آيات من القرآن الكريم

ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا
ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ

[سُورَة الْكَهْف (١٨) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٢]

فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢)
تَفْرِيعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ- بِالْفَاءِ- إِمَّا عَلَى جُمْلَةِ دُعَائِهِمْ، فَيُؤْذِنُ بِأَنَّ مَضْمُونَهَا اسْتِجَابَةُ دَعْوَتِهِمْ، فَجَعَلَ اللَّهُ إِنَامَتَهُمْ كَرَامَةً لَهُمْ. بِأَنْ سَلَّمَهُمْ مِنَ التَّعْذِيبِ بِأَيْدِي أَعْدَائِهِمْ، وَأَيَّدَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَأَرَى النَّاسَ ذَلِكَ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ.
وَإِمَّا عَلَى جُمْلَةِ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ [الْكَهْف: ١٠] إِلَخْ فَيُؤْذِنُ بِأَنَّ اللَّهَ عَجَّلَ لَهُمْ حُصُولَ مَا قَصَدُوهُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ فِي حُسْبَانِهِمْ.
وَالضَّرْبُ: هُنَا بِمَعْنَى الْوَضْعِ، كَمَا يُقَالُ: ضَرَبَ عَلَيْهِ حِجَابًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [الْبَقَرَة: ٦١]، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [الْبَقَرَة: ٢٦].
وَحذف مفعول فَضَرَبْنا لِظُهُورِهِ، أَيْ ضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ غِشَاوَةً أَوْ حَائِلًا عَنِ السَّمْعِ، كَمَا يُقَالُ: بَنَى عَلَى امْرَأَتِهِ، تَقْدِيرُهُ: بَنَى بَيْتًا. وَالضَّرْبُ عَلَى الْآذَانِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِنَامَةِ لِأَنَّ النَّوْمَ الثَّقِيلَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ السَّمْعِ، لِأَنَّ السَّمْعَ السَّلِيمَ لَا يَحْجُبُهُ إِلَّا النَّوْمُ، بِخِلَافِ الْبَصَرِ الصَّحِيحِ فَقَدْ يُحْجَبُ بِتَغْمِيضِ الْأَجْفَانِ.
وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ مِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ مِنَ الْإِعْجَازِ.
وعَدَداً نَعْتُ سِنِينَ. وَالْعَدَدُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَثْرَةِ، أَيْ سِنِينَ ذَاتَ عَدَدٍ كَثِيرٍ.
وَنَظِيرُهُ مَا فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ: فَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى غَارِ حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ» تُرِيدُ الْكَثِيرَةَ. وَقَدْ أُجْمِلَ الْعَدَدُ هُنَا تَبَعًا لِإِجْمَالِ الْقِصَّةِ.

صفحة رقم 268

وَالْبَعْثُ: هُنَا الْإِيقَاظُ، أَيْ أَيْقَظْنَاهُمْ مِنْ نَوْمَتِهِمْ يَقَظَةَ مَفْزُوعٍ. كَمَا يُبْعَثُ الْبَعِيرُ مِنْ مَبْرَكِهِ. وَحَسَّنَ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ هُنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ فِي ذِكْرِ لِفْظِ الْبَعْثِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْإِفَاقَةِ دَلِيلًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَكَيْفِيَّتِهِ.
وَالْحِزْبُ: الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ تَوَافَقُوا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَالْحِزْبَانِ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا مُصِيبٌ وَالْآخِرُ مُخْطِئٌ فِي عَدِّ الْأَمَدِ الَّذِي مَضَى عَلَيْهِمْ. فَقِيلَ: هُمَا فَرِيقَانِ مِنْ أَهْلِ
الْكَهْفِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى أَنَّهُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ [الْكَهْف:
١٩]. وَفِي هَذَا بُعْدٌ مِنْ لَفْظِ حِزْبٍ إِذْ كَانَ الْقَائِلُ وَاحِدًا وَالْآخِرُونَ شَاكِّينَ، وَبَعِيدٌ أَيْضًا مِنْ فِعْلِ أَحْصى لِأَنَّ أَهْلَ الْكَهْفِ مَا قَصَدُوا الْإِحْصَاءَ لِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ عِنْدَ إِفَاقَتِهِمْ بَلْ خَالُوهَا زَمَنًا قَلِيلًا. فَالْوَجْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحِزْبَيْنِ حِزْبَانِ مِنَ النَّاسِ أَهْلِ بَلَدِهِمُ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا انْبِعَاثَهُمْ مِنْ نَوْمَتِهِمْ، أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مُصِيبٌ وَالْآخَرُ مُخْطِئٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُصِيبَ مِنْهُمْ وَالْمُخْطِئَ، فَهُمَا فَرِيقَانِ فِي جَانِبَيْ صَوَابٍ وَخَطَأٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَحْصى.
وَلَا يَنْبَغِي تَفْسِيرُ الْحِزْبَيْنِ بِأَنَّهُمَا حِزْبَانِ مِنْ أَهْلِ الْكَهْفِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ الْآيَة [الْكَهْف: ١٩].
وَجَعْلُ حُصُولِ عِلْمِ اللَّهِ بِحَالِ الْحِزْبَيْنِ عِلَّةً لِبَعْثِهِ إِيَّاهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ الِاخْتِلَافِ فِي تَقْدِيرِ مُدَّتِهِمْ فَإِنَّهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا عَلِمَ اللَّهُ اخْتِلَافَهُمْ عِلْمَ الْوَاقِعَاتِ، وَهُوَ تَعَلُّقٌ لِلْعِلْمِ يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ تَنْجِيزِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فِي أول السُّورَة الْكَهْف [٧].
وأَحْصى يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، أَن يَكُونَ اسْمَ تَفْضِيلٍ مَصُوغًا مِنَ الرُّبَاعِيِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» تَبَعًا لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ الْأَوَّلَ تَجَنُّبًا لِصَوْغِ اسْمِ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِقِلَّتِهِ. وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ

صفحة رقم 269
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية