آيات من القرآن الكريم

إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا
ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ

الْمُتَعَنِّتِينَ، أَيْ لَا تَسْأَلْ عِلْمَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ حِرْصِ السَّائِلِينَ عَلَى أَنْ تُعْلِمَهُمْ بِيَقِينِ أَمْرِ أَهْلِ الْكَهْفِ فَإِنَّكَ عَلِمْتَهُ وَلَمْ تُؤْمَرْ بِتَعْلِيمِهِمْ إِيَّاهُ، وَلَوْ لَمْ يُحْمَلِ النَّهْيُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ وَجْهٌ. وَفِي التَّقْيِيدِ بِ مِنْهُمْ مُحْتَرَزٌ وَلَا يَسْتَقِيمُ جَعْلُ ضَمِيرِ مِنْهُمْ عَائِدًا إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ وَالْمُفَسِّرِينَ.
[٢٣، ٢٤]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : الْآيَات ٢٣ الى ٢٤]
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (٢٤)
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.
عَطْفٌ عَلَى الِاعْتِرَاضِ. وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهِ هُنَا مَا
رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالطَّبَرِيُّ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَالْوَاحِدِيُّ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا سَأَلُوا النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَعَدَهُمْ بِالْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِهِمْ مِنَ الْغَدِ وَلَمْ يَقُلْ «إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فَلَمْ يَأْتِهِ جِبْرِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْجَوَابِ إِلَّا بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقِيلَ: بَعْدَ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ، أَيْ فَكَانَ تَأْخِيرُ الْوَحْيِ إِلَيْهِ بِالْجَوَابِ عِتَابًا رَمْزِيًّا مِنَ اللَّهِ لرَسُوله- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- كَمَا عَاتَبَ سُلَيْمَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِيمَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: «أَنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ:
لَأُطَوِّفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَلَدًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا وَاحِدَةٌ وَلَدَتْ شِقَّ غُلَامٍ»

. ثُمَّ كَانَ هَذَا عِتَابًا صَرِيحًا فَإِنَّ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم لِمَا سُئِلَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَعَدَ بِالْإِجَابَةِ وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» كَمَا نَسِيَ سُلَيْمَانُ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِقِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ، ثُمَّ نَهَاهُ عَنْ أَنْ يَعِدَ بِفِعْلِ شَيْءٍ دُونَ التَّقْيِيدِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَفِي كَيْفِيَّةِ نَظْمِهِ اخْتِلَافٌ لِلْمُفَسِّرِينَ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ جُمْلَةِ النَّهْيِ، أَيْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مَنْ حُكْمِ النَّهْيِ، أَيْ لَا تَقُولَنَّ: إِنِّي فَاعِلٌ إِلَخْ... إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقُولَهُ. وَمَشِيئَةُ اللَّهِ تُعْلَمُ مِنْ إِذْنِهِ بِذَلِكَ، فَصَارَ الْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ

صفحة رقم 295

يَأْذَنَ اللَّهُ لَكَ بِأَنْ تَقُولَهُ. وَعَلِيهِ فالمصدر المسبك مِنْ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْمَنْهِيَّاتِ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَفْعُولُ يَشاءَ اللَّهُ
مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا قَوْلًا شَاءَهُ اللَّهُ فَأَنْتَ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْ أَنْ تَقُولَهُ.
وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةِ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً، فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنْ كَلَام النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَيْ إِلَّا قَوْلًا مُقْتَرِنًا بِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ (أَنْ) وَالْفِعْلِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ بَاءُ الْمُلَابَسَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا بِ (أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) أَيْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ مُلَابسَة القَوْل لحقيقة الْمَشِيئَةِ مُحَالٌ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ تَلَبُّسُهُ بِذِكْرِ الْمَشِيئَةِ بِلَفْظِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) وَنَحْوِهِ، فَالْمُرَادُ بِالْمَشِيئَةِ إِذْنُ اللَّهِ لَهُ.
وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَرَامَة للنبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ:
الْأُولَى: أَنَّهُ أَجَابَ سُؤْلَهُ، فَبَيَّنَ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ إِيَّاهُ عَلَى خِلَافِ عَادَةِ اللَّهِ مَعَ الْمُكَابِرِينَ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ عَلَّمَهُ عِلْمًا عَظِيمًا من أدب النبوءة.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ مَا عَلَّمَهُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَجَابَ سُؤْلَهُ اسْتِئْنَاسًا لِنَفْسِهِ أَنْ لَا يُبَادِرَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَهُ، كَيْلَا يَتَوَهَّمَ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْإِعْرَاضَ عَنْ إِجَابَةِ سُؤَالِهِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ تَأْدِيبِ الْحَبِيبِ الْمُكَرَّمِ. وَمِثَالُهُ مَا
فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى. قَالَ

صفحة رقم 296

حَكِيمٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا»
. فَعَلِمَ حَكِيمٌ أَنَّ قَوْلَ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم لَهُ ذَلِكَ لَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهُ مَنْعَهُ مِنْ سُؤْلِهِ وَإِنَّمَا قَصَدَ مِنْهُ تَخْلِيقَهُ بِخُلُقٍ جَمِيلٍ، فَلِذَلِكَ أَقْسَمَ حَكِيمٌ: أَنْ لَا يَأْخُذَ عَنْ أَحَدٍ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَقُلْ: لَا أَسْأَلُكَ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ شَيْئًا.
فَنَظْمُ الْآيَةِ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِشَيْءٍ لَيْسَتِ اللَّامَ الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ الْقَوْلِ إِلَى الْمُخَاطَبِ بَلْ هِيَ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ لَا تَقُولَنَّ: إِنِّي فَاعِلٌ كَذَا لِأَجْلِ شَيْءٍ تَعِدُ بِهِ، فَاللَّامُ بِمَنْزِلَةِ (فِي).
وَ «شَيْءٍ» اسْمٌ مُتَوَغِّلٌ فِي التَّنْكِيرِ يُفَسِّرُهُ الْمقَام، أَي لشَيْء تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَهُ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ عَائِدَةٌ إِلَى «شَيْءٍ». أَيْ إِنِّي فَاعِلٌ الْإِخْبَارَ بِأَمْرٍ يَسْأَلُونَهُ.
وغَداً مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَجَازًا. وَلَيْسَتْ كَلِمَةُ (غَدًا) مُرَادًا بِهَا الْيَوْمَ الَّذِي يَلِي يَوْمَهُ، وَلَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْيَوْمُ بِمَعْنَى زَمَانِ الْحَالِ، وَالْأَمْسُ بِمَعْنَى زَمَنِ الْمَاضِي. وَقَدْ جَمَعَهَا قَوْلُ زُهَيْرٍ:

وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ
وَظَاهِرُ الْآيَةِ اقْتِصَارُ إِعْمَالِهَا عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْعَزْمِ عَلَى فِعْلٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ مَا كَانَ مِنَ الْكَلَامِ إِنْشَاءً مِثْلَ الْأَيْمَانِ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي شُمُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لِإِنْشَاءِ الْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا، فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: يَكُونُ ذِكْرُ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ حَلًّا لِعَقْدِ الْيَمِينِ يُسْقِطُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ. وَلَعَلَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ مَعْنَى (شَيْءٍ) فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ إِلَخْ: بِحَيْثُ إِذَا أَعْقَبْتَ الْيَمِينَ بِقَوْلِ (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) وَنَحْوِهِ لَمْ يَلْزَمُ الْبِرُّ فِي الْيَمِينِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ إِلَخْ.. إِنَّمَا قُصِدَ بِذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ السَّهْوِ وَلَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ. يَعْنِي أَنَّ حُكْمَ الثُّنْيَا

صفحة رقم 297

فِي الْأَيْمَانِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَلْ هُوَ مِمَّا ثَبَتَ بِالسَّنَةِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُخَالِفْ مَالِكٌ فِي إِعْمَالِ الثُّنْيَا فِي الْيَمِينِ، وَهِيَ قَوْلُ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ). وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ عَطْفٌ عَلَى النَّهْيِ، أَيْ لَا تَعِدْ بِوَعْدٍ فَإِنْ نَسِيتَ فَقُلْتَ: إِنِّي فَاعِلٌ، فَاذْكُرْ رَبَّكَ، أَيِ اذْكُرْ مَا نَهَاكَ عَنهُ. وَالْمرَاد بِالذكر التَّدَارُكُ وَهُوَ هُنَا مُشْتَقٌّ مِنَ الذُّكْرِ- بِضَمِّ الذَّالِ-، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ لَازِمِ التَّذَكُّرِ، وَهُوَ الِامْتِثَالُ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-:
«أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ».
وَفِي تَعْرِيفِ الْجَلَالَةِ بِلَفْظِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ الْعَلَمِ مِنْ كَمَالِ الْمُلَاطَفَةِ مَا لَا يَخْفَى.
وَحَذْفُ مَفْعُولِ نَسِيتَ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ إِذَا نَسِيتَ النَّهْيَ فَقُلْتَ: إِنِّي فَاعِلٌ.
وَبَعْضُ الَّذِينَ أَعْمَلُوا آيَةَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فِي حَلِّ الْأَيْمَانِ بِذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ جَعَلُوا قَوْلَهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ تَرْخِيصًا فِي تَدَارُكِ الثُّنْيَا عِنْدَ تَذَكُّرِ ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَحِدَّ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَحْدِيدَ بِمُدَّةٍ بَلْ وَلَوْ طَالَ مَا بَيْنَ الْيَمِينِ وَالثُّنْيَا.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الثُّنْيَا، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِخِلَافِهِ.
وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً لَمَّا أَبَرَّ اللَّهُ وعد نبيه صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم الَّذِي وَعَدَهُ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ أَمْرَ أَهْلِ الْكَهْفِ فَأَوْحَاهُ إِلَيْهِ وَأَوْقَفَهُمْ عَلَيْهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِعِتَابِهِ عَلَى

صفحة رقم 298

التَّصَدِّي لِمُجَارَاتِهِمْ فِي السُّؤَالِ عَمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ غَرَضِ الرِّسَالَةِ دُونَ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْكُرَ نَهْيَ رَبِّهِ. وَيَعْزِمَ عَلَى تَدْرِيبِ نَفْسِهِ عَلَى إِمْسَاكِ الْوَعْدِ بِبَيَانِ مَا يُسْأَلُ مِنْهُ بَيَانُهُ دُونَ أَنْ يَأْذَنَهُ اللَّهُ بِهِ، أَمَرَهُ هُنَا أَنْ يُخْبِرَ سَائِلِيهِ بِأَنَّهُ مَا بُعِثَ لِلِاشْتِغَالِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَرْجُو أَنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِ إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الرُّشْدِ مِنْ بَيَانِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ تَشْتَمِلُ عَلَى مَوْعِظَةٍ وَهُدًى وَلَكِنَّ الْهُدَى الَّذِي فِي بَيَانُ الشَّرِيعَةِ أَعْظَمُ وَأَهَمُّ. وَالْمَعْنَى: وَقُلْ لَهُمْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا.
فجُمْلَةُ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي إِلَخْ... مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ، أَيِ اذْكُرْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَقُلْ فِي نَفْسِكَ: عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا، أَيِ ادْعُ اللَّهَ بِهَذَا.
وَانْتَصَبَ رَشَداً عَلَى تَمْيِيزِ نِسْبَةِ التَّفْضِيلِ مِنْ قَوْلِهِ: لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ فعل أَنْ يَهْدِيَنِ لِأَنَّ الرُّشْدَ نَوْعٌ مِنَ الْهِدَايَةِ.
فَ عَسى مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الرَّجَاءِ تَأَدُّبًا، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ بِقَرِينَةِ وُقُوعِ هَذَا الْكَلَامِ مُعْتَرِضًا فِي أَثْنَائِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَارْجُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَهْدِيَكَ فَيُذَكِّرَكَ أَنْ لَا تَعِدَ وَعْدًا بِبَيَانِ شَيْءٍ دُونَ إِذْنِ اللَّهِ.
وَالرَّشَدُ- بِفَتْحَتَيْنِ-: الْهُدَى وَالْخَيْرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً [الْكَهْف: ١٠].

صفحة رقم 299
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية