
سُورَةُ الْكَهْفِ
مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً مَكِّيَّةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ/ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ غَيْرَ آيَتَيْنِ مِنْهَا فِيهِمَا ذِكْرُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ
وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى سُورَةٍ شَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حِينَ نزلت؟ هي سورة الكهف».
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣)فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا الْكَلَامُ فِي حَقَائِقِ قَوْلِنَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَقَدْ سَبَقَ، وَالَّذِي أَقُولُهُ هاهنا إِنَّ التَّسْبِيحَ أَيْنَمَا جَاءَ فَإِنَّمَا جَاءَ مُقَدَّمًا عَلَى التَّحْمِيدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إنه جل جلاله ذكر التسبيح عند ما أَخْبَرَ أَنَّهُ أَسْرَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: ١] وذكر التحميد عند ما ذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَفِيهِ فَوَائِدُ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ التَّسْبِيحَ أَوَّلُ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ وَالتَّحْمِيدُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَوَّلَ الْأَمْرِ هُوَ كَوْنُهُ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ وَنِهَايَةَ الْأَمْرِ كَوْنُهُ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ فَلَا جَرَمَ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ فِي الذِّكْرِ بِقَوْلِنَا (سُبْحَانَ اللَّهِ) ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَقَامَ التَّسْبِيحِ مَبْدَأٌ وَمَقَامَ التَّحْمِيدِ نِهَايَةٌ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ذَكَرَ عِنْدَ الْإِسْرَاءِ لَفْظَ التَّسْبِيحِ وَعِنْدَ إِنْزَالِ الْكِتَابِ لَفْظَ التَّحْمِيدِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ بِهِ/ أَوَّلُ دَرَجَاتِ كَمَالِهِ وَإِنْزَالَ الْكِتَابِ غَايَةُ دَرَجَاتِ كَمَالِهِ، وَالْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِسْرَاءَ بِهِ إِلَى الْمِعْرَاجِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْكَمَالِ لَهُ، وَإِنْزَالَ الْكِتَابِ عَلَيْهِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُكَمِّلًا لِلْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَنَاقِلًا لَهَا مِنْ حَضِيضِ الْبَهِيمِيَّةِ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمَلَكِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ أَكْمَلُ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعِبَادِ مَقَامًا أَنْ يَصِيرَ [الْعَبْدُ] عَالِمًا فِي ذَاتِهِ مُعَلِّمًا لِغَيْرِهِ وَلِهَذَا
رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ تعلم وعلم فذاك يدعى عظيما في السموات». صفحة رقم 421

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْإِسْرَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ ذَاتِهِ مِنْ تَحْتُ إِلَى فَوْقُ وَإِنْزَالُ الْكِتَابِ عَلَيْهِ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْزَالِ نُورِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقُ إِلَى تَحْتُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ أَكْمَلُ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنَافِعَ الْإِسْرَاءِ بِهِ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هُنَالِكَ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الْإِسْرَاءِ: ١] وَمَنَافِعُ إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ مُتَعَدِّيَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْفَوَائِدُ الْمُتَعَدِّيَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْقَاصِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُشَبِّهَةُ اسْتَدَلُّوا بِلَفْظِ الْإِسْرَاءِ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبِلَفْظِ الْإِنْزَالِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِجِهَةِ فَوْقُ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَذْكُورٌ بِالتَّمَامِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الْأَعْرَافِ: ٥٤].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْزَالُ الْكِتَابِ نِعْمَةٌ عَلَيْهِ وَنِعْمَةٌ عَلَيْنَا، أَمَّا كَوْنُهُ نِعْمَةً عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَعَهُ بِوَاسِطَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ عَلَى أَسْرَارِ عُلُومِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَأَسْرَارِ أَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَأَحْوَالِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَتَعَلُّقِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بِأَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَتُعَلُّقِ أَحْوَالِ عَالَمِ الْآخِرَةِ بِعَالَمِ الدُّنْيَا، وَكَيْفِيَّةِ نُزُولِ الْقَضَاءِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَكَيْفِيَّةِ ارتباط عالم الجسمانيات بعالم الروحانيات، وتصير النَّفْسِ كَالْمِرْآةِ الَّتِي يَتَجَلَّى فِيهَا عَالَمُ الْمَلَكُوتِ وَيَنْكَشِفُ فِيهَا قُدْسُ اللَّاهُوتِ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْكِتَابِ نِعْمَةً عَلَيْنَا فَلِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ كِتَابٌ كَامِلٌ فِي أَقْصَى الدَّرَجَاتِ فَكُلُّ وَاحِدٍ يَنْتَفِعُ بِهِ بِمِقْدَارِ طَاقَتِهِ وَفَهْمِهِ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى جَمِيعِ أُمَّتِهِ أَنْ يَحْمَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ التَّحْمِيدِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْكِتَابَ بِوَصْفَيْنِ فَقَالَ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّيْءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ ثُمَّ يَكُونَ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَامًّا فِي ذَاتِهِ ثُمَّ يَكُونَ فَوْقَ التَّمَامِ بِأَنْ يُفِيضَ عَلَيْهِ كَمَالَ الْغَيْرِ «١» إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ وَقَوْلِهِ: قَيِّماً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْقَيِّمَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَائِمِ بِمَصَالِحِ الْغَيْرِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي صِفَةِ الْكِتَابِ: لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢] فَقَوْلُهُ: لَا رَيْبَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ بَالِغًا فِي الصِّحَّةِ وَعَدَمِ/ الْإِخْلَالِ إِلَى حَيْثُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَرْتَابَ فِيهِ وَقَوْلُهُ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ سَبَبًا لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ وَإِكْمَالِ حَالِهِمْ فَقَوْلُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَائِمٌ مُقَامَ قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ وَقَوْلُهُ: قَيِّماً قَائِمٌ مُقَامَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وَهَذِهِ أَسْرَارٌ لَطِيفَةٌ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْعِوَجُ فِي الْمَعَانِي كَالْعِوَجِ فِي الْأَعْيَانِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: نَفْيُ التَّنَاقُضِ عَنْ آيَاتِهِ كَمَا قَالَ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: ٨٢]. وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَلَا خَلَلَ في شيء منها ألبتة. وثالثها:

أَنَّ الْإِنْسَانَ كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ مُتَوَجِّهًا إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ وَإِلَى حَضْرَةِ جَلَالِ اللَّهِ وَهَذِهِ الدُّنْيَا كَأَنَّهَا رِبَاطٌ بُنِيَ عَلَى طَرِيقِ عَالَمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا نَزَلَ فِيهِ اشْتَغَلَ بِالْمُهِمَّاتِ الَّتِي يَجِبُ رِعَايَتُهَا فِي هَذَا السَّفَرِ ثُمَّ يَرْتَحِلُ مِنْهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ فَكُلُّ مَا دَعَاهُ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ وَمِنَ الْجُسْمَانِيَّاتِ إِلَى الرُّوحَانِيَّاتِ وَمِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ وَمِنَ اللَّذَّاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ الْجَسَدَانِيَّةِ إِلَى الِاسْتِنَارَةِ بِالْأَنْوَارِ الصَّمَدَانِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مُبَرَّأٌ عَنِ الْعِوَجِ وَالِانْحِرَافِ وَالْبَاطِلِ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِلْكِتَابِ وَهِيَ قَوْلُهُ: قَيِّماً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ مُسْتَقِيمًا وَهَذَا عِنْدِي مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِنَفْيِ الِاعْوِجَاجِ إِلَّا حُصُولُ الِاسْتِقَامَةِ فَتَفْسِيرُ الْقَيِّمِ بِالْمُسْتَقِيمِ يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، بَلِ الْحَقُّ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهِ: قَيِّماً أَنَّهُ سَبَبٌ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ وَأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مَنْ يَكُونُ قَيِّمًا لِلْأَطْفَالِ، فَالْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ كَالْأَطْفَالِ، وَالْقُرْآنُ كَالْقَيِّمِ الشَّفِيقِ الْقَائِمِ بِمَصَالِحِهِمْ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ قَالُوا هَذَا مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالتَّقْدِيرُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا. وَأَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْكَلَامِ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ، وَقَوْلَهُ: قَيِّماً يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ وَكَوْنُهُ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ مُتَقَدِّمٌ بِالطَّبْعِ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ فَثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ التَّرْتِيبَ الصَّحِيحَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً فَظَهَرَ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَاسِدٌ يَمْتَنِعُ الْعَقْلُ مِنَ الذَّهَابِ إِلَيْهِ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: قَيِّماً وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لَا يَجُوزُ جَعْلُهُ حَالًا مِنَ الْكِتابَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْزَلَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ فَجَعْلُهُ حَالًا مِنَ الْكِتابَ يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ بِبَعْضِ الصِّلَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. قَالَ: وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَنْتَصِبَ بِمُضْمَرٍ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا وَجَعَلَهُ قَيِّمًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ الَّذِي نَرَى فِيهِ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً حَالٌ وَقَوْلُهُ: قَيِّماً حَالٌ أُخْرَى وَهُمَا حَالَانِ مُتَوَالِيَانِ وَالتَّقْدِيرُ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ غَيْرَ مَجْعُولٍ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ السَّيِّدُ صَاحِبُ «حَلِّ الْعَقْدِ» / يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: قَيِّماً بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً لأن معنى: لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أَنَّهُ جَعَلَهُ مُسْتَقِيمًا فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَجَعَلَهُ قَيِّمًا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أَيْ حَالَ كَوْنِهِ قَائِمًا بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَأَحْكَامِ الدِّينِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ الْمَوْصُوفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ مَا لِأَجْلِهِ أَنْزَلَهُ فَقَالَ:
لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَأَنْذَرَ مُتَعَدٍّ إِلَى مفعولين كقوله: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
[النَّبَأِ: ٤٠] إِلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ هاهنا عَلَى أَحَدِهِمَا وَأَصْلُهُ لِيُنْذِرَ- الَّذِينَ كَفَرُوا- بَأْساً شَدِيداً كَمَا قَالَ فِي ضِدِّهِ: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْبَأْسُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِعَذابٍ بَئِيسٍ [الْأَعْرَافِ: ١٦٥] وَقَدْ بَؤُسَ الْعَذَابُ وَبَؤُسَ الرَّجُلُ بَأْسًا وَبَآسَةً وَقَوْلُهُ: مِنْ لَدُنْهُ أَيْ صَادِرًا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ وَفِي: لَدُنْ لُغَاتٌ يُقَالُ لَدُنْ وَلَدَى وَلَدُ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَالَ وَهِيَ لَا تَتَمَكَّنُ تَمَكُّنَ عِنْدَ لِأَنَّكَ تَقُولُ هَذَا الْقَوْلُ صَوَابٌ عِنْدِي وَلَا تَقُولُ صَوَابٌ لَدُنِّي وَتَقُولُ عِنْدِي مَالٌ عَظِيمٌ وَالْمَالُ غَائِبٌ عَنْكَ وَلَدُنِّي لِمَا يَلِيكَ لَا غَيْرَ وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ بِسُكُونِ الدَّالِ مَعَ إِشْمَامِ الضَّمِّ وَكَسْرِ النُّونِ وَالْهَاءِ وَهِيَ لُغَةُ بَنِي كِلَابٍ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِنْذَارُ الْمُذْنِبِينَ وَبِشَارَةُ الْمُطِيعِينَ، وَلَمَّا كَانَ دَفْعُ الضَّرَرِ أهم