
رَسُولَهُ، وَاعْتِبَارُهُمْ أَنْفُسَهُمْ
عِبَادًا لِلَّهِ مُتَطَلِّبِينَ شُكْرَ نِعْمَتِهِ، فَشَتَّانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَإِنْ سَخُفَتْ فِي شَأْنِهِمْ عَقِيدَةُ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٩٩- ١٠٠].
فَالْمُؤْمِنُ لَا يَتَوَلَّى الشَّيْطَانَ أَبَدًا وَلَكِنَّهُ قَدْ يَنْخَدِعُ لِوَسْوَاسِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَلْعَنُهُ فِيمَا أَوْقَعَهُ فِيهِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَبِمِقْدَارِ ذَلِكَ الِانْخِدَاعِ يَقْتَرِبُ مِنْ سُلْطَانِهِ. وَهَذَا مَعْنَى
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ»
. فَجُمْلَةُ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَكْمِلَةً لِتَوْبِيخِ الشَّيْطَانِ، فَيَكُونُ كَافُ الْخِطَابِ ضَمِيرَ الشَّيْطَانِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً فِي آخِرِ الْكَلَامِ فَتَكُونُ كَافُ الْخِطَابِ ضمير النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْرِيبًا لِلنَّبِيءِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ. وَمَآلُ الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتلف الِاعْتِبَار.
[٦٦]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٦٦]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَهُوَ عَوْدٌ إِلَى تَقْرِيرِ أَدِلَّةِ الِانْفِرَادِ بِالتَّصْرِيفِ فِي الْعَالَمِ الْمَشُوبَةِ بِمَا فِيهَا مِنْ نِعَمٍ عَلَى الْخَلْقِ، وَالدَّالَّةِ بِذَلِكَ الشَّوْبِ عَلَى إِتْقَانِ الصُّنْعِ وَمُحْكَمِ التَّدْبِيرِ لِنِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ وَسِيَادَةِ الْإِنْسَانِ فِيهِ وَعَلَيْهِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ عَوْدًا إِلَى قَوْله: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ [الْإِسْرَاء: ١١]

كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ فَرَاجِعْهُ. فَلَمَّا جَرَى الْكَلَامُ عَلَى الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ أُعْقِبَ هُنَا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ.
وَالْخِطَابُ لِجَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ [الْإِسْرَاء: ٦٧]، أَيْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ دُعَائِهِ وَدَعَوْتُمُ الْأَصْنَامَ، وَقَوْلُهُ: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: ٦٧].
وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ وَمُسْتَحْضَرًا بِصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ لِاسْتِدْعَاءِ إِقْبَالِ السَّامِعِينَ عَلَى الْخَبَرِ الْمُؤْذِنِ بِأَهَمِّيَّتِهِ حَيْثُ افْتُتِحَ بِمَا يُتَرَقَّبُ مِنْهُ خَبَرٌ عَظِيمٌ لكَونه من شؤون الْإِلَهِ الْحَقِّ وَخَالِقِ الْخلق ومدبر شؤونهم تَدْبِيرَ اللَّطِيفِ الرَّحِيمِ، فَيُوجِبُ إِقْبَالَ السَّامِعِ بِشَرَاشِرِهِ إِنْ مُؤْمِنًا مُتَذَكِّرًا أَوْ مُشْرِكًا نَاظِرًا مُتَدَبِّرًا.
وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ.
وَبِتَعْرِيفِ طَرَفَيْهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِانْحِصَارِ، أَيْ رَبُّكُمْ هُوَ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ لَا غَيْرُهُ مِمَّنْ تَعْبُدُونَهُ بَاطِلًا وَهُوَ الَّذِي لَا يَزَالُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَكُمْ.
وَجِيءَ بِالصِّلَةِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تكَرر ذَلِك وتحدده. فَحَصَلَتْ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى إِيجَازِهَا مَعَانٍ جَمَّةٌ خُصُوصِيَّةٌ. وَفِي ذَلِكَ حَدُّ الْإِعْجَازِ.
وَيُزْجِي: يَسُوقُ سَوْقًا بَطِيئًا شَبَّهَ تَسْخِيرَ الْفُلْكِ لِلسَّيْرِ فِي الْمَاءِ بِإِزْجَاءِ الدَّابَّةِ الْمُثْقَلَةِ بِالْحِمْلِ.
وَالْفُلْكُ هُنَا جَمْعٌ لَا مُفْرَدٌ. وَالْبَحْرُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ فَيَشْمَلُ الْأَنْهَارَ كَالْفُرَاتِ وَالدِّجْلَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَالِابْتِغَاءُ: الطَّلَبُ. وَالْفَضْلُ: الرِّزْقُ، أَيْ لِلتِّجَارَةِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩٨]. وَهَذَا امْتِنَانٌ عَلَى