
«لا يلبثون» وتأويله: إِنّا سَنَنَّا هذه السُنَّة فيمن أَرسَلْنا قبلك أنهم إِذا أَخرجوا نبيَّهم أو قتلوه، لم يلبث العذاب أن ينزل بهم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٨ الى ٨١]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١)
قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ أي: أَدِّها لِدُلُوكِ الشَّمْسِ أي: عند دُلوكها. وذكر ابن الأنباري في «اللام» قولين: أحدهما: أنها بمعنى «في». والثاني: أنها مؤكّدة، كقوله تعالى: رَدِفَ لَكُمْ «١». وقال أبو عبيدة: دُلوكها: من عند زوالها إِلى أن تغيب. وقال الزجاج: مَيْلها وقتَ الظهيرة دُلوك، ومَيْلها للغروب دُلوك. وقال الأزهري: معنى «الدُّلوك» في كلام العرب: الزوال، ولذلك قيل للشمس إِذا زالت نصف النهار: دالكة، وإِذا أفلت: دالكة، لأنها في الحالين زائلة. وللمفسّرين في المراد بالدّلوك ها هنا قولان «٢» : أحدهما: أنه زوالها نصف النهار.
(٩١٢) روى جابر بن عبد الله قال: دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومن شاء من أصحابه، فطعِموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: «اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس» وهذا قول ابن عمر، وأبي برزة، وأبي هريرة، والحسن، والشعبي، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعبيد بن عمير، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، وهو اختيار الأزهري. قال الأزهري: لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، فيكون المعنى: أقم «٣» الصلاة من وقت زوال الشمس
__________
(١) سورة النمل: ٧٢. [.....]
(٢) قال الطبري رحمه الله ٨/ ١٢٦: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: الصلاة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بإقامتها عند غسق الليل، هي صلاة المغرب دون غيرها. لأن غسق الليل هو إقبال الليل وظلامه وذلك لا يكون إلا بعد مغيب الشمس.
(٣) فائدة: قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٢/ ١١- ١٢: وتجب جميع الصلوات بدخول وقتها في حق من هو أهل الوجوب فأما أهل الأعذار، كالحائض والمجنون والصبيّ والكافر، فتجب في حقه بأول جزء أدركه من وقتها بعد زوال عذره. وبهذا قال الشافعي، رحمه الله. وقال أبو حنيفة، رحمه الله: يجب تأخّر وقتها إذا بقي منه ما لا يتسع لأكثر منها، لأنه في أول الوقت يتخيّر بين فعلها وتركها، فلم تكن واجبة كالنافلة.
ولنا، أنه مأمور بها في أول الوقت بقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ والأمر يقتضي الوجوب على الفور، فلو أدرك جزءا من أول وقتها ثم جنّ، أو حاضت المرأة لزمها القضاء إذا أمكنها. وقال الشافعي وإسحاق: لا يجب القضاء بما دون مضي زمن يمكن فعلها فيه، كما لو طرأ العذر قبل دخول الوقت.

إِلى غسق الليل، فيدخل فيها الأولى، والعصر، وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، فهذه خمس صلوات.
والثاني: أنه غروبها، قاله ابن مسعود، والنخعي، وابن زيد، وعن ابن عباس كالقولين، قال الفراء: ورأيت العرب تذهب في الدُّلوك إِلى غيبوبة الشمس، وهذا اختيار ابن قتيبة، قال: لأن العرب تقول: دَلَكَ النجم: إِذا غاب قال ذو الرمة:
مَصَابِيْحُ لَيْسَتْ باللّواتي تَقُوْدُهَا | نُجُومٌ وَلاَ بالآفلاتِ الدَّوالِكِ «١» |
والشَّمْسُ قَدْ كادَتْ تَكُونُ دَنَفَا | أدْفَعُها بالرَّاحِ كَيْ تَزَحْلَفَا «٣» |
المغرب. فأما غسق الليل فظلامُه. وفي المراد بالصلاة المتعلقة بغسق الليل ثلاثة أقوال: أحدها:
العشاء، قاله ابن مسعود. والثاني: المغرب، قاله ابن عباس. قال القاضي أبو يعلى: فيحتمل أن يكون المراد بيانَ وقت المغرب، أنه من غروب الشمس إِلى غسق الليل. والثالث: المغرب والعشاء، قاله الحسن.
قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ المعنى: وأقم قراءة الفجر. قال المفسرون: المراد به: صلاة الفجر. قال الزجاج: وفي هذا فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إِلا بقراءة، حين سمِّيت الصلاة قرآناً. قوله تعالى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً.
(٩١٣) روى أَبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «تشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار».
قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ قال ابن عباس: فَصَلَِّ بالقرآن. قال مجاهد، وعلقمة، والأسود: التهجُّد بعد النوم. قال ابن قتيبة: تهجَّدت: سهرت، وهجدت: نمت. وقال ابن الأنباري:
وهو في الصحيحين عنه مرفوعا بلفظ: «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح» يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً. أخرجه البخاري ٦٤٨ و ٤٧١٧ ومسلم ٨٤٩ والنسائي في «التفسير» ٣١٣ وابن حبان ٢٠٥١ من حديث أبي هريرة. وانظر «فتح القدير» للشوكاني ١٤٥٤ و ١٤٥٥ بتخريجنا.
__________
(١) في «اللسان» : أفل: غاب وإذا غابت الشمس فهي آفلة، وكذلك القمر يأفل: إذا غاب.
(٢) في «اللسان» : براح: اسم للشمس، سميت بذلك لانتشارها وبيانها. وبراح: بكسر الباء، وهي باء الجر، وهو جمع راحة وهي الكف. ومن قال: دلكت الشمس براح: أنها كادت تغرب.
(٣) البيت للعجّاج كما في ديوانه: ٨٢ و «اللسان» - زحلف- ويقال للشمس إذا مالت للمغيب قد تزحلفت.

التّهجّد ها هنا بمعنى: التيقُّظ والسَّهَر، واللغويون يقولون: هو من حروف الأضداد يقال للنائم: هاجِد ومتهجِّد، وكذلك للساهر، قال النابغة:
وَلَو انَّها عَرَضَتْ لأشْمَطَ رَاهِبٍ | عَبَد الإِلهَ صَرُوْرَةٍ مُتَهَجِّدِ |
لَرَنَا لِبَهْجَتِهَا وَحُسْنِ حَدِيْثِهَا | وَلَخَالَهُ رَشَداً وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ «١» |
قَال هَجِدْنَا فقد طال السّرى «٢»
أي: نَوِّمْنا. وقال الأزهري: المتهجِّد: القائم إِلى الصلاة من النَّوم: وقيل له: متهجد، لإِلقائه الهُجُود عن نفسه، كما يقال: تَحَرَّج وتأثَّم.
قوله تعالى: نافِلَةً لَكَ النافلة في اللغة: ما كان زائداً على الأصل.
وفي معنى هذه الزيادة في حقه قولان «٣» : أحدهما: أنها زائدة فيما فُرِض عليه، فيكون المعنى:
فريضة عليك، وكان قد فرض عليه قيام الليل، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير. والثاني: أنها زائدة على الفرض، وليست فرضاً فالمعنى: تطوعاً وفضيلة. قال أبو أُمامة، والحسن، ومجاهد: إنما النّافلة للنبيّ صلى الله عليه وسلّم خاصة. قال مجاهد: وذلك أنه قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما زاد على فرضه فهو نافلة له وفضيلة، وهو لغيره كفارة. وذكر بعض أهل العلم: أن صلاة الليل كانت فرضاً عليه في الابتداء، ثم رخِّص له في تركها، فصارت نافلة. وذكر ابن الأنباري في هذا قولين: أحدهما:
يقارب ما قاله مجاهد، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِذا تنفَّل لا يقدر له أن يكون بذلك ماحياً للذنوب، لأنه قد غُفر له ما تقدم من ذَنْبه وما تأخَّر، وغيره إِذا تنفَّل كان راجياً، ومقدّراً محو السيئات عنه بالتّنفّل، فالنّافلة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم زيادة على الحاجة، وهي لغيره مفتقَر إِليها، ومأمول بها دفع المكروه. والثاني:
أن النافلة للنبيّ صلى الله عليه وسلّم وأمته، والمعنى: ومن الليل فتهجدوا به نافله لكم، فخوطب النبيّ صلى الله عليه وسلّم بخطاب أمته.
قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «عسى» من الله واجبه، ومعنى «يبعثك» يقيمك مَقاماً مَحْمُوداً وهو الذي يحمَده لأجله جميع أهل الموقف. وفيه قولان:
أحدهما: أنه الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، والحسن، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والثاني: يجلسه على العرش يوم القيامة. روى أبو وائل عن عبد الله أنه قرأ هذه الآية، وقال:
(٢) هو صدر بيت وعجزه: «وقدرنا إن خنا الدهر غفل».
(٣) قال الطبري رحمه الله ٨/ ١٣٠: وأولى القولين بالصواب في ذلك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان الله تعالى قد خصّه بما فرض عليه من قيام الليل، دون سائر أمته وهو قول ابن عباس. وأما ما ذكر عن مجاهد في ذلك، فقول لا معنى له، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما ذكر عنه أكثر ما كان استغفارا لذنوبه بعد نزول قول الله عز وجل عليه لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ.

يُقعده على العرش، وكذلك روى الضحاك عن ابن عباس، وليث عن مجاهد.
قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وقرأ الحسن، وعكرمة، والضحاك، وحميد بن قيس، وقتادة، وابن أبي عبلة بفتح الميم في «مَدخل» و «مَخرج». قال الزجاج: المدخل، بضم الميم: مصدر أدخلته مُدخلاً، ومن قال: مَدخل صدق، فهو على أدخلته، فدخل مَدخل صدق، وكذلك شرح «مَخرج» مثله. وللمفسرين في المراد بهذا المدخل والمخرج أحد عشر قولاً «١» : أحدها: أدخلني المدينة مدخل صدق، وأخرجني من مكة مخرج صدق.
(٩١٤) روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه هذه الآية. وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن في رواية سعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد. والثاني:
أدخلني القبر مُدخل صدق، وأخرجني منه مُخرج صدق، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أدخلني المدينة، وأخرجني إِلى مكة، يعني: لفتحها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أدخلني مكة مدخل صدق، وأخرجني منها مخرج صدق، فخرج منها آمناً من المشركين، ودخلها ظاهراً عليها يوم الفتح، قاله الضحاك. والخامس: أدخلني مُدخل صدقٍ الجنةَ، وأخرجني مخرج صدق من مكة إِلى المدينة، رواه قتادة عن الحسن. والسادس: أدخِلني في النبوَّة والرسالة، وأخرجني منها مخرج صدق، قاله مجاهد، يعني: أخرجني مما يجب عليَّ فيها. والسابع: أدخِلني في الإِسلام، وأخرجني منه، قاله أبو صالح يعني: من أداء ما وجب عليَّ فيه إِذا جاء الموت. والثامن: أدخِلني في طاعتك، وأخرجني منها، أي: سالماً غير مقصِّر في أدائها، قاله عطاء. والتاسع: أدخِلني الغار، وأخرجني منه، قاله محمد بن المنكدر. والعاشر: أدخلني في الدِّين، وأخرجني من الدنيا وأنا على الحق، ذكره الزجاج.
والحادي عشر: أدخلني مكة، وأخرجني إِلى حُنَين، ذكره أبو سليمان الدمشقي. وأما إِضافة الصدق إِلى المُدخل والمُخرج، فهو مدح لهما. وقد شرحنا هذا المعنى في سورة يونس «٢».
قوله تعالى: وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي: من عندك سُلْطاناً وفيه ثلاثة أقوال «٣» : أحدها: أنه التسلُّط على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين باقامة الحدود، قاله الحسن. والثاني: أنه الحُجة البيِّنة، قاله مجاهد. والثالث: المُلك العزيز الذي يُقهَر به العصاة، قاله قتادة. وقال ابن الأنباري: وقوله تعالى: نَصِيراً يجوز أن يكون بمعنى مُنْصَراً، ويصلح أن يكون تأويله ناصرا.
__________
(١) قال الطبري ٨/ ١٣٧: وأشبه هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: معنى ذلك: وأدخلني المدينة مدخل صدق، وأخرجني من مكة مخرج صدق. اه ووافقه ابن كثير في «تفسيره» ٣/ ٧٧.
(٢) سورة يونس: ٢.
(٣) قال الطبري رحمه الله ٨/ ١٣٨: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك أمر من الله تعالى نبيّه بالرغبة إليه في أن يؤتيه سلطانا نصيرا له على من بغاه وكاده، وحاول منعه من إقامته فرائض الله في نفسه وعباده. ووافقه ابن كثير في «تفسيره» ٣/ ٧٧.