الآية تسلية لحضرة الرسول عما يصمونه به، ووعيد بسوء العاقبة لزيغهم عن الرشاد «وَ» من عتوهم «قالُوا» لك أيضا يا محمد «أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً» بأن متنا وبلي لحمنا وتفتّت عظامنا فصارت ترابا أو غبارا لأن الرّفات كل شيء مبالغ في ذمّه «أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» كما تقول بعد تفرق أجزائنا «خَلْقاً جَدِيداً» ٤٩ مثل ما نحن عليه الآن، قالوا هذا على طريق الاستبعاد بالاستفهام الإنكاري وأرادوا به استحالة إحيائهم بعد موتهم، وفيه تعجيب بعد تعجبهم بذكر الإله الواحد مما يوقع اللوم على أتباعك لأنك بزعمهم كرجل منهم أخرجك السحر عن الطبيعة فصرت وحاشاك تهذو بأن الإله واحد وأن الموتى يحيون بعد البلاء ويحاسبون على ما فعلوه في دنياهم، لأن هذا بزعمهم لا يكون أبدا ولا يقرّه العقل لأن بين غضاضة الحي وطراوته المفضية للاتصال الموجب للحياة وبين يبوسة الرميم المفضية للتفرق الموجب لعدم الحياة تباينا وتنافيا لا يقبل التأليف، وهذا إنما يصدر منهم لأنهم ينظرون إلى الأمور الظاهرية ولا يتفكرون بقدرة الذي خلقهم من العدم وأوجد هذا الكون كله من لا شيء، راجع الآية ٧ من سورة سبأ في ج ٢، «قُلْ» يا أكمل الرسل لهؤلاء المنكرين قدرتنا المستبعدين إعادتهم بعد الموت «كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً» ٥٠ وهذا ردّ منه سبحانه عليهم فقابل قولهم: كنا، يكونوا.
على طريق المشاكلة والمقابلة بالجنس، وهذا الأمر أمر استهانة بهم على حد قولة تعالى حكاية عن سيدنا موسى عليه السلام (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) الآية ٨٠ من سورة يونس أي إن ما تلقونه ليس بشيء بالنسبة لقدرة الله التي وضعها في عصاه أو أمر تسخير على حد قوله تعالى (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) الآية ٦٦ من البقرة في ج ٣،
«أَوْ خَلْقاً» آخر وأكبر وأعظم وأشدّ من الحجارة والحديد من كل ما يتخيلونه قويا منيعا بعيدا بمراحل كثيرة عن قبول الحياة وائتوا بكل شيء «مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ» ويستحيل عندكم قبوله للحياة وأبعد شيء عنها مما تعدونه عظيما فعله كبيرا قويا جرمه من كل محال لا تقبله عقولكم، فإن الله تعالى يحييكم لا محالة إذ لا يعجزه شيء لتساوي الأجسام في قبول الاعراض عنده، فكيف لا يحييكم إذا كنتم عظاما كانت قبل موضوعة بالحياة والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد كالحديد
وغيره، وقد فوّض الله تعالى لهم الشيء الذي يكونون منه مما يستعظمونه كالسماء والأرض والجبال أي مهما تصوروه بأنفسهم على طريق الفرض والتقدير فإن الله تعالى قادر على إعادة أرواحهم في أجسادهم التي ماتوا عليها مهما تفرقت وتفتت وتذرت بالهواء فإنه جامعها وباعثكم بعد الموت لا محالة، «فَسَيَقُولُونَ» لك يا سيد الرسل إذا كنا كما تقول «مَنْ يُعِيدُنا» على حالتنا هذه بعد ذلك مع ما بيننا وبين الإعادة من التفاوت والمباينة «قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ» اخترعكم وخلقكم من العدم «أَوَّلَ مَرَّةٍ» على غير مثال سابق ومن أصل تراب ماشم رائحة الحياة فالذي قدر على ذلك قبلا فهو على جمع رميمكم وافاضة الحياة فيه واعادتكم على ما كنتم عليه أقدر: وفي هذه الجملة تحقيق للحق وإزاحة للباطل والاستبعاد وإرشاد إلى طريق الاستدلال لمن كان له عقل يعقل به، قال تعالى واصفا حالتهم عند سماع ذلك الكلام العظيم بأنهم سيبهتون ويتحيّرون الدال عليه «فَسَيُنْغِضُونَ» يحركون ويهزّون «إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ» إعجابا لقبولك هذا واستعظاما لصدوره منك مع ما يعلمون من عقلك وأناتك ونظرك لمصير كلامك، ونغض كنصر تحرك واضطرب وحرّك قال الفراء هو تحريك الرأس بارتفاع وانخفاض مما يتعجب منه ويستهزأ به استكبارا وإنكارا قال الشاعر:
أتنغض لي يوم الفخار وقد ترى | خيولا عليها كالأسود ضواريا |
أنغض نحوي رأسه واقنعا | كأنه يطلب مني شيئا أطمعا |
وكلمة عسى هنا للترجي والتوقع ومسوقة إلى ما هو محقق الوقوع، وما قيل إنها للمقاربة ينافيه قوله تعالى بعدها (قريبا) لأنها لو كانت للمقاربة لما جيء بها بعدها لعدم الفائدة.
مطلب الخروج من القبور واستقلال المدد الثلاث:
قال تعالى «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ» أيها الناس وهذا الظرف منصوب بفعل مضمر تقديره اذكروا يوم يناديكم بالنفخة الأخيرة إسرافيل عليه السلام ببوقه بأمر ربه من قبوركم «فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ» كما أجبتم حين دعاكم للنفخة الأولى للموت فمتم جميعكم بنفخته أي مات كل من حضرها عدا ما استثنى الله كما سيأتي في الآية ٦٧ من سورة الزمر في ج ٢ بصورة أوضح، فكما أنه لم يتخلف أحد منكم بالنفخة الأولى عن الموت لم يتخلف أحد منكم عن الحياة بالنفخة الثانية، وكما دعاكم من العدم في عالم الذر وأخذ عليكم العهد بالطاعة والانقياد للرسل، كذلك دعاكم للقيام من قبوركم. واعلموا أن قولكم حين اجابتكم لهذه الدعوة الأخيرة سبحانك اللهم وبحمدك جئناك تائبين منيبين لا ينفعكم، لأنه في غير محلّه وإلا لقالها كل كافر مثلكم راجع الآية ١٧ من النساء في ج ٣، «وَتَظُنُّونَ» بعد قيامكم من برزخكم ومجيئكم مهرولين وراء الداعي إلى المحشر «إِنْ لَبِثْتُمْ» ما مكثتم في الدنيا وفي البرزخ القبر وما بين النفختين «إِلَّا» لبثا «قَلِيلًا» ٥٢ زمانا طفيفا يقولون هذا استحقارا لتلك المدد الثلاث، لأن الإنسان لو مكث في الدنيا وفي القبر وبين النفختين ألوفا من السنين عدّ ذلك قليلا بنسبة مدة يوم القيامة، فضلا عن مدة الخلود في الآخرة التي لا نهاية لها، والمقصود من هذه الدعوة إحضار الخلائق للحساب والجزاء، لأن دعوة السيد. لعبده إما لاستخدامه أو التفحص عن أمره، والأول منتف في الآخرة إذ لا تكليف فيها فتعين الثاني، قال تعالى (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) الآية ٤٠ من سورة ق المارة، قيل إن جبريل عليه السلام يقف على صخرة بيت المقدس فينادي أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرّقة عودي كما كنت، فتعود حالا. أخرج أبو داود وابن حبان عن أبي الدرداء أنه قال:
قال صلّى الله عليه وسلم إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم. وهذه الدعوة تكون بالأمر التكويني، وهو ما يوحيه إلى المعدوم، فهو نداء على الحقيقة لا على المجاز على ما قيل إنه يمتنع حمل هذا النداء على الحقيقة، لما يلزم من الحمل عليها خطاب الجماد، والأجزاء المتفرقة ولو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان ذلك النداء كناية عن البعث والانبعاث حقيقة لا مجازا، والمجوز لإرادتها ما ذكرنا من أن هذه الدعوة بالأمر التكويني. وقيل إن خطاب الكافرين انقطع عند قوله تعالى قريبا.
والخطاب بقوله تعالى (يوم يدعوكم) للمؤمنين أي فتجيبون أيها المؤمنون حامدين له سبحانه على إحسانه إليكم وتوفيقه إياكم للإيمان بالبعث، وهو وجيه لكن جعل الخطاب للعموم أولى وأنسب للمقام، إذ لا مخصص ولا دال على التقييد، وعلى كل إن شاء الله يجيب المؤمنون المنادي بما ذكر الله. أخرج الترمذي والطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية ٣٤ من سورة فاطر المارة، وفي رواية عن أنس مرفوعا: ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا في القبور ولا في الحشر، وكأني بأهل لا إله إلا الله قد خرجوا من قبورهم ينفضون رءوسهم من التراب يقولون (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ). راجع تفسير هذه الآية، ومما يدل على أن الخطاب للفريقين المؤمنين والكافرين كما جرينا عليه في تفسير هذه الآية ما أخرجه عبد بن حميد عن ابن جبير أنه قال: يخرجون من قبورهم وهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك ولا بعد في صدور ذلك من الكافرين يوم القيامة وإن لم ينفعهم كما نوهنا به آنفا، وهذا التفسير أولى بالنسبة لسياق الآية وسياق الكلام، هذا وإن قوله تعالى «وَقُلْ لِعِبادِي» خاص بالمؤمنين بدليل الإضافة التشريفية الدالة على التخصيص، بخلاف الآية الأولى لمجيئها بلفظ عام، وعلى القول بأن هذا الخطاب الأخير يشمل الكافرين أيضا فيكون خطابهم بلفظ عبادي لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قول الحق، والأولى أولى لوجود الصارف وهو الإضافة له، وعليه يكون المعنى قل يا أكرم الرسل لأصحابك المؤمنين «يَقُولُوا»
عند محاورتهم مع المشركين الكلم والجمل والعبارة «الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» من البذاء في المخاطبات والفحش في المحاولات، ولا تخاشنوهم بالكلام ليظهر فضلكم عليهم ويمجدكم من يحضر مناظرتكم «إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ» يفسد ويهيّج الشرّ بما يوقعه من الوسوسة والخنس «بَيْنَهُمْ» أي الفريقين ويريد أن يقول المؤمنون للكافرين القولة التي هي أشر، مما يؤدي إلى تأكيد العناد وتمادي الفتنة واشتداد العداء «إِنَّ الشَّيْطانَ» الذي دأبه إلقاء الفتن وديدنه إيقاع الفساد وعادته تحريك الشرّ «كانَ» قديما ولم يزل «لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً» ٥٣ مظهرا العداوة، نزلت هذه الآية حين شكى المسلمون إيذاء الكافرين فأوحى الله إلى رسوله أن يأمر المؤمنين بعدم مكافأتهم على سفههم، وأن يقولوا لهم ما هو الخير. وقيل نزلت في عمر بن الخطاب حين أمر بالعفو عمن شتمه، وسياق اللفظ يأباه، والآية عامة في جميع المؤمنين بأن يفعلوا الخلّة الحسنة من قول أو عمل بعضهم مع بعض ومع غيرهم، ولا تأخذهم وساوس الشيطان ودسائسه فيما يقع بينهم، ممّا يؤدي إلى الخصومة، وأن يتذكروا عداوته القديمة فيرفضوا نزغاته. ومما يدل على كونها للعموم قوله تعالى «رَبُّكُمْ» أيها الناس «أَعْلَمُ بِكُمْ» وبما يؤول إليه أمركم مما أنتم صائرون إليه بحسب علمه الازلي «إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ» فيوفقكم للنجاة من الكفار وأذاهم كما وفقكم للإيمان «أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ» بتسليطهم عليكم، وعلى القول بأن الآية في الكفار يكون المعنى بأن يميتكم على الشرك، واعلم أن هذه الجمل الثلاث كالتفسير لقوله تعالى (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) والجملتان قبلها (إن الشيطان. إن الشيطان) كالاعتراض بينهما، فكأنه قيل يا أيها المؤمنون قولوا للمشركين الذين يؤذونكم بالكلام هذه الجمل الثلاث، لان أمرهم معلق على المشيئة، ولا تصارحوهم فتقولوا لهم إنكم من أهل النار مثلا، فإنه مما يهبجهم على الشرّ، لأن الخاتمة مجهولة لا يعلمها إلا الله، ولا يبعد أن يهديهم فيكونوا من أهل الجنة (وأو) هنا للإباحة كقولك جالس العلماء أو الحكماء لإمكان مجالستهما معا فإنها محتملة وجائزة، وقد تكون للتخيير فيما لا يمكن الاجتماع كقولك تزوج هندا أو أختها، ودخلت لسعة الأمرين عند الله تعالى. ثم التفت جل شأنه إلى رسوله فقال
صفحة رقم 513
«وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا» ٥٤ لهم حافظا أحوالهم أو كفيلا بما يلزمهم، ولم نجعلك مسيطرا عليهم مأمورا بقسرهم، فما عليك الآن إلا الاشتغال بالدعوة إلى الحق فقط، فمن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر، وعلى القول الثاني لا تشدد القول عليهم، ولا تغلظ لهم، ولا تجبرهم على الإيمان وتقسرهم لاتباعك وامتثال أوامرك، لأنا أرسلناك بشيرا ونذيرا، فدارهم ومر أصحابك
بمجاملتهم، وتحمل أنت وأصحابك أذاهم، واتركوا المشاغبة معهم وأظهروا لهم اللين والرفق علّه يؤثر في قلوبهم، وذلك لأن أحكام الله تدريجية حتى إذا ظهر لنبيه إيمان من آمن وإصرار من أصر على كفره كما في سابق علمه أمره بقتاله، ولهذا فلا محل للقول لأن هذه الآية منسوخة بآية السيف، لأن الله تعالى جعل للإرشاد والنصح أناسا وللسيف والقتل آخرين، قال تعالى «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وما هم عليه من أحوال ظاهرة وباطنة؟؟؟ كلا لما يستأهله، فيختار للنبوة والولاية من تراه حكمته أهلا لها، وهذا ردّ على القائلين بعد أن يكون يتيم بن أبي طالب نبيا والعراة الجوع كصهيب وبلال وخباب وغيرهم أصحابا إليه، دون الأكابر من قريش والصناديد منهم فلا نقبل دعوته ولا نؤمن به، وذكر جل ذكره من في السموات، لإبطال قولهم (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) الآية ٢١ من الفرقان المارّة، وذكر من في الأرض رد لقولهم لولا أكابر قريش وصناديدهم معه «وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ» بالفضائل النفسانية والمزايا المقدسة، وإنزال الكتب السماوية لا بكثرة الأموال والأتباع، فأعطينا إبراهيم الخلة وشرفنا موسى بالتكليم وداود بالفضل وسليمان بالملك وخصصنا كل نبي بخاصة لم نعطها غيره، فخلقنا عيسى من روحنا واتخذنا محمدا حبيبا «وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» ٥٥ فضلناه به لا بالملك والسلطنة وفيه إيذان بأن نبينا خاتم النبيين وأمته خير الأمم إذ أن الزبور تضمن ذلك، وقد أخبر الله عز وجل عن ذلك بقولة (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) الآية ١٠٦ من سورة الأنبياء، يعني محمد وأصحابه وأمته من بعدهم، وهذا من باب التلميح راجع هذه الآية في ج ٢ تجد أن ما جاء في الزبور موافق لما جاء في القرآن، وسنبحث ما يتعلق فيها هناك
إن شاء الله، والزبور كله حكم وأدعية وأمثال لا حكم فيه، وكان عليه السلام يرجع في أحكامه إلى التوراة، وهو كما قيل مائة وخمسون سورة، وسيدنا داود عليه السلام أول نبي جمع بين الملك والنبوة في بني إسرائيل كما تقدم في الآية ١٥ من سورة النمل المارة، ففضله الله تعالى بالتوراة والزبور والملك وما منحه في الآيات ١٠ فما بعدها من سورة سبأ في ج ٢، ولم تجمع لمن قبله ولم تكن لنبيّ بعده، وفي هذه الآية تكذيب لليهود والقائلين لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة ونظير هذه الآية الآية ١٥٣ من سورة البقرة في ج ٣، هذا وكما هو ثابت ارتفاع بعض النبيين على بعض وعلو درجاتهم ومن تبعهم فمن يليهم ثابت أيضا اتضاع دركات الكافرين فمن دونهم من العصاة لانهما مظاهر صفتي اللطف والقهر هذا ولما أصاب أهل مكة القحط وأكلوا الجيف والكلاب جاءوا فاستغاثوا بحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله عليه «قُلِ» يا سيد الرسل لهؤلاء الكفرة «ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ» أنهم آلهة «مِنْ دُونِهِ» أي الإله الواحد ليكشفوا ما حل بكم من الجدب وأتى لهم ذلك «فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ» لانهم عاجزون مثلكم عن كشف ضر أنفسهم فكيف يستطيعون إزالة ضركم كلا «وَلا» يستطيعون «تَحْوِيلًا» ٥٦ لحالكم من العسر إلى اليسر، ومن الشر إلى الخير، ومن المرض إلى الصحة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن العذاب إلى النعيم، وهذه الآية المدنية قال تعالى «أُولئِكَ» إشارة إلى ما يسمونه آلهة ويرجونه لكشف ضرهم ويستعينون بهم لزيادة خيرهم «الَّذِينَ يَدْعُونَ» صيغة لإسم الإشارة الواقع مبتدأ من حيث الإعراب وخبره «يَبْتَغُونَ» بتلك الآلهة التي يعبدونها الكفرة «إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» يسألون ربهم ومالك أمرهم القربة بالطاعة والعبادة وهذا دليل قاطع على أن الذين يعبدون غير الله يعرفون بأن ما يعبدونهم محتاجون إلى الله وأن قدرتهم المزعومة مفاضة منه تعالى لانهم لا ينكرون أنها مخلوقة لله وأن الله تعالى أقوى وأكمل منها مما يدل على بطلانها قال تعالى (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) الآية ٣ من سورة الزمر وقال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) الآية ٨٧ من الزخرف في ج ٢، ومثلها كثير في القرآن وهذا كاف على افحامهم وعجز
صفحة رقم 515
آلهتهم وعلى اعترافهم بأنها مخلوقة لله. واعلم أنه إذا صرف معنى الآية لكفار قريش فيراد
بالذين يزعمون من دونه الملائكة والأوثان فقط وإذا صرف معناها للعموم يدخل فيها عزير وعيسى والكواكب والنار والحيوان من كل ما عبد من دون الله ولهذا قالوا إن ضمير يدعو وضمير يبتغون عائدان للمشار إليهم وهم الأنبياء الذين عبدوا من دون الله كعيسى وعزير والملائكة ويدخل ضمنهم الشمس والقمر والنجوم والنار والحيوان والتماثيل وغيرها من كل ما يطلق عليه اسم الوثن وما اتخذوه تقربا للعبادة بأن كل أولئك ليست بأهل للعبادة مباشرة وتبعا وأن زعمهم ذلك فيها باطل وفي الآية تغليب العاقل على غيره لأن الجمع في يدعون ويبتغون من خصائص العقلاء لا الجمادات «أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» أيهم هنا بدل من ويبتغون وهي موصولة بمعنى من أي أولئك المعبودون يطلبون من هو لحصرة ربه أقرب من غيره الوسيلة إلى الله فيتوسون به لقضاء مصالحهم أو أيّهم الذكر هو أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله بطاعته، فكيف بالأبعد فهو بحاجة إلى ذلك من باب أولى. وأيّ مبتدأ مبني على الضم في محل رفع مضاف للضمير، والميم علامة الجمع، وأقرب خبر، والعائد محذوف تقديره هو، وبعضهم جعلها معربة وفيها معنى الاستفهام أي أيهم هو أقرب بالتقوى والصلاح والرضى وازدياد الخير. وأعلم أن يدعون تأتي بمعنى يعبدون كما مر في الآية ٤٩ من سورة مريم المارّة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ٣٥ من المائدة وفي الآية ١٣ من سورة التوبة في ج ٣، وهناك بحث يتعلق بالسّادة الصوفية بشأن الرابطة التي يتخذونها في بدء أورادهم «وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ» تعالى وخيره وإحسانه وهذا عطف على يبتغون والرجاء بمعنى التوقع «وَيَخافُونَ عَذابَهُ» كغيرهم من العباد بل أعظم وجلا منهم، لأن العبد كلما رسخ قدمه في العبادة وتقرب إلى المعبود ازداد خوفه بسبب ازدياد معرفته به، وقدم الرجاء على الخوف، لأن متعلقه أسبق من متعلقه.
مطلب الخوف والرّجاء وأنواع العبادة:
جاء في الحديث القدسي سبقت رحمتي غضبي. لهذا فإن العلماء قالوا ينبغي للمؤمن أن يغلّب الخوف على الرجاء ما لم يحضره الموت، فإذا حضره غلّب الرّجاء على
الخوف، وفي الآية دليل على أن رجاء الرّحمة وخوف العذاب مما لا يخلّ بكمال العابد، وقد شاع عن بعض العابدين أنه قال لست أعبد الله تعالى رجاء جنّته ولا خوفا من ناره. والناس بين قادح لمن يقول ذلك ومادح، والحق التفصيل، وهو أن من قال هذا إظهارا للاستغناء عن فضل الله ورحمته فهو مخطئ كافر، ومن قاله اعتقادا بأن الله تعالى أهل للعبادة لذاته بحيث لو لم يكن هناك جنّة ولا نار لكان أهلا لأن يعبد فهو محقق عارف كامل. والعبادات ثلاث عبادة للرياء والسمعة فهي مخادعة داخل أهلها في قوله تعالى (يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية ٩ من سورة البقرة ج ٣، وعبادة للخوف والرجاء فهي مسقطة للفرض وبالدرجة الثانية الوسطى، فإذا لم يقصد منها الاستغناء فهي داخلة في معنى الآية المفسرة وإلا فهي الوسطى في نار جهنم، وعبادة خلاصة لله تعالى بقصد الاستحقاق لذاته وصرف النظر عن الخوف والرجاء فهي العبادة الحقيقية الموصلة إلى الله عز وجل الموصوف أهلها بقوله تعالى (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) الآية ١٩٠ من آل عمران في ج ٣، وفي اتحاد أسلوب الجملتين إيماء إلى تساوي رجاء أولئك الطالبين الوسيلة إليه تعالى بالطاعة والعبادة وحذرهم منه «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً» ٥٧ يخافه كل أحد من ملك ومملوك ومن ملك وولي مقرب أو نبي مرسل، فضلا عن بقية الخلائق، وجدير بأن يحذره ويحترز منه كل أحد، وهذه الجملة تعليل لقوله تعالى ويخافون إلخ، وفي تخصيصها بالتعليل زيادة تحذير الكفرة من العذاب.
انتهت الآية المدنية. قال تعالى «وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ» من القرى والتنوين هنا يفيد التعميم، لأن إذ نافية بمعنى ما، ومن صلة مؤكدة لاستغراق النفي، فتفيد العموم أيضا «إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها» بإبادة أهلها وتخريبها بعدهم أو هدمها عليهم أو قلبها بهم أو بسبب آخر، ويكون هذا «قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ» عند النفخة الأولى قال تعالى (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) الآيات من سورة الحاقة في ج ٢ لأن القيامة لا تقوم إلا بعد إتلاف هذا الكون بما فيه «أَوْ مُعَذِّبُوها» أي أهلها بالقتل وأنواع البلاء «عَذاباً شَدِيداً» لا تقواه قوى أهلها ولا يقدرون على رفعه عنهم
«كانَ ذلِكَ» الإهلاك والتعذيب «فِي الْكِتابِ» الأزلي المدون فيه ما كان وما يكون من بدء الخليقة إلى يوم القيامة وما بعدها من أقوال أهل الجنة والنار وخلودهما «مَسْطُوراً» ٥٨ في اللوح المحفوظ مثبتا، وهو واقع لا محيد عنه لأحد إذ لا شيء في الكون إلا وهو مدون فيه بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له ومكانه الواقع فيه، قال تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية ٣٩ من الأنعام في ج ٢. أخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له أكتب فقال ما أكتب؟ قال أكتب القدر وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى الأبد. وقال عبد الله بن مسعود إذا ظهر الزنى والرّبى في قرية أذن الله تعالى في إهلاكها. قال مقاتل الهلاك للفرقة الصالحة والعذاب للطالحة. قال تعالى «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ» التي اقترحها عليك قومك «إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ» من قبلهم من الأمم السالفة التي اقترحت على أنبيائها مثل ما اقترحوه عليك قال ابن عباس سأل أهل مكة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وفضة وأن ينحي الجبال عنهم ليزرعوا مكانها فأوحى الله إليه إن شئت أن أستأني بهم فعلت وإن شئت أوتيهم ما سألوا فعلت فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم، فقال صلّى الله عليه وسلم لا بل تستأني بهم، فأنزل الله هذه الآية «وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ» التي اقترحوها على نبيهم صالح عليه السلام بأن يخرجها لهم من حجر معين راجع قصتها في الآية ٧٩ من سورة الأعراف المارة وهي آية عظيمة كانت أعينهم «مُبْصِرَةً» لها ظاهرة بينة «فَظَلَمُوا» أنفسهم «بِهَا» بقتلها وجحودها، وإنما خص ثمود بالذكر لأنهم عرب مثل قوم محمد صلّى الله عليه وسلم، ولأن الصادر من قريش والوارد منهم يرى آثار ديارهم خاوية خالية لقربها منها، وإنهم لم يؤمنوا بعد إظهارها على يد رسولهم فأهلكهم، إذ جرت عادة الله واقتضت حكمته أن كل قوم اقترحوا على رسولهم معجزة فأوتوها ولم يؤمنوا أهلكهم عن آخرهم، وفي هذه الآية الإيجاز بالحذف والإضمار، لأن المعنى وآتينا ثمود الناقة آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها، وقيل إن مبصرة وصف للناقة، وإنما وصفها بالإبصار لأنها خلقت من الصخرة معجزة لنبيهم دفعا لما
صفحة رقم 518
يتوهم بأنها من المصورات، لأن فن التصوير لم يبلغ أن يكون للمصور أعينا يبصر بها كسائر الحيوانات، لأن البشر عاجز عن ذلك، أما اللون والشكل والحركة حتى النطق المحدود الذي يولجوه بها فقط فإنهم توصلوا لعمل ذلك بواسطة الآلات المحدثة، ولكن الإبصار لم يتوصلوا إليه ولن يتوصلوا لمعرفة مادته إلى الآن، ولم يقفوا على تراكيبها، فبقيت القوة الباصرة بالأعين مخزونة بأمر الله لم يطلع عليها أحد البتة، وما ندري ما يقع بعد:
وما تدري إذا ما الليل ولىّ... بأي عجيبة يلد النهار
قال تعالى «وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ» المقترحة ونظهرها للأمم «إِلَّا تَخْوِيفاً» ٥٩ من نزول العذاب عليهم، ولذلك لم نجب اقتراح قومك بإرسال الآيات التي اقترحوها لأنا نعلم أن مصير المقترحين الهلاك وهو خلاف ما تريده أنت. أخرج بن جوير عن قتادة قال إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبرون أو يذكرون فيرجعون عن غيهم.
مطلب الآيات على ثلاثة أنواع وبيان الخمرة الملعونة:
وليعلم أن آيات الله تعالى على ثلاثة أقسام، قسم عام في كل شيء:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
وهنا فكرة العلماء وقسم معتاد كالبرق والرعد والخسوف والزلازل وفيها فكرة الجهلاء، وقسم خارق للعادة وهو نوعان نوع مقرون بالتحدّي وقد انقضى بانقضاء النبوة، وقسم غير مقرون به وهو الكرامة التي يظهرها الله تعالى على يد من شاء من عباده العارفين العاملين، وهناك فكرة الأولياء، والمعنى أنا تركنا إرسال الآيات لسبق مشيئتنا بتأخير العذاب عنهم لحكم نعلمها، قال تعالى «إِذْ قُلْنا لَكَ» يا أكرم الرسل «إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ» فلا يستطيع أحد الخروج عن مشيئته ولا يفعل شيئا دون إرادته وإن كل ما يقع في هذا الكون بقضائه وقدره، وإذ هنا منصوبة بفعل مقدّر أي اذكر يا محمد لقومك ما أوحيناه إليك من ذلك وأعلمناك أن الخلق كلهم في قبضتنا وإرادتهم من إرادتنا، فلا تبال بما تراه من كفرهم، وامض لأمرك وبلّغ ما أرسلت به ولا تخشهم، فالله حافظك ومانعك
منهم ومقويك وناصرك عليهم «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ» ليلة الإسراء والمعراج من عجائب الآيات وبدائع المعجزات «إِلَّا فِتْنَةً» اختبارا وامتحانا «لِلنَّاسِ» إذ ارتد بعض المؤمنين عند سماعها، وأجمع كفرة قريش على جحودها فكذبها أناس وتعجب آخرون، وصدق بها المؤمن الموقن وازداد المخلص إيمانا والكافر كفرا، فكانت فتنة للفريقين، واختلف المسلمون في المعراج أيضا على أقوال بسطناها آنفا في الآية الأولى من هذه السورة، وفي المعجزة الثالثة والثلاثين المارة وما بعدها، فراجعها إن شئت. أخرج الترمذي والنسائي وغيرهما عن ابن عباس أن الرؤيا هي ما عاينه حضرة الرسول ليلة أسري به من العجائب الأرضية والسماوية رؤية عين، وهي على اللغة الفصحى، إذ تقول العرب رأيت بعيني رؤية ورؤيا، وهذا هو قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريح وغيرهم، وإنما عبر بالرؤيا دون الرؤية لمشاكلة تسميتهم لها رؤيا، أو جار على زعمهم كتسمية الأصنام آلهة، فقد روي أن بعضهم قال له صلّى الله عليه وسلم لما قص عليهم الإسراء لعله شيء رأيته في منامك يا رسول الله، أو على التشبيه بالرؤيا لما فيها من العجائب، ولوقوعها ليلا، أو لسرعتها، أي وما جعلنا الرؤيا التي أرينا كها عيانا مع كونها آية عظيمة وأيّة آية، وقد ذكرتها لقومك وأقمت البرهان على صحتها بما اختبرك به قومك عن عيرهم، كما ذكر في المعجزة الثامنة والستين فما بعدها المارة إلا فتنة افتتن بها الناس من تكذيب وتصديق وتهويل وإعجاب «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها شجرة الزقوم. وروي عنه أيضا أن المراد بها لعن طاعميها من الكفرة، ووصفها باللعن من المجاز في الإسناد، وفيه من المبالغة ما فيه. وقد يراد لعنها نفسها بالمعنى اللغوي وهو البعد، لأنها في أبعد مكان من جهنم، قال تعالى (تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) بعد أن قال (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) الآيتين ٦٣ و ٦٤ من سورة الصافات في ج ٢، أي في أبعد مكان من رحمة الله تعالى، وقد لعنت إذ لعن آكلوها، وإلا فلا ذنب لها حتى تلعن، ولكن المصاحبة لها دخل:
ما ضرّ بالشمع إلا صحبة الفتل. ولهذا قيل الصاحب ساحب:
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه | فكل قرين بالمقارن يقتدي |
آية تجاوزوا الحد بالإنكار والتكذيب، ولذلك فإنا لو أرسلنا إليهم ما اقترحوه على يد رسولهم لفعلوا به ما فعله من قبلهم أمثاله بأمثاله ولفعلنا بهم أيضا ما فعلناه بأمثالهم من عذاب الاستئصال، ولكن سبقت كلمتنا بتأخير العقوبة العظمى إلى الطامّة الكبرى واعلم أن هذا الكلام مسوق لتسلية حضرة الرسول عما عسى أن يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات المقترحة لمخافتها للحكمة من نوع حزن وكآبة من طعن الكفرة، إذ كانوا يجابهونه بقولهم لو كنت نبيا أو رسولا حقا لأتيت بما نطلبه منك من المعجزات كالأنبياء قبلك، إذ جاءوا أقوامهم بما طلبوه منهم، ولكنك لست برسول، ولهذا لم تقدر أن تأتينا بشيء من ذلك، وهذا أصح ما جاء في تفسير هذه الآية وسبب نزولها، وما قيل أن المراد بالإحاطة هنا الإهلاك على حد قوله تعالى (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) الآية ٤٢ من سورة الكهف في ج ٢، وأنه هو الواقع يوم بدر، وأن التعبير بالماضي جاء على حد قوله تعالى (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) الآية ٤٣ من سورة القمر المارة، وقوله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ) الآية ١٣ من آل عمران ج ٣ وغيرهما من الآيات لتحقق الوقوع، وأن المراد بالرؤيا هو ما رواه صلّى الله عليه وسلم في المنام من مواقع مصارع القتلى من قريش، لما صح أنه صلّى الله عليه وسلم لمّا ورد ماء بدر كان يقول والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يضع يده الشريفة على الأرض هاهنا هاهنا ويقول: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وإن قريشا سمعت بما أوحى الله إلى نبيهم بشأن بدر وما أري في منامه، فكانوا يضحكون ويسخرون، وهذا هو معنى الفتنة المرادة في هذه الآية، راجع الآية ٧٨ من الأنفال في ج ٣، وسمعت أيضا بما رواه مناما أنه سيدخل مكة وأنه أخبر أصحابه فتوجه إليها، وصده المشركون عام الحديبية حتى قال عمر:
يا أبا بكر أما أخبرنا رسول الله أنا ندخل البيت ونطوف فيه؟ فقال إنه لم يقل في هذه السنة، وقد صدق الله ودخلوها في القابلة، فكل هذا لا يكاد يصح شيء مه، لأن هذه كلها وقعت ورسول الله في المدينة، وهذه الآية مكيّة إجماعا وهو مخالف لظاهر الآية المفسرة لذلك فلا يعول عليه، وأن الاعتذار عن كون هذا مدنيا بأنه يجوز أن يكون الوحي بالإهلاك وبالرؤيا واقعا في مكة، وذكر الرؤيا
وتعين مصارع القوم واقعين في المدينة، لا وجه له أيضا إذ يلزم منه أن يكون الافتتان واقعا بالمدينة أيضا، وأن ازديادهم طغيانا متوقع عند نزول الآية لا واقع وهو خلاف الواقع وبعيد عن المعنى، ومباين لسياق الآية، ومناف لسياق التنزيل، وكذلك ما أخرجه ابن جرير عن سهيل بن سعد قال رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكا حتى مات عليه الصلاة والسلام وأنزل الله هذه الآية المفسرة، وما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عباس عن سعيد بن المسيب قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني أمية على المنابر فساءه ذلك، فأوحي الله تعالى إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرّت عينه، وذلك قوله تعالى (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا) إلخ وما أخرجه ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء واهتم عليه الصلاة والسلام لذلك، فأنزل الله هذه الآية المفسرة وما أخرج عن ابن عمران أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أريت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة، وأنزل الله تعالى ذلك أي الآية المفسرة والشجرة الملعونة (الحكم وولده) وقال بعض المفسرين هي بنو أمية، وما أخرج بن مردويه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن، وعليه يكون الكلام على حذف مضاف أي وما جعلنا تعبير الرؤيا أو الرؤيا مجازا عن تعبيرها، ويكون معنى الإحاطة في هذه الآية إحاطة أقداره تعالى بهم، ومعنى الفتنة جعل ذلك بلاء لهم، ولعنهم بما صدر منهم ومن خلفائهم من استباحة الدماء المعصومة والفروع المحصنة ومنع الحقوق وأخذ الأموال بغير حق وتبديل الأحكام والحكم بغير ما أنزل الله إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تنسى ما دامت الليالي والأيام لأنهم فعلوا ما فعلوا وعدلوا عن سنن الحق وما عدلوا وإن لعنهم هذا إما على الخصوص كما زعمته الشيعة أو على العموم كما تقول أهل السنة والجماعة، فقد قال سبحانه وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الآية ١٣ من سورة الأحزاب في ج ٣، وقال عز وجل (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ
صفحة رقم 523
أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ)
الآيات ٢٢ فما بعدها من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم في ج ٣، ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أولياء إلا أنه لا يجوز عند أهل السنة والجماعة أن يلعن واحد بخصوصه إذ صرحوا أنه لا يجوز لعن كافر بعينه ما لم يتحقق موته على الكفر كفرعون ونمرود فكيف من ليس بكافر، وأما ما جاء بحديث الصحيحين إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح. الذي احتج به السراج البلقيني على جواز لعن العاصي بعينه فقد قال ابنه الجلال بحثت مع والدي في ذلك باحتمال أن يكون لعن الملائكة لها بالعموم بأن يقولوا لعن الله تعالى من باتت مهاجرة فراش زوجها، على أنه استدل على ما يقوله بخبر مسلم أنه صلّى الله عليه وسلم مرّ بحمار وسم بوجهه، فقال لعن الله تعالى من فعل هذا، لكان أظهر إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معيّن على أنه لا مانع من تأويله أيضا بأن يراد فاعل الجنس ذلك الوسم، والمغضبة لزوجها على العموم، راجع ما بيناه في الآية ٤٢ من سورة القصص المارة، وعليه فلا دلالة صريحة لا تقبل التأويل في هذين الحديثين لأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أو التأويل أفقده قوة
الاحتجاج في الاستدلال، وهذه قاعدة أصولية لا طعن فيها. نعم صح أنه صلّى الله عليه وسلم قال اللهم العن رعلا. وذكوان وعصيه عصوا الله ورسوله، وهذا فيه لعن أقوام بأعينهم، إلا أنه يجوز أنه صلّى الله عليه وسلم علم بإلهام الله إياه، موتهم على الكفر فلعنهم، وهذا جائز كما تقدم، وإذا كان كذلك فلا حجة فيه للسبب المذكور أيضا، ولأنه بأقوام لا لشخص بعينه، ولا يخفى أن تفسير الآية لا ينطبق على ما ذكر ولا يلاثم المعنى المسوقة له الآية، ولم يكن شيء من ذلك كله زمن نزولها، وان بين نزولها وبين هذه الحوادث سنين كثيرة أما الأحاديث الواردة المذكورة آنفا في بني أمية وبني الحكم فيحتمل أنها صحيحة لكن لا علاقة لها في الآية المفسرة المتعلقة بالإسراء خاصة، وتلك بحوادث أخرى ولا مانع من أنه صلّى الله عليه وسلم رأى ما قاله فيهم رؤيا منامية أو بطريق الكشف، لكن غير هذه الرؤيا المقصودة هنا في هذه السورة، وكذلك لا يتجه قول من قال إن الشجرة الملعونة أبو جهل والفتنة وجوده بلاء على المسلمين، لأنه أيضا خلاف الظاهر