة.
وتعقبه أبو البقاء بأن الزمان إذا لم يقع حالا من الجثة ولا خبرا عنها ولا صفة لها لم يكن بدلا منها. ورد بأنه لا يلزم من عدم صحة ما ذكر عدم صحة البدلية ألا ترى سلب زيد ثوبه كيف صح فيه البدلية مع عدم صحة ما ذكر في البدل وكون ذلك حال الزمان فقط غير بين ولا مبين. وقيل: بدل كل من كل على أن المراد بمريم قصتها وبالظرف
الواقع فيه وفيه بعد. وقيل: إِذِ
بمعنى أن المصدرية كما في قوله لا أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني أي لعدم إكرامك لي. وهذا قول ضعيف للنحاة. والظاهر أنها ظرفية أو تعليلية إن قلنا به ويتعين على ذلك بدل الاشتمال.
والانتباذ الاعتزال والانفراد.
وقال الراغب يقال: انتبذ فلان اعتزل اعتزال من تقل مبالاته بنفسه فيما بين الناس والنبذ: إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به.
وقوله تعالى مِنْ أَهْلِها
متعلق بانتبذت، وقوله سبحانه مَكاناً شَرْقِيًّا
قيل نصب على الظرف، وقيل مفعول به لانتبذت باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيان المترتب وجودا واعتبارا على أصل معناه العامل في الجار والمجرور وهو السر في تأخيره عنه. واختاره بعض المحققين أي اعتزلت وانفردت من أهلها وأتت مكانا شرقيا من بيت المقدس أو من دارها لتتخلى هنا للعبادة، وقيل قعدت في مشرفة لتغتسل من الحيض محتجبة بحائط أو بحبل على ما روي عن ابن عباس أو بثوب على ما قيل وذلك قوله تعالى: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
وكونه شرقيا كان أمرا اتفاقيا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه وما صرفهم عنه إلا قيل ربك «فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا» فلذلك صلوا قبل مطلع الشمس، وفي رواية إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة لأن مريم انتبذت من أهلها مكانا شرقيا، وقد قدمنا عن بعض أنهم كانوا في زمن عيسى عليه السّلام يستقبلون بيت المقدس وأنهم ما استقبلوا الشرق إلا بعد رفعه عليه السّلام زاعمين أنه ظهر لبعض كبارهم فأمره بذلك، وجوز أن يكون اختاره الله تعالى لها لأنه مطلع الأنوار. وقد علم سبحانه أنه حان ظهور النور العيسوي منها فناسب أن يكون ظهور النور المعنوي في جهة ظهور النور الحسي وهو كما ترى، وروي أنه كان موضعها في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك عليه السّلام في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر، وذلك قوله عز وجل: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
أي جبرائيل عليه السّلام كما قاله الأكثر، وعبر عنه بذلك لأن الدين يحيا به وبوحيه فهو مجاز. والإضافة للتشريف كبيت الله تعالى.
وجوز أن يكون ذلك كما تقول لحبيبك أنت روحي محبة له وتقريبا فهو مجاز أيضا إلا أنه مخالف للأول في الوجه والتشريف عليه في جعله روحا. وقال أبو مسلم: المراد من الروح عيسى عليه السّلام لقوله تعالى وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: ١٧١] وضمير تمثل الآتي للملك وليس بشيء. وقرأ أبو حيوة وسهل «روحنا» بفتح الراء، والمراد به جبريل عليه السّلام أيضا لأنه سبب لما فيه روح العباد إصابة الروح عند الله تعالى الذي هو عدة المقربين في قوله تعالى:
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ [الواقعة: ٨٨، ٨٩] أو لأنه عليه السّلام من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا أو ذا روحنا.
وذكر النقاش أنه قرىء «روحنّا» بتشديد النون اسم ملك من الملائكة عليه السّلام فَتَمَثَّلَ لَها
مشتق من المثال وأصله أن يتكلف أن يكون مثال الشيء، والمراد فتصور لها بَشَراً سَوِيًّا
سوي الخلق كامل البنية لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئا، وقيل تمثل في صورة قريب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وذلك لتستأنس بكلامه وتتلقى منه ما يلقي إليها من كلماته إذ لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع مفاوضته، وما قيل من أن ذلك لتهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها فمع ما فيه من الهجنة التي ينبغي أن تنزه مريم عنها يكذبه قوله تعالى قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ
فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها شائبة ميل ما إليه فضلا عن الحالة
المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة، نعم كان تمثله على ذلك الحسن الفائق والجمال الرائق لأن عادة الملك إذا تمثل أن يتمثل بصورة بشر جميل كما كان يأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم في صورة دحية رضي الله تعالى عنه أو لابتلائها وسبر عفتها ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه وإرادة القائل أنه وقع كذلك ليكون مظنة لما ذكر فيظهر خلافه فيكون أقوى في نزاهتها بعيد جدا عن كلامه.
وقال بعض المتأخرين: إن استعاذتها بالله تعالى تنبىء عن تهييج شهوتها وميلانها إليه ميلا طبيعيا على ما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السّلام وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ [يوسف: ٣٣] فقد قيل: المراد بالصبوة فيه الميل بمقتضى الطبيعة وحكم القوة الشهوية ثم إنه لا ينافي عفتها بل يحققها لكونه طبيعيا اضطراريا غير داخل تحت التكليف كما قيل في قوله تعالى: وَهَمَّ بِها [يوسف: ٢٤] ومع هذا قد استعاذ يوسف عليه السّلام بما حكى الله تعالى عنه من قوله تعالى قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يوسف: ٢٣] فدعوى أن الاستعاذة تكذب التهييج والميل الطبيعي كذب والقول بأنه يأبى ذلك مقام بيان آثار القدرة الخارقة للعادة ليس بشيء لأن خلق الإنسان من ماء واحد أثر من آثار القدرة الخارقة للعادة أيضا.
والأسباب في هذا المقام ليست بمرفوضة بالكلية كما يرشد إلى ذلك قصة يحيى عليه السّلام. على أنه قد يدعي أن خلق شيء لا من شيء أصلا محال فلا يكون من مراتب القدرة ومادة الجعل الإبداعي الأعيان الثابتة وهي قديمة اه، ولا يخلو عن بحث، وما ذكرناه في التعليل أسلم من القال والقيل فتدبر، ونصب «بشرا» على الحالية المقدرة أو التمييز، وقيل على المفعولية بتضمين تمثل معنى اتخذ، واستشكل أمر هذا التمثل بأن جبريل عليه السّلام شخص عظيم الجثة حسبما نطقت به الأخبار فمتى صار في مقدار جثة الإنسان يلزم أن لا يبقى جبريل إن تساقطت الأجزاء الزائدة على جثة الإنسان وأن تتداخل الأجزاء إن لم يذهب شيء وهو محال. وأيضا لو جاز التمثل ارتفع الوثوق وامتنع القطع بأن هذا الشخص الذي يرى الآن هو زيد الذي رئي أمس لاحتمال التمثل، وأيضا لو جاز التمثل بصورة الإنسان فلم لا يجوز تمثله بصورة أخرى غير صورة الإنسان، ومن ذلك البعوض ونحوه، ومعلوم أن كل مذهب يجر إلى ذلك فهو باطل، وأيضا لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبي عليه الصلاة والسّلام يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل المتمثل به. وأجيب عن الأول بأنه لا يمتنع أن يكون لجبريل عليه السّلام أجزاء أصلية قليلة وأجزاء فاضلة فبالأجزاء الأصلية يكون متمكنا من التمثل بشرا هذا عند القائلين بأنه جسم، وأما عند القائلين بأنه روحاني فلا استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغير. وعن الثاني بأنه مشترك الإلزام بين الكل فإن من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك أيضا إذ يجوز أن يخلق سبحانه مثل زيد مثلا ومع هذا الجواز يرتفع الوثوق ويمتنع القطع على طرز ما تقدم. وكذا من لم يعترف، وأسند الحوادث إلى الاتصالات والتشكلات الفلكية يلزمه ذلك لجواز حدوث اتصال يقتضي حدوث مثل ذلك وحينئذ يمتنع القطع أيضا، ولعله لما كان مثل ذلك نادرا لم يلزم منه قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس فلا يلزم الشك أن زيدا الذي نشاهده الآن هو الذي شاهدناه بالأمس.
وأجيب عن الثالث بأن أصل التجويز قائم في العقل وإنما عرف فساده بدلائل السمع، وهو الجواب عن الرابع كذا قال الإمام الرازي وعندي أن مسألة التمثل على القول بالجسمية مما ينبغي تفويض الأمر فيها إلى علام الغيوب ولا سبيل للعقل إلى الجزم فيها بشيء تنشرح له القلوب. وإنما ذكرته تعالى بعنوان الرحمانية تذكيرا لمن رأته بالرحمة ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه أو مبالغة للعياذة به تعالى واستجلابا لآثار الرحمة الخاصة التي هي العصمة مما دهمها. وما قيل من أن ذلك تذكير لمن رأت بالجزاء لينزجر فإنه يقال يا رحمن الآخرة ليس بشيء لأنه ورد رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
شرط جوابه محذوف ثقة بدلالة السياق عليه أي إن كان يرجى منك أن
تتقي الله تعالى وتخشاه وتحتفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك كذا قدره الزمخشري.
وفي الكشف أنه أشار إلى أن وجه هذا الشرط مع أن الاستعاذة بالرحمن إن لم يكن تقيا أولى أن أثر الاستجارة بالله تعالى أعنى مكافته وأمنها منه إنما يتم ويظهر بالنسبة إلى المتقي، وفيه دلالة على أن التقوى مما تقتضي للمستعيذ بالله تعالى حق الذمام والمحافظة وعلى عظم مكان التقوى حيث جعلت شرطا للاستعاذة لا تتم دونها وقال: إن كان يرجى إظهارا لمعنى أن وأنها إنما أوثرت دلالة على أن رجاء التقوى كان فضلا عن العلم بها.
والحاصل أن التقوى لم تجعل شرط الاستعاذة بل شرط مكافته وأمنها منه وكنت عن ذلك بالاستعاذة بالله تعالى حثا له على المكافة بألطف وجه وأبلغه وإن من تعرض للمستعيذ به فقد تعرض لعظيم سخطه انتهى.
وقدر الزجاج إن كنت تقيا فتتعظ بتعويذي، والأولى عليه تتعظ بإسقاط الفاء لأن المضارع الواقع جوابا لا يقترن بالفاء فيحتاج إلى جعله مرفوعا بتقدير مبتدأ، وقدر بعضهم فاذهب عني وبعضهم فلا تتعرض بي وقيل إنها أرادت إن كنت تقيا متورعا فإني أعوذ منك فكيف إذا لم تكن كذلك وكأنه أراد أنها استعاذت بهذا الشرط ليعلم استعاذتها بما يقابله من باب أولي، وقال الشهاب: الظاهر أن إن على هذا القول وصلية وفي مجيئها بدون الواو كلام، وذكر أن الجملة على هذا حالية والمقصود بها الالتجاء إلى الله تعالى من شره لا حثه على الانزجار وقيل نافية، والجملة استئناف في موضع التعليل أي ما كنت تقيا متورعا بحضورك عندي وانفرادك بي وهو خلاف الظاهر، وأيّا ما كان فالتقيّ وصف من التقوى، وقول من قال: إنه اسم رجل صالح أو طالح ليس بسديد.
قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
المالك لأمرك والناظر في مصلحتك الذي استعذت به ولست ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر. روي عن ابن عباس أنها لما قالت: إِنِّي أَعُوذُ
إلخ تبسم جبريل عليه السّلام وقال: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً
أي لأكون سببا في هبته بالنفخ في الدرع، ويجوز أن يكون حكاية لقوله تعالى بتقدير القول أي ربك الذي قال أرسلت هذا الملك لأهب لك، ويؤيده قراءة شيبة وأبي الحسن وأبي بحرية والزهري وابن مناذر ويعقوب واليزيدي وأبي عمرو ونافع في رواية ليهب بالياء فإن فاعله ضمير الرب تعالى. وما قيل: من أصل «ليهب» لأهب فقلبت الهمزة ياء لانكسار ما قبلها تعسف من غير داع له.
وفي بعض المصاحف: أمرني أن أهب لك غلاما زَكِيًّا
طاهرا من الذنوب. وقيل: نبيا. وقيل: ناميا على الخير أي مترقيا من سن إلى سن على الخير والصلاح فالزكا شامل للزيادة المعنوية والحسية. واستدل بعضهم برسالة الملك إليها على نبوتها.
وأجيب: بأن الرسالة لمثل ذلك لا تستدعي النبوة قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي والحال أنه لم يباشرني بالحلال رجل وإنما قيل بشر مبالغة في تنزهها من مبادئ الولادة وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أي ولم أكن زانية، والجملة عطف على لم يمسسني داخل معه في حكم الحالية مفصح عن كون المساس عبارة عن المباشرة بالحلال وهو كناية عن ذلك كما في قوله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: ٢٣٧، الأحزاب: ٤٩] ولامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: ٤٣، المائدة: ٦] ونحوه كما قيل دخلتم بهن وبني عليها.
وأما الزنا فليس بقمن أن يكنى عنه لأن مقامه إما تطهير اللسان فلا كناية ولا تصريح وإما التقريع فحينئذ يستحق الزيادة على التصريح والألفاظ التي يظن أنها كناية فيه قد شاعت حتى صارت حقيقة صريحة فيه ومنها ما في النظم الكريم، ولا يرد على ذلك ما في سورة آل عمران من قولها وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ مقتصرة عليه فإن غاية ما قيل فيه إنه كناية عن النكاح والزنا على سبيل التغليب، ولم يجعل كناية عن الزنا وحده، ولقائل أن يقول: إنه ثم كناية عن النكاح
فقط كما هنا واستوعبت الأقسام هاهنا لأنه مقام البسط واقتصرت على نفي النكاح ثم لعدم التهمة ولعلمها أنهم ملائكة ينادون لا يتخيلون فيها التهمة بخلاف هذه الحالة فإن جبريل عليه السّلام كان قد أتاها في صورة شاب أمرد، ولهذا تعوذت منه ولم يكن قد سكن روعها بالكلية إلى أن قال: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
على أنه قيل: إن في آل عمران من الاكتفاء وترك الاكتفاء في هذه لأنه تقدم نزولها فهي محل التفصيل بخلاف تلك لسبق العلم، وقيل: المساس هنا كناية عن الأمرين على سبيل التغليب كما في تلك السورة وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا تخصيص بعد التعميم لزيادة الاعتناء بتنزيه ساحتها عن الفحشاء، ولذا آثرت كان في النفي الثاني فإن في ذلك إيذانا بأن انتفاء الفجور لازم لها.
وكأنها عليها السّلام من فرط تعجبها وغاية استبعادها لم تلتفت إلى الوصف في قول الملك عليه السّلام «لأهب لك غلاما زكيا» النافي كل ريبة وتهمة ونبذته وراء ظهرها وأتت بالموصوف وحده وأخذت في تقرير نفيه على أبلغ وجه أي ما أبعد وجود هذا الموصوف مع هذه الموانع بله الوصف، وهذا قريب من الأسلوب الحكيم.
وبغي فعول عند المبرد وأصله بغوي فلما اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسرت الغين اتباعا ولذا لم تلحقه هاء التأنيث لأن فعولا يستوي فيه المذكر والمؤنث وإن كان بمعنى فاعل كصبور، واعترضه ابن جني في كتاب التمام بأنه لو كان فعولا لقيل بغو كما قيل نهو عن المنكر ورد بأنه لا يقاس على الشاذ وقد نصوا على شذوذه فهو لمخالفته قاعدة اجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون واختار أنه فعيل وهو على ما قال أبو البقاء بمعنى فاعل، وكان القياس أن تلحقه هاء التأنيث لأنه حينئذ ليس مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كفعول، ووجه عدم اللحوق بأنه للمبالغة التي فيه حمل على فعول فلم تلحقه الهاء، وقال بعضهم:
هو من باب النسب كطالق ومثله يستوي فيه المذكر والمؤنث، وقيل ترك تأنيثه لاختصاصه في الاستعمال بالمؤنث ويقال للرجل باغ وقيل فعيل بمعنى مفعول كعين كحيل وعلى هذا معنى بغي يبغيها الرجال للفجور بها، وعلى القول بأنه بمعنى فاعل فاجرة تبغي الرجال، وأيّا ما كان فهو للشيوع في الزانية صار حقيقة صريحة فيه فلا يرد أن اعتبار المبالغة فيه لا يناسب المقام لأن نفي الأبلغ لا يستلزم نفي أصل الفعل، ولا يحتاج إلى الجواب بالتزام أن ذلك من باب النسب أو بأن المراد نفي القيد والمقيد معا أو المبالغة في النفي لا نفي المبالغة قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أطلقوا الكلام في أنه نظير ما تقدم في قصة زكريا عليه السّلام، وفي الكشف أنه لا يجري فيه تمام الأوجه التي ذكرها الزمخشري هناك لأن «قال» أولا فيه ضمير الرسول إليها فكذلك إن علق بالثاني يكون المعنى قال الرسول قال ربك كذلك ثم فسره بقوله هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أو المعنى مثل ذلك القول العجيب الذي سمعته ووعدتك قال ربك على إقحام الكاف ثم استأنف هو علي هين ولا بد من إضمار القول لأن المخاطب لها جبريل عليه السّلام وقوله هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ كلام الحق تعالى شأنه حكاه لها. وإن علق بالأول يكون المعنى الأمر كذلك تصديقا لها أو كما وعدت تحقيقا له ثم استأنف قال ربك هو علي هين لإزالة الاستبعاد أو لتقرير التحقيق. ولا يبعد أن يجعل قالَ رَبُّكِ على هذا تفسيرا وكذلك مبهما انتهى. ولا أرى ما نقل عن ابن المنير هناك وجها هنا وَلِنَجْعَلَهُ تعليل لمعلل محذوف أي لنجعل وهب الغلام آيَةً وبرهانا لِلنَّاسِ جميعهم أو المؤمنين على ما روي عن ابن عباس يستدلون به على كمال قدرتنا وَرَحْمَةً عظيمة كائنة مِنَّا عليهم يهتدون بهدايته ويسترشدون بإرشاده فعلنا ذلك.
وجوز أن يكون معطوفا على علة أخرى مضمرة أي لنبين به عظم قدرتنا ولنجعله آية إلخ. قال في الكشف: إن مثل هذا يطرد فيه الوجهان ويرجح كل واحد بحسب المقام وحذف المعلل هنا أرجح إذ لو فرض علة أخرى لم يكن بد من معلل محذوف أيضا فليس قبل ما يصلح فهو تطويل للمسافة وهذه الجملة- أعني العلة معللها- معطوفة على
قوله هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وفي إيثار الأولى اسمية دالة على لزوم الهون مزيلة للاستبعاد والثانية فعلية دالة على أنه تعالى أنشأه لكونه آية ورحمة خاصة لا لأمر آخر ينافيه مرادا بها التجدد لتجدد الوجود لينتقل من الاستبعاد إلى الاستحماد ما لا يخفى من الفخامة انتهى.
ولا يرد أنه إذا قدر علة لنبين جاز أن يكون ذلك متعلقا بما يدل عليه هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ من غير حذف شيء فلا يصح قوله لم يكن بد من معلل محذوف لظهور ما فيه. وما ذكره من العطف خالف فيه بعضهم فجعل الواو على الأول اعتراضية، ومن الناس من قال: إن لِنَجْعَلَهُ على قراءة «ليهب» عطف عليه على طريق الالتفات من الغيبة إلى التكلم. وجوز أيضا العطف على لِأَهَبَ
على قراءة أكثر السبعة، ولا يخفى بعد هذا العطف على القراءتين وَكانَ ذلك أَمْراً مَقْضِيًّا محكما قد تعلق به قضاؤنا الأزلي أو قدر وسطر في اللوح لا بد لك منه أو كان أمرا حقيقا بمقتضى الحكمة والتفضل أن يفعل لتضمنه حكما بالغة: وهذه الجملة تذييل إما لمجموع الكلام أو للأخير فَحَمَلَتْهُ الفاء فصيحة أي فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيبها فدخلت النفخة في جوفها فحملته. وروي هذا عن ابن عباس وقيل: لم يدن عليه السّلام بل نفخ عن بعد فوصل الريح إليها فحملت. وقيل: إن النفخة كانت في كمها وروي ذلك عن ابن جريج. وقيل كانت في ذيلها، وقيل كانت في فمها.
واختلفوا في سنها إذ ذاك فقيل ثلاث عشرة سنة، وعن وهب ومجاهد خمس عشرة سنة، وقيل: أربع عشرة سنة، وقيل: اثنتا عشرة سنة، وقيل: عشر سنين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل، وحكى محمد بن الهيصم رئيس الهيصمية من الكرامية أنها لم تكن حاضت بعد، وقيل: إنها عليها السّلام لم تكن تحيض أصلا بل كانت مطهرة من الحيض. وكذا اختلفوا في مدة حملها ففي رواية عن ابن عباس أنها تسعة أشهر كما في سائر النساء وهو المروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه لأنها لو كانت مخالفة لهن في هذه العادة لناسب ذكرها في أثناء هذه القصة الغريبة. وفي رواية أخرى عنه أنها كانت ساعة واحدة كما حملته نبذته، واستدل لذلك بالتعقيب الآتي وبأنه سبحانه قال في وصفه إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: ٥٩] فإنه ظاهر في أنه عز وجل قال له كن فيكون فلا يتصور فيه مدة الحمل. وعن عطاء وأبي العالية والضحاك أنها كانت سبعة أشهر، وقيل: كانت ستة أشهر، وقيل: حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، والمشهور أنها كانت ثمانية أشهر، قيل: ولم يعش مولود وضع لثمانية غيره عليه السّلام.
ونقل النيسابوري عن أهل التنجيم أن ذلك لأن الحمل يعود إلى تربية القمر فتستولي عليه البرودة والرطوبة وهو ظاهر في أن مربي الحمل في أول شهور الحمل القمر وفي الثامن يعود الأمر إليه عند المنجمين وهو مخالف لما في كفاية التعليم عنهم من أن أول الشهور منسوب إلى زحل والثاني إلى المشتري وهكذا إلى السابع وهو منسوب إلى القمر ثم ترجع النسبة إلى زحل ثم إلى المشتري: وفيها أيضا أن جهال المنجمين يقولون إن النطفة في الشهر الأول تقبل البرودة من زحل فتجمد، وفي الثاني تقبل القوة النامية من المشتري فتأخذ في النمو، وفي الثالث تقبل القوة الغضبية من المريخ وفي الرابع قوة الحياة من الشمس وفي الخامس قوة الشهوة من الزهرة وفي السادس قوة النطق من عطارد وفي السابع قوة الحركة من القمر فتتم خلقة الجنين فإن ولد في ذلك الوقت عاش وإلا فإن ولد في الثامن لم يعش لقبوله قوة الموت من زحل وإن ولد في التاسع عاش لأنه قبل قوة المشتري، ومثل تلك الكلمات خرافات وكل امرأة تعرف أن النطفة إذا مضت عليها ثلاثة أشهر تتحرك، وقد ذكر حكماء الطبيعة أن أقل مدة الولادة ستة أشهر ومدة الحركة ثلث مدة الولادة فيكون أقلها شهرين ومن امتحن الإسقاط يعلم أن الخلقة تتم في أقل من خمسين يوما انتهى.
وكلام المتشرعين لا يخفى عليك في هذا الباب.
وقد يعيش المولود لثمان إلا أنه قليل فليس ذلك من خواصه عليه السّلام إن صح. ولم يصح عندي شيء من هذه الأقوال المضطربة المتناقضة بيد أني أميل إلى أولها والاستدلال للثاني مما سمعت لا يخلو عن نظر.
فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي فاعتزلت وهو في بطنها فالباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قوله تعالى تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: ٢٠] وقول المتنبي يصف الخيول:
فمرت غير نافرة عليهم | تدوس بنا الجماجم والرؤوسا |
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن نوف أن جبريل عليه السّلام نفخ في جيبها فحملت حتى إذا أثقلت وجعت ما يجع النساء وكانت في بيت النبوة فاستحيت وهربت حياء من قومها فأخذت نحو المشرق وخرج قومها في طلبها فجعلوا يسألون رأيتم فتاة كذا وكذا فلا يخبرهم أحد فكان ما أخبر الله تعالى به.
وروى الثعلبي في العرائس عن وهب قال: إن مريم لما حملت كان معها ابن عم لها يسمى يوسف النجار وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون وكانا معا يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم أن أحدا من أهل زمانهما أشد اجتهادا وعبادة منهما وأول من علم أمرها يوسف فتحير في ذلك لعلمه بكمال صلاحها وعفتها وأنه لم تغب عنه ساعة فقال لها: قد وقع في نفسي شيء من أمرك لم أستطع كتمانه وقد رأيت الكلام فيه أشفى لصدري فقالت قل قولا جميلا فقال: يا مريم أخبريني هل ينبت زرع بغير بذر وهل تنبت شجرة من غير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر:
فقالت؟ نعم ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة أتقول: إن الله سبحانه لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى يستعين بالماء؟ قال: لا أقول هذا ولكني أقول إن الله تعالى يقدر على ما يشاء بقول كن فيكون فقالت:
ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ فعند ذلك زال ما يجده وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل وضيق القلب فلما دنا نفاسها أوحى الله تعالى إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له فلما بلغت (١) تلك البلاد أدركها النفاس
فكان ما قص سبحانه، وقيل: انتبذت أقصى الدار وهو الأنسب بقصر مدة الحمل فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ أي الجأها كما قال الزمخشري وجماعة، وفي الصحاح أجأته إلى كذا بمعنى ألجأته واضطررته إليه قال زهير بن أبي سلمى:
وجار سار معتمدا عليكم | أجاءته المخافة والرجاء |
إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ لتستند إليه عند الولادة كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي أو لذلك
ولتستر به كما قيل، والجذع ما بين العرق ومتشعب الأغصان من الشجرة، وقد يقال للغصن أيضا: جذع، والنخلة معروفة. والتعريف إما للجنس فالمراد واحدة من النخل لا على التعيين أو للعهد فالمراد نخلة معينة ويكفي لتعينها تعينها في نفسها وإن لم يعلمها المخاطب بالقرآن عليه الصلاة والسّلام كما إذا قلت أكل السلطان ما أتى به الطباخ أي طباخه فإنه المعهود، وقد يقال: إنها معينة له صلّى الله عليه وسلّم بأن يكون الله تعالى أراها له عليه الصلاة والسّلام ليلة المعراج، وزعم بعضهم أنها موجودة إلى اليوم، والظاهر أنها كانت موجودة قبل مجيء مريم إليها وهو الذي تدل عليه الآثار، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها عليها السّلام لما اشتد عليها الطلق نظرت إلى أكمة فصعدت مسرعة فإذا عليها جذع نخلة نخرة ليس عليها سعف.
وقيل: إن الله تعالى خلقها لها يومئذ وليس بذاك وكان الوقت شتاء، ولعل الله تعالى أرشدها إليها ليريها فيما هو أشبه الأشجار بالإنسان من آياته ما يسكن روعتها كأثمارها بدون رأس وفي وقت الشتاء الذي لم يعهد ذلك فيه ومن غير لقاح كما هو المعتاد، وفي ذلك إشارة أيضا إلى أن أصلها ثابت وفرعها في السماء، وإلى أن ولدها نافع كالثمرة الحلواء وأنه عليه السّلام سيحيي الأموات كما أحيى الله تعالى بسببه الموات مع ما في ذلك من اللطف بجعل ثمرتها خرسة لها، والجار والمجرور متعلق بأجاءها، وعلى القراءة الأخرى متعلق بمحذوف وقع حالا أي مستندة إلى جذع النخلة قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ بكسر الميم من مات يمات كخاف يخاف أو من مات يميت كجاء يجيء.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر ويعقوب بضمها من مات يموت كقال يقول:
قَبْلَ هذا الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت أو قبل هذا الأمر. وإنما قالته عليها السّلام مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل عليه السّلام من الوعد الكريم استحياء من الناس وخوفا من لائمتهم أو حذرا من وقوع الناس في المعصية بما يتكلمون فيها. وروي أنها سمعت نداء أخرج يا من يعبد من دون الله تعالى فحزنت لذلك وتمنت الموت، وتمني الموت لنحو ذلك مما لا كراهة فيه. نعم يكره تمنيه لضرر نزل به من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا.
ففي صحيح مسلم وغيره قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل فإن كان لا بد متمنيا فليقل اللهم احيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي»
ومن ظن أن تمنيها عليها السّلام ذلك كان لشدة الوجع فقد أساء الظن والعياذ بالله تعالى.
وَكُنْتُ نَسْياً أي شيئا تافها شأنه أن ينسى ولا يعتد به أصلا كخرقة الطمث.
وقرأ الأكثرون «نسيا» بالكسر. قال الفراء: هما لغتان في ذلك كالوتر والوتر والفتح أحب إلي.
وقال الفارسي: الكسر أعلى اللغتين، وقال ابن الأنباري: هو بالكسر اسم لما ينسى كالنقض اسم لما ينقض وبالفتح مصدر نائب عن الاسم، وقرأ محمد بن كعب القرظي «نسئا» بكسر النون والهمزة مكان الياء وهي قراءة نوف الأعرابي، وقرأ بكر بن حبيب السهمي ومحمد بن كعب أيضا في رواية «نسأ» بفتح النون والهمزة على أن ذلك من نسأت اللبن إذا صببت عليه ماء فاستهلك اللبن فيه لقلته فكأنها تمنت أن تكون مثل ذلك اللبن الذي لا يرى ولا يتميز من الماء، ونقل ابن عطية عن بكر بن حبيب أنه قرأ «نسا» بفتح النون والسين من غير همز كعصى مَنْسِيًّا لا يخطر ببال أحد من الناس ووصف النسي بذلك لما أنه حقيقة عرفية فيما يقل الاعتداد به وإن لم ينس، وقرأ الأعمش وأبو جعفر في رواية بكسر الميم اتباعا لحركة السين كما قالوا: منتن باتباع حركة الميم لحركة التاء فَناداها أي جبريل عليه السّلام كما روي عن ابن عباس ونوف.
وقرأ علقمة فخاطبها قال أبو حيان: وينبغي أن تكون تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف، وقرأ الحبر «فناداها
ملك» مِنْ تَحْتِها وينبغي أن يكون المراد به جبريل عليه السّلام ليوافق ما روي عنه أولا. ومعنى مِنْ تَحْتِها من مكان أسفل منها وكان واقفا تحت الأكمة التي صعدتها مسرعة كما سمعت آنفا، ونقل في البحر عن الحسن أنه قال:
ناداها جبريل عليه السّلام وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها وأقسم على ذلك. ولعله إنما كان موقفه عليه السّلام هناك إجلالا لها وتحاشيا من حضوره بين يديها في تلك الحال. والقول بأنه عليه السّلام كان تحتها يقبل الولد مما لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة ما لا يليق بشأن أمين وحي الملك المتعال، وقيل: ضمير تَحْتِها للنخلة، واستظهر أبو حيان كون المنادى عيسى عليه السّلام والضمير لمريم والفاء فصيحة أي فولدت غلاما فأنطقه الله تعالى حين الولادة فناداها المولود من تحتها.
وروي ذلك عن مجاهد ووهب وابن جبير وابن جرير وابن زيد والجبائي ونقله الطبرسي عن الحسن أيضا، وقرأ الابنان والأبوان وعاصم والجحدري وابن عباس والحسن في رواية عنهما مِنْ بفتح الميم بمعنى الذي فاعل نادى وتَحْتِها ظرف منصوب صلة لمن والمراد به إما عيسى أو جبريل عليهما الصلاة والسّلام أَلَّا تَحْزَنِي أي أي لا تحزني على أن أن مفسرة أو بأن لا تحزني على أنها مصدرية قد حذف عنها الجار قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ بمكان أسفل منك، وقيل: تحت أمرك إن أمرت بالجري جرى وإن أمرت بالإمساك أمسك وهو خلاف الظاهر سَرِيًّا أي جدولا كما أخرجه الحاكم في مستدركه عن البراء وقال: إن صحيح على شرط الشيخين وذكره البخاري تعليقا موقوفا عليه وأسنده عبد الرزاق وابن جرير ابن مردويه في تفاسيرهم عنه موقوفا عليه أيضا ولم يصح الرفع كما أوضحه الجلال السيوطي وعلى ذلك جاء قول لبيد يصف عيرا وأتانا:
فتوسطا عرض السريّ فصدعا | مسجروة متجاوزا قلامها |
سهل الخليقة ماجد ذو نائل | مثل السريّ تمده الأنهار |
فعل ذلك عيسى عليه السّلام وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه
، وقيل: كان ذلك موجودا من قبل إلا أن الله تعالى نبهها عليه، وما تقدم هو الموافق لمقام بيان ظهور الخوارق والمتبادر من النظم الكريم، وسمي الجدول سريا لأن الماء يسري فيه فلامه على هذا المعنى ياء، وعن الحسن وابن زيد والجبائي أن المراد بالسري عيسى عليه السّلام وهو من السر وبمعنى الرفعة كما قال الراغب أي جعل ربك تحتك غلاما رفيع الشأن سامي القدر، وفي الصحاح هو سخاء في مروءة وإرادة الرفعة أرفع قدرا ولامه على هذا المعنى واو. والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهي عنه. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية.
وَهُزِّي إِلَيْكِ أي إلى جهتك، والهز تحريك يمينا وشمالا سواء كان بعنف أولا أو تحريك بجذب ودفع وهو مضمن معنى الميل فلذا عدي بإلى أو أنه مجاز عنه أو اعتبر في تعديته ذلك لأنه جزء معناه كذا قيل.
ومنع أبو حيان تعلقه بهزي وعلل ذلك بأنه قد تقرر في النحو أن الفعل لا يعدى إلى الضمير المتصل وقد رفع الضمير المتصل وليس من باب ظن ولا فقد ولا عدم وهما لمدلول واحد فلا يقال: ضربتك وزيد ضربه على معنى ضربت نفسك وضرب نفسه. والضمير المجرور عندهم كالضمير المنصوب فلا يقال: نظرت إليك وزيد نظر على معنى نظرت إلى نفسك ونظر إلى نفسه، ومن هنا جعلوا على في قوله: صفحة رقم 401
هون عليك فإن الأمور... بكف الإله مقاديرها
اسما كما في قوله:
غدت من عليه بعد ماتم ظمؤها وجعل الجار والمجرور هنا متعلقا بمحذوف أي أعني إليك ما قالوا في سقيا لك ونحوه مما جيء به للتبيين.
وأنت تعلم أنهم قالوا بمجيء إلى للتبيين لكن قال ابن مالك. وكذا صاحب القاموس: إنها المبينة لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد حبا أو بغضا من فعل تعجب أو اسم تفضيل وما هنا ليس كذلك. وقال في الإتقان: حكى ابن عصفور في شرح أبيات الإيضاح عن ابن الأنباري أن إلى تستعمل اسما فيقال: انصرفت من إليك كما يقال غدوت من عليه وخرج عليه من القرآن وَهُزِّي إِلَيْكِ وبه يندفع إشكال أبي حيان فيه انتهى.
وكان عليه أن يبين ما معناها على القول بالاسمية، ولعلها حينئذ بمعنى عند فقد صرح بمجيئها بهذا المعنى في القاموس وأنشد:
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره... أشهى إلي من الرحيق السلسل
لكن لا يحلو هذا المعنى في الآية، ومثله ما قيل إنها في ذلك اسم فعل، ثم إن حكاية استعمالها اسما إذا صحت تقدح في قول أبي حيان: لا يمكن أن يدعى أن إلى نكون اسما لإجماع النحاة على حرفيتها. ولعله أراد إجماع من يعتد به منهم في نظره. والذي أميل إليه في دفع الإشكال أن الفعل مضمن معنى الميل والجار والمجرور متعلق به لا بالفعل الرافع للضمير وهو مغزى بعيد لا ينبغي أن يسارع إليه بالاعتراض على أن في القلب من عدم صحة نحو هذا التركيب للقاعدة المذكورة شيئا لكثرة مجيء ذلك في كلامهم. ومنه قوله تعالى: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب: ٣٧] والبيت المار آنفا. وقول الشاعر:
دع عنك نهبا صيح في حجراته... ولكن حديثا ما حديث الرواعل
وقولهم: اذهب إليك وسر عنك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع. وتأويل جميع ما جاء لا يخلو عن تكلف فتأمل وأنصف، ثم الفعل هنا منزل منزلة اللازم كما في قول ذي الرمة:
فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها... إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي
فلذا عدي بالباء أي افعلي الهز بِجِذْعِ النَّخْلَةِ فالباء للآلة كما في كتبت بالقلم. وقيل هو متعد والمفعول محذوف والكلام على تقدير مضاف أي هزي الثمرة بهز جذع النخلة ولا يخفى ما فيه من التكلف وأن هز الثمرة لا يخلو من ركاكة، وعن المبرد أن مفعوله رُطَباً الآتي والكلام من باب التنازع. وتعقب بأن الهز على الرطب لا يقع إلا تبعا فجعله أصلا وجعل الأصل تبعا حيث أدخل عليه الباء للاستعانة غير ملائم مع ما فيه من الفصل بجواب الأمر بينه وبين مفعوله ويكون فيه أعمال الأول وهو ضعيف لا سيما في هذا المقام.
وما ذكر من التعكيس وارد على ما فيه التكلف وهو ظاهر، وما قيل من أن الهز وإن وقع بالأصالة على الجذع لكن المقصود منه الثمرة فلهذه النكتة المناسبة جعلت أصلا لأن هز الثمرة ثمرة الهز لا يدفع الركاكة التي ذكرناها مع أن المفيد لذلك ما يذكر في جواب الأمر. وجعل بعضهم بِجِذْعِ النَّخْلَةِ في موضع الحال على تقدير جعل المفعول رُطَباً أو الثمرة أي كائنة أو كائنا بجذع النخلة وفيه ثمرة ما لا تسمن ولا تغني، وقيل الباء مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥] وقول الشاعر:
هن الحرائر لا ربات أخمرة | سود المحاجر لا يقرأن بالسور |
وجوز أبو حيان حيان أن يكون الضمير للجذع لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه كما في قوله تعالى: «تلتقطه بعض السيارة» (١) في قراءة من قرأ بالتاء الفوقية، وقول الشاعر: كما شرقت صدر القناة من الدم. وتعقب بأنه خلاف الظاهر وإن صح. وقرأ مسروق وأبو حيوة في رواية «تسقط» بالتاء من فوق مضمومة وكسر القاف وفي رواية أخرى عن أبي حيوة أنه قرأ كذلك إلا أنه بالياء من تحت. وقوله تعالى عَلَيْكِ رُطَباً في جميع ذلك نصب على المفعولية وهو نضيج البسر واحدته بهاء وجمع شاذا على أرطاب كربع (٢) وأرباع، وعن أبي حيوة أيضا أنه قرأ «تسقط» بالتاء من فوق مفتوحة وضم القاف، وعنه أيضا كذلك إلا أنه بالياء من تحت فنصب رُطَباً على التمييز، وروي عنه أنه رفعه في القراءة الأخيرة على الفاعلية.
وقرأ أبو السمال «تتساقط» بتاءين. وقرأ البراء بن عازب «يساقط» بالياء من تحت مضارع أساقط وقرأ الجمهور «تساقط» بفتح التاء من فوق وشد السين بعدها ألف وفتح القاف، والنصب على هذه الثلاثة على التمييز أيضا.
وجوز في بعض القراءات أن يكون على الحالية الموطئة وإذا أضمر ضمير مذكر على إحدى القراءات فهو للجذع، وإذا أضمر ضمير مؤنث فهو للنخلة أوله ما سمعت جَنِيًّا أي مجنيا ففعيل بمعنى مفعول أي صالحا للاجتناء. وفي القاموس ثمر جني جني من ساعته. وعليه قيل المعنى رطبا يقول من يراه هو جني وهو صفة مدح فإن ما يجني أحسن مما يسقط بالهز وما قرب عهده أحسن مما بعد عهده، وقيل فعيل بمعنى فاعل أي رطبا طريا، وكان المراد على ما قيل إنه تم نضجه.
وقرأ طلحة بن سليمان «جنيا» بكسر الجيم للاتباع. ووجه التذكير ظاهر. وعن ابن السيد أنه قال في شرح أدب الكاتب. كان يجب أن يقال جنية إلا أنه أخرج بعض الكلام على التذكير وبعضه على التأنيث، وفيه نظر، روي عن ابن عباس أنه لم يكن للنخلة إلا الجذع ولم يكن لها رأس فلما هزته إذ السعف قد طلع ثم نظرت إلى الطلع يخرج من بين السعف ثم اخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا ثم رطبا كل ذلك في طرفة عين فجعل الرطب يقع بين يديها وكان برنيا،
وقيل عجوة وهو المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه.
والظاهر أنها لم تحمل سوى الرطب، وقيل كان معه موز، وروي ذلك عن أبي روق وإنما اقتصر عليه لغاية نفعه للنفساء،
فعن الباقر رضي الله تعالى عنه لم تستشف النفساء بمثل الرطب إن الله أطعمه مريم في نفاسها
وقالوا: ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل، وقيل: المرأة إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب، وذكر أن التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذا التحنيك وفي أمرها بالهز إشارة إلى أن السعي في تحصيل الرزق في الجملة مطلوب وهو لا ينافي التوكل وما أحسن ما قيل:
ألم تر أن الله أوحى لمريم | وهزي إليك الجذع يساقط الرطب |
(٢) سورة: يوسف، الآية: ١٠.
ولو شاء أحنى الجذع من غير هزة | إليها ولكن كل شيء له سبب |
وقد يؤيد هذا في الجملة بما روي عن ابن زيد قال: قال عيسى عليه السّلام لها لا تحزني فقالت: كيف لا أحزن وأنت معي ولست ذات زوج ولا مملوكة فأي شيء عذري عند الناس ليتني مت قبل هذا فقال لها عليه السّلام: أنا أكفيك الكلام
فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً أي آدميا كائنا من كان. وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه ابن الرومي «ترئن» بالإبدال من الياء همزة. وزعم ابن خالويه أن هذا لحن عند أكثر النحويين.
وقال الزمخشري: إنه من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمزة وحروف اللين في الإبدال. وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة «ترين» بسكون الياء وفتح النون خفيفة. قال ابن جني: هي شاذة وكان القياس حذف النون للجازم كما في قول الأفوه الأودي:
أما ترى رأسي أزرى به | مأس زمان ذي انتكاس مؤوس |
وروي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم فقال: إن الإسلام هدم هذا فتكلمي.
وفي شرح البخاري لابن حجر عن ابن قدامة أنه ليس من شريعة الإسلام. وظاهر الأخبار تحريمه فإن نذره لا صفحة رقم 404