
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ: يلبسون فِيها مِنْ أَساوِرَ، وهو جمع الأسوار، قال سعيد بن جبير: يحلّى كل واحد منهم ثلاثة من الأساور، واحدا من فضّة، وواحدا من ذهب، ووحدا من لؤلؤ ويواقيت. مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ، وهو ما رقّ من الديباج وَإِسْتَبْرَقٍ، وهو ما غلظ منه. وقيل: هو فارسيّ معرّب مُتَّكِئِينَ فِيها: في الجنان عَلَى الْأَرائِكِ، وهي السّرر في الحجال، واحدتها: أريكة نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ يعني: الجنان مُرْتَفَقاً.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٢ الى ٤٤]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ- الآية- رَجُلَيْنِ منصوب مفعول، على معنى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا كمثل رجلين. نزلت في أخوين من أهل مكّة من بني مخزوم، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل كان زوج أمّ سلمة قبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والآخر كافر، وهو الأسود بن عبد الأسد بن عبد ياليل. وقيل نزلت في النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي مشركي مكّة. وهذا مثل لعيينة ابن حصين وأصحابه، وفي سلمان وأصحابه شبّههما برجلين من بني إسرائيل أخوين: أحدهما مؤمن واسمه يهوذا في قول ابن عباس، وقال مقاتل: تمليخا، والآخر كافر، واسمه فطروس، قال وهب قطفر. وهما اللّذان وصفهما الله في سورة (الصافات)، وكانت قصتهما [ما أخبرنا أبو عمرو الفراتي: حدثنا محمد بن عمران: حدثنا الحسن بن سفيان: حدثنا حيّان بن موسى: حدثنا عبد الله بن البارك عن] «١». معمر عن عطاء الخراساني قال: كان رجلان شريكين، وكان لهما ثمانية آلاف دينار، وقيل: إنهما ورثاه عن أبيهما، وكانا أخوين فاقتسماها، فعمد أحدهما فاشترى أرضا بألف دينار، فقال صاحبه: اللهم إن كان فلان قد اشترى أرضا بألف دينار، فإني أشتري منك أرضا في الجنة بألف دينار، فتصدّق بألف دينار.

ثمّ إن صاحبه بنى دارا بألف دينار، فقال هذا: إن فلان بنى دارا بألف دينار، وإني اشتريت منك دارا في الجنة بألف دينار، فتصدّق بألف دينار. ثمّ تزوج بامرأة وأنفق عليها ألف دينار فقال: إنّ فلان تزوّج امرأة بألف دينار، وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدّق بألف دينار. ثمّ اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، فقال: إن فلان اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، وإني اشتري منك خدما ومتاعا في الجنة بألف دينار فتصدّق بألف دينار.
ثمّ أصابته حاجة شديدة فقال: لو أتيت صاحبي هذا لعلّه ينالني منه معروف. فجلس له على طريقه حتى مرّ به في حشمه، فقام إليه، فنظر إليه الآخر فعرفه فقال: فلان؟ قال: نعم. قال ما شأنك؟ قال: أصابتني حاجة بعدك، فأتيتك لتصيبني بخير. فقال: فما فعل مالك فقد اقتسمنا مالا واحدا فأخذت شطره وأنا شطره؟ فقصّ عليه قصته، فقال: وإنك لمن المصدّقين بهذا، أي بأنك تبعث وتجازى؟ اذهب فو الله لا أعطيك شيئا.
فطرده، فقضي لهما أن توفيا، فنزل فيهما: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ إلى قوله: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ «١»، ونزلت وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ: بستانين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما: أحطناهما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً، يعني:
جعلنا حول الأعناب النخل ووسط الأعناب الزرع.
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ: أعطت، يعني: آتت كل واحدة من الجنتين، فلذلك لم يقل: آتتا أُكُلَها: ثمرها تامّا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً، أي لم ينقص، وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً، يعني:
شققنا وأخرجنا وسطهما نهرا.
وَكانَ لَهُ، يعني: لفطروس ثَمَرٌ، يعني: المال الكثير المثمر من كل صنف، جمع ثمار. ومن قرأ: (ثمر) فهو جمع ثمرة. مجاهد: ذهب وفضة. ابن عباس: أنواع المال. قتادة:
من كلّ المال. وقال ابن زيد: الثمر الأصل. فَقالَ لِصاحِبِهِ المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ: يجاوبه أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً، يعني عشيرة ورهطا. قال قتادة: خدما وحشما. وقال مقاتل:
ولدا، تصديقه قوله تعالى إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً...
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ، يعني: فطروس، أخذ بيد أخيه المسلم يطوف به ويريه إيّاها ويعجبه منها، وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بكفره، فلمّا رأى ما فيها من الأنهار والأشجار والأزهار والثمار قالَ: ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً. وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ: القيامة قائِمَةً: آتية كائنة. ثمّ تمنّى على الله أمنية أخرى مع شكّه وشركه فقال: وَلَئِنْ رُدِدْتُ: صرفت إِلى رَبِّي، فرجعت إليه في المعاد لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها، أي من الجنة التي دخلها. وقرأ أهل الحجاز والشام (منهما)

على لفظ التثنية، يعني الجنتين، وكذلك هو في مصاحفهم. مُنْقَلَباً، أي منزلا ومرجعا.
يقول: لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلّا ولي عنده أفضل في الآخرة.
قالَ لَهُ صاحِبُهُ المسلم وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ يعني خلق أباك وأصلك مِنْ تُرابٍ ثُمَّ خلقك مِنْ نُطْفَةٍ يعني ماء الرجل والمرأة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، أي عدلك بشرا سويّا ذكرا. لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، يقول: أما أنا فلا أكفر بربي، ولكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي. قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير مجازه: لكن الله هو ربّي. وقال الآخرون: أصله (لكن أنا) فحذفت الهمزة طلبا للخفة لكثرة استعماله، وأدغمت إحدى النونين في الأخرى، وحذفت ألف (أنا) في الوصل. وقرأ ابن عامر ويعقوب: (لكنا)، بإتيان الألف بالوصل، كقول الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني | حميدا قد تذريت السناما «١» |
[أخبرنا أبو عمرو الفراتي: القاسم بن كليب: العباس بن محمد الدوزي: حجاج: أبو بكر الهذلي عن يمامة بن عبد الله بن أنس] «٢» عن أنس بن مالك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من رأى شيئا فأعجبه فقال: ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ لم يضرّه» [٧٣] «٣».
ثمّ قال: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً، أنا عماد ولذلك نصب. فَعَسى:
فلعلّ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ في الآخرة خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها: يبعث على جنتك حُسْباناً مِنَ السَّماءِ، قال قتادة والضّحاك: عذابا. وقال ابن عباس: نارا. وقال ابن زيد: قضاء من الله عزّ وجلّ يقضيه. قال الأخفش والقتيبي: مرام من السماء واحدتها حسبانة، فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً، قال قتادة: يعني صعيدا أملس لا نبات عليه. وقال مجاهد: رملا هايلا وترابا. قال ابن عباس: هو مثل الحزن. أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أي غائرا منقطعا ذاهبا في الأرض لا تناله الأيدي ولا الرشا والدلاء. والغور مصدر وضع موضع الاسم، كما يقال: صوم وزور وعدل، ونساء نوح يستوي فيه الواحد والاثنان والمذكر والمؤنث. قال عمرو بن كلثوم:
تظل جياده نوحا عليه | مقلّدة أعنتها صفونا «٤» |
(٢) زيادة عن نسخة أصفهان.
(٣) مجمع الزوائد: ٥/ ١٠٩.
(٤) جامع البيان للطبري: ١٥/ ٣١٠.