
الأجسام وحاملة، استعيرت للقلوب التي قد أقساها الله تعالى وأقصاها عن الخير، وأما «الوقر» في الآذان، فاستعارة بينة لأنا نحس الكفرة يسمعون الدعاء إلى الشرع سماعا تاما، ولكن لما كانوا لا يؤثر ذلك فيهم إلا كما يؤثر في الذي به وقر، فلا يسمع، شبهوا به، وكذلك العمى والصم والبكم، كلها استعارات، وإنما الخلاف في أوصاف القلب، هل هي حقيقة أو مجاز، و «الوقر» : الثقل في السمع، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم، وإن دعوا إلى الهدى فإنهم لا يهتدون أبدا، وهذا يخرج على أحد تأويلين: أحدهما أن يكون هذا اللفظ العام يراد به الخاص، ممن حتم الله عليه أنه لا يؤمن ولا يهتدي أبدا، ويخرج عن العموم كل من قضى الله بهداه في ثاني حال، والآخر أن يريد: وإن تدعهم إلى الهدى جميعا فلن يؤمنوا جميعا أبدا، أي إنهم ربما آمن منهم الأفراد، ويضطرنا إلى أحد هذين التأويلين، أنا نجد المخبر عنهم بهذا الخبر قد آمن منهم واهتدى كثير.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩) وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠)
لما أخبر تعالى عن القوم الذين حتم بكفرهم، أنهم لا يهتدون أبدا، عقب ذلك بأنه للمؤمنين، الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، ويتحصل للكفار من صفته تعالى بالغفران والرحمة، ترك المعاجلة، ولو أخذوا بحسب ما يستحقونه لبادرهم بالعذاب المبيد لهم، ولكنه تعالى أخرهم إلى موعد لا يجدون عنه منجي، قالت فرقة هو أجل الموت، وقالت فرقة هو عذاب الآخرة، وقال الطبري هو يوم بدر، والحشر و «الموئل» المنجى يقال: وأل الرجل يئل إذا نجا. ومنه قول الشاعر:
لا وألت نفسك خيلتها... للعامريين ولم تكلم
ومنه قول الأعشى: [البسيط]
وقد أخالس رب البيت غفلته... وقد يحاذر مني ثم ما يئل
ثم عقب تعالى توعدهم بذكر الأمثلة من القرى التي نزل بها ما توعد هؤلاء بمثله، وفي قوله وَتِلْكَ الْقُرى حذف مضاف تقديره وَتِلْكَ أهل الْقُرى يدل على ذلك قوله أَهْلَكْناهُمْ فرد الضمير على أهل القرى، والْقُرى: المدن، وهذه الإشارة إلى عاد وثمود ومدين وغيرهم. وَتِلْكَ ابتداء، والْقُرى صفته، وأَهْلَكْناهُمْ خبر، ويصح أن يكون تِلْكَ منصوبا بفعل يدل عليه أَهْلَكْناهُمْ.
وقرأ الجمهور «لمهلكهم» بضم الميم وفتح اللام، من أهلك، ومفعل في مثل هذا يكون لزمن الشيء، ولمكانه، ويكون مصدرا فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «لمهلكهم» بفتح الميم واللام وقرأ في رواية حفص «لمهلكهم» بفتح الميم وكسر اللام، وهو مصدر من هلك، وهو في مشهور اللغة غير متعد، فالمصدر على هذا مضاف إلى الفاعل، لأنه بمعنى: وجعلنا لأن هلكوا موعدا،

وقالت فرقة إن هلك يتعدى، تقول أهلكت الرجل وهلكته بمعنى واحد، وأنشد أبو علي في ذلك: [الرجز] ومهمه هالك من تعرجا فعلى هذا يكون المصدر في كل وجه مضافا إلى المفعول، وقوله وَإِذْ قالَ مُوسى الآية ابتداء قصة ليست من الكلام الأول، المعنى: اذكر واتل، ومُوسى هو موسى بن عمران بمقتضى الأحاديث والتواريخ وبظاهر القرآن، إذ ليس في القرآن موسى غير واحد، وهو ابن عمران ولو كان في هذه الآية غيره لبينه، وقالت فرقة منها نوف البكالي أنه ليس موسى بن عمران، وهو موسى بن مشنى، ويقال ابن منسى، وأما «فتاه» فعلى قول من قال موسى بن عمران، فهو يوشع بن نون بن إفراييم بن يوسف بن يعقوب، وأما من قال هو موسى بن مشنى فليس الفتى يوشع بن نون، ولكنه قول غير صحيح، رده ابن عباس وغيره و «الفتي» في كلام العرب الشاب، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا، قيل للخادم فتى، على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي»، فهذا ندب إلى التواضع، و «الفتى» في الآية هو الخادم، ويوشع بن نون يقال هو ابن أخت موسى عليه السلام، وسبب هذه القصة فيما روي عن النبي ﷺ أن موسى جلس يوما في مجلس لبني إسرائيل، وخطب فأبلغ، فقيل له هل تعلم أحدا أعلم منك قال لا، فأوحى الله إليه بلى:
عبدنا خضر، فقال يا رب دلني على السبيل إلى لقيه، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ فإذا فقدت الحوت فإنه هنالك، وأمر أن يتزود حوتا، ويرتقب زواله عنه، ففعل موسى ذلك وقال لفتاه على جهة إمضاء العزيمة لا أَبْرَحُ أسير، أي لا أزال، وإنما قال هذه المقالة وهو سائر، ومن هذا قول الفرزدق: [الطويل]
فما برحوا حتى تهادت نساؤهم | ببطحاء ذي قار عياب اللطائم |
قال القاضي أبو محمد: وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام، هو مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ
هو عند طنجة وهو حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه السائر من دبور إلى صبا. وروي عن أبي بن كعب أنه قال مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ بإفريقية، وهذا يقرب من الذي قبله، وقال بعض أهل العلم هو بحر الأندلس من البحر المحيط، وهذا كله واحد حكاه النقاش وهذا مما يذكر كثيرا، ويذكر أن القرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء، وقالت فرقة مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ يريد بحرا ملحا وبحرا عذبا، فعلى هذا إنما كان صفحة رقم 527