آيات من القرآن الكريم

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا
ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ

فأدغمتا بعد أن سكنت الثانية فصارت لكنا «هُوَ اللَّهُ رَبِّي» وقرىء لكن أنا على الأصل وهو استدراك لقوله أكفرت، أي أنت بمقالتك تلك كافر لكن أنا مؤمن «وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً» ٣٨ أبدا، ثم قال على طريق الأمر بالحث والإزعاج وهلا «وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ» بدل مقالتك السيئة تلك «ما شاءَ اللَّهُ» اعترافا بأن ما فيها منه وبأمره ومشيئته «لا قُوَّةَ» على عمارة وإنبات ما فيها وحفظه من الآفات لأحد ما «إِلَّا بِاللَّهِ» بمعونته ولطفه في ذاتك أيها المغرور «إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً» ٣٩ تكبرت على وتعاظمت
«فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ» في الدنيا أو في الآخرة «خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ» ما تدري لعله «يُرْسِلَ عَلَيْها» على جنتك التي أطغتك «حُسْباناً» شهبا وصواعق أو نارا، قال حسان:

بقية معشر صبّت عليهم شآيب من الحسبان شهب
نازلة «مِنَ السَّماءِ» فيدمرها أو يحرقها «فَتُصْبِحَ صَعِيداً» أرضا غبراء لا شية فيها يدل على أنها كانت جنة ذات أشجار وزروع «زَلَقاً» ٤٠ جرداء ملساء تزلق فيها الأقدام لا ثبات فيها، وأصل الزلق المشي في الوحل والزّلل في الرجل، شبه عروها من النبات بعد أن كانت ملتفة بأرض وحلة أو رملة لا شيء فيها مما يستمسك به «أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً» في أعماق الأرض «فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً» ٤١ لا تناله الأيدي ولا الدلاء فتيبس أشجارها ونباتها.
قال تعالى «وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ» من جميع جهات الجنة إذ أرسل عليها نارا فأحرقتها كلها وصاعقة فأحرق نباتها وغار ماؤها «فَأَصْبَحَ» صاحبها ذلك المغرور بها عند مشاهدتها والنظر إليها «يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ» يضرب أحدهما بالأخرى تأسفا ولهقا عليها، قال عمر ابن أبي ربيعة:
وضربنا الحديث ظهرا لبطن وأتينا من أمرنا ما اشتهينا
وذلك حزنا وندما «عَلى ما أَنْفَقَ فِيها» من المال والتعب وحرمانه من منافعها وبهجتها «وَهِيَ خاوِيَةٌ» ساقطة مترامية «عَلى عُرُوشِها» أي سقطت جدران الجنة على عروش الكرم، وهذا كناية عن تدميرها كلها وخلائها

صفحة رقم 180

من كل ما كان فيها لأن خوا بمعنى خلا «وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً» ٤٢ قال هذا لما سقط في يده وقال يا ليتني سمعت موعظة أخي، لأنه عرف أن ما أتاه كان بسبب الكفر والطغيان، لذلك أظهر ندمه حين لات مندم، وقد خاب أمله من الناس لأنهم كانوا يلتفون حوله بغية ما عنده، فلما ذهب ذهبوا عنه على حد قوله:
رأيت الناس قد ذهبوا... إلى من عنده ذهب
ومن لا عنده ذهب... فعنه الناس قد ذهبوا
يدل على هذا قوله تعالى «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ» فيحفظون له جنته «وَما كانَ مُنْتَصِراً» ٤٣ هو أيضا لعجزه. قال تعالى «هُنالِكَ» في ذلك المقام مقام نزول الهلاك وإيقاع الهوان وصبّ العذاب «الْوَلايَةُ» الحقيقية بكسر الواو بمعنى السلطان والملك وبفتحها النصرة والتولي «لِلَّهِ الْحَقِّ» وحده لا يملكها غيره فلا حائل يحول دون تنفيذها ولا مانع يمنع وقوعها «هُوَ خَيْرٌ ثَواباً» لأهل طاعته «وَخَيْرٌ عُقْباً» ٤٤ بضم القاف وسكونها وعلى وزن فعلى شاذا وكلّها بمعنى العاقبة، ضرب الله تعالى هذا المثل بمناسبة الآية المتقدمة النازلة بحق عيينة بن حصن الفزاري وأصحابه المار ذكرهم وفقراء المسلمين سلمان وأصحابه، وذلك أن رجلين من بني إسرائيل ورثا ثمانية آلاف دينار فاقتسماها بينهما، فأما أحدهما فتزوج بألف وبنى قصرا بألف وشرى جنة بألف واشترى متاعا وخدما بألف واسمه قطروس، وأما الآخر واسمه يهوذا فتصدق بها وطلب ثوابها جنة وقصرا وزوجة ومتاعا وخدما في جنته، فأصابته حاجة فتعرض إلى صاحبه، فقال له ما فعلت بمالك؟ فأخبره الخبر، فقال له وإنك لمن المصدقين بأنك تثاب وتعطى وأنك تبعث؟ قال نعم، فقال والله لا أعطيك شيئا ما دامت هذه عقيدتك، فقال والله لا أحول عنها أبدا، وسيغنيني الله عنك ويرديك، فأنزل الله هذه الآية بحقهما وهذان هما المشار إليهما في الآية ٥٠ من سورة الصافات المارة لا المشار إليها في سورة نون ج ١، تأمل.

صفحة رقم 181

مطلب مثل الدنيا وتمثيل الأعمال بمكانها وزمانها ونطقها يوم القيامة كما في السينما:
قال تعالى «وَاضْرِبْ» يا سيد الرسل «لَهُمْ» لقومك على صحة البعث «مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ» من كل صنف ونوع وجنس ولون وشكل كان ملتفا بعضه على ببعض متكاثفا زاهيا رابيا تهتز به الأرض ابتهاجا وحسنا «فَأَصْبَحَ» بعد ذلك «هَشِيماً» يابسا مفتتا «تَذْرُوهُ الرِّياحُ» واعلم أن كلمتي تذروه والذاريات لم تكررا في القرآن، أي تنسفه يمينا وشمالا «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً» ٤٥ ضرب الله تعالى هذا المثل يشبه به حال الدنيا في نضرتها وزينتها وما يطرأ عليها من الهلاك والفناء بالنبات في الأرض يخضر ويزهو ثم ييبس ويتكسر فتطيره الرياح ثم يحييه الله تعالى بالمطر فيعود كما كان كأن لم يطرأ عليه شيء، وهكذا الخلق ينشأ من الماء أيضا فيكثرون ويتباهون بالأموال والأولاد والرياسة والجاه ثم يموتون ثم يحييهم الله تعالى كما كانوا، ثم يعاملون بمثل أعمالهم، فيحيا حياة طيبة دائمة من حيّ على بينة ويهلك هلاكا قبيحا دائما من هلك على بينة. ونظير هذه الآية في المعنى الآية ٣٤ من سورة يونس المارة. قال تعالى «الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا» يتفاخر بها أهلها «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» زينة الحياة الآخرة وهذه «خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً» من زينة الدنيا «وَخَيْرٌ أَمَلًا» ٤٦ ممّا يؤمله الإنسان من جميع خيرات الدنيا لعظيم جزائها عند الله، وهو نائلكم حقا، لأن وعد الله بها صادق، وأكثر آمال الدنيا كاذبة قد لا ينالها الإنسان، روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس. وأخرج مالك في الموطأ أن هذه الكلمات هي الباقيات الصالحات، والحقيقة أنها كل عمل صالح.
قال تعالى «وَ» اذكر يا محمد لقومك «يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ» عن مواقعها هذه فتجعلها هباء منثورا، راجع الآية ١٠٧ من سورة طه والآية ٤ من سورة الواقعة في ج ١، وأمثالها كثير في القرآن «وَتَرَى الْأَرْضَ» بعد ذلك «بارِزَةً»

صفحة رقم 182

ظاهرة للعيان لا بناء فيها يسترها ولا شجر يحجبها ولا جبل يغطيها ولا خلق عليها ولا فيها، راجع الآية ٤ من سورة الإنشقاق في ج ١ والآية ٢ من سورة الزلزلة في ج ٣ ولا أنهار ولا بحار، وذلك عند النفخة الأولى «وَحَشَرْناهُمْ» الموتى المدفونين فيها أحياء بعد ذلك وسقناهم إلى الموقف فأحضرناهم فيه بعد النفخة الثانية «فَلَمْ نُغادِرْ» نترك في بطن الأرض والماء والحيوان والحوت والهواء «مِنْهُمْ أَحَداً» ٤٧ إلا أحضرناه في أرض المحشرَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا»
للحساب والجزاء كما يستعرض القائد العام جنوده لا يخفى عليه منهم أحد، أما القائد فقد يخفى عليه آحاد وشتان بين الخالق والمخلوق فيقول لهم الله عزّ وجل وعزتي وجلاليَ قَدْ جِئْتُمُونا»
أيها الخلقَ ما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ»
في الدنيا وحدانا لا مال ولا ولد ولا نشب ولا رياش عندكمَ لْ زَعَمْتُمْ»
في الدنياَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً»
٤٨ في الآخرة نلاقيكم فيه ونقاضيكم على أعمالكم من صدق وإيمان وكفر وخسران. ونظير هذه الآية الآية ٩٤ من سورة الأنعام المارة. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بموعظة فقال: أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا (قلقا) - لأن الغرلة القطعة التي تقطع من جلدة الذكر وهي موضع الختان- كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين، ألا وان أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول يا رب أصحابي، فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح- يريد عيسى عليه السلام-: (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) إلى قوله (العزيز الحكيم)، قال فيقال لي إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، زاد في رواية فأقول سحقا سحقا. قال بعض العلماء المراد بهم- والله أعلم- هم الذين ارتدوا بعده ومنعوا الزكاة من العرب، ولكن الحديث عام فيشمل هؤلاء وغيرهم من أمثالهم، وان من خصّه فيهم استنبط اختصاصه من قوله صلّى الله عليه وسلم (أصحابي) إذ لا يسمى صاحبا إلا من شاهد حضرة الرسول أو شاهده الرسول ليدخل الأعمى ومات على ذلك «وَوُضِعَ الْكِتابُ» أل فيه للجنس إذا أريد به أهل اليمين

صفحة رقم 183

وأهل الشمال، وظاهر ما بعده تخصيصه بأهل الشمال فقط، فتكون أل فيه للعهد أي الكتاب المعهود الذي فيه صحف أعمالهم، قال صاحب الجوهرة في منظومته:

وواجب أخذ العباد الصحفا كما من القرآن نصا عرفا
وقال بدء الأمالي:
وتعطى الكتب بعضا نحو يمنى وبعضا نحو ظهر أو شمال
والحكم الشرعي: وجوب اعتقاد هذا، ومن أنكره فهو كافر لإنكاره كلام الله دون تأويل أو تفسير، قدمنا ما يتعلق بهذا في الآيتين ٣٦/ ٣٧ من سورة الإسراء المارة في ج ١، وله صلة في الآية ٩ فما بعدها من سورة المطففين الآتية، «فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ» خائفين من سوء أعمالهم «وَيَقُولُونَ» عند مشاهدته «يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ» استفهام تعجب من كونه «لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً» من أعمال بني آدم وغيرهم «إِلَّا أَحْصاها» أثبتها ودونها فيه «وَوَجَدُوا» فيه كل «ما عَمِلُوا» في دنياهم «حاضِراً» بحيث يخيل إليهم فعلهم وقولهم كما أوقعوه في الدنيا بتخييل حقيقي وتمثيل واقعي بحيث ينطق كل بما وقع منه، بخلاف تمثيل أهل الدنيا (سينما) فإنه صوري وما يسمعونه من الكلام ليس من كلام الأشباح المخيلة نفسها بل من الشريط المعروض كالأسطوانات التي تمر عليها الإبرة، ونظير هذه الآية الآية ٢١ من آل عمران ج ٣، فيسمعون كلامهم أنفسهم وكلام من تكلموا معه ويسمعون نطق جوارحهم بما عملت وبأي مكان وزمان يرونه أيضا ويرون جزاءه مهيأ بنسبته «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» ٤٩ بحيث لا ينقص ثوابا ولا يزيد عقابا ولا يعذب أحدا بغير جرم، ولا يثيب أحدا بغير عمل صالح، وهذا لا على سبيل الوجوب إذ له جل جلاله إثابة العاصي وعقاب الطائع إذ لا يسأل عما يفعل وإنما يعامل العاصي بمقتضى العدل والطائع بحسب الفضل، فمن أين لكم أيها الناس بعد هذا تنكرون إعادة خلقكم وتكذبون رسلكم، وقد ضرب لكم الأمثال الحقيقية عليه وقص عليكم رسله نتيجة ما تؤولون إليه.

صفحة رقم 184
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية