
مَحْرُومِينَ عَنِ السَّعَادَاتِ الْأَبَدِيَّةِ وَالْخَيْرَاتِ السَّرْمَدِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أَيْ لَا تُشَدِّدِ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ وَلَا تُغْلِظْ لَهُمْ فِي الْقَوْلِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ: إِظْهَارُ اللِّينِ وَالرِّفْقِ لَهُمْ عِنْدَ الدَّعْوَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ وَيُفِيدُ حُصُولَ الْمَقْصُودِ.
ثُمَّ قَالَ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ قال بعده: رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِمَعْنَى أَنَّ عِلْمَهُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَى أَحْوَالِكُمْ بَلْ عِلْمُهُ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَمُتَعَلِّقٌ بجميع ذوات الأرضين والسموات فَيَعْلَمُ حَالَ كُلِّ وَاحِدٍ وَيَعْلَمُ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ فَضَّلَ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَى مُوسَى التَّوْرَاةَ وَدَاوُدَ الزَّبُورَ وَعِيسَى الْإِنْجِيلَ، فَلَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا أَنْ يُؤْتِيَ مُحَمَّدًا الْقُرْآنَ وَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُفَضِّلَهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا السَّبَبُ فِي تَخْصِيصِ دَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِالذِّكْرِ؟
قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ.
ثُمَّ قَالَ: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً يَعْنِي أَنَّ دَاوُدَ كَانَ مَلِكًا عَظِيمًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ مَا آتَاهُ مِنَ الْمُلْكِ وَذَكَرَ مَا آتَاهُ مِنَ الْكِتَابِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ التَّفْضِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، الْمُرَادُ مِنْهُ التَّفْضِيلُ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ لَا بِالْمَالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ السَّبَبَ فِي تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ أَنَّهُ تَعَالَى كَتَبَ فِي الزَّبُورِ أَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَأَنَّ أُمَّتَهُ خَيْرُ الْأُمَمِ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٥] وَهْمُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: هل عرف كما في فقوله: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ.
قلنا: التنكير هاهنا يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ حَالِهِ، لِأَنَّ الزَّبُورَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَزْبُورِ فَكَانَ مَعْنَاهُ الْكِتَابَ فَكَانَ مَعْنَى التَّنْكِيرِ أَنَّهُ كَامِلٌ فِي كَوْنِهِ كِتَابًا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ مَا كَانُوا أَهْلَ نَظَرٍ وَجَدَلٍ بَلْ كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَى الْيَهُودِ فِي اسْتِخْرَاجِ الشُّبُهَاتِ وَالْيَهُودُ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَ مُوسَى وَلَا كِتَابَ بَعْدَ التَّوْرَاةِ فَنَقَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ كَلَامَهُمْ بِإِنْزَالِ الزَّبُورِ عَلَى دَاوُدَ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ: زُبُورًا بِضَمِّ الزَّايِ، وَذَكَرْنَا وَجْهَ ذَلِكَ في آخر سورة [النساء: ١٦٣].
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧)
اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لَيْسَ لَنَا أَهْلِيَّةَ

أَنْ نَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَحْنُ نَعْبُدُ بَعْضَ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا لِذَلِكَ الْمَلَكِ الَّذِي عَبَدُوهُ تِمْثَالًا وَصُورَةً وَاشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَاللَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأَصْنَامَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَتِهِمْ: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ وَابْتِغَاءُ الْوَسِيلَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَلِيقُ بِالْأَصْنَامِ الْبَتَّةَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ فَأَسْلَمَ النَّفَرُ مِنَ الْجِنِّ، وَبَقِيَ أُولَئِكَ النَّاسُ مُتَمَسِّكِينَ بِعِبَادَتِهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَوْضِعٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَدَ فِيهِ لَفْظُ زَعَمَ فَهُوَ كَذَبَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْإِلَهَ الْمَعْبُودَ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ الضَّرَرِ، وَإِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ والجن والمسيح وعزيز لَا يَقْدِرُونَ عَلَى كَشْفِ الضُّرِّ وَلَا عَلَى تَحْصِيلِ النَّفْعِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ آلِهَةً.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الدَّلِيلُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا دَلَّلْتُمْ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى كَشْفِ الضُّرِّ وَلَا عَلَى تَحْصِيلِ النَّفْعِ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ حَتَّى يَتِمَّ دَلِيلُكُمْ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: لِأَنَّا نَرَى أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ كَانُوا يَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهَا فَلَا تَحْصُلُ الْإِجَابَةُ.
قُلْنَا: مُعَارَضَةً لِذَلِكَ قَدْ نَرَى أَيْضًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَحْصُلُ الْإِجَابَةُ، وَالْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْقَدْرَ الْحَاصِلَ مِنْ كَشْفِ الضُّرِّ وَتَحْصِيلِ النَّفْعِ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَأُولَئِكَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ إِنَّهُ يَحْصُلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالدَّلِيلُ غَيْرُ تَامٍّ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الدَّلِيلَ تَامٌّ كَامِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ/ عِبَادُ اللَّهِ وَخَالِقُ الْمَلَائِكَةِ، وَخَالِقُ الْعَالَمِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَقْدَرَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَأَقْوَى مِنْهُمْ، وَأَكْمَلَ حَالًا مِنْهُمْ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَمَالُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْلُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَكَمَالُ قُدْرَةِ الْمَلَائِكَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، بَلِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَنَّ قُدْرَتَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَلِيلَةٌ حَقِيرَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ كَوْنَ اللَّهِ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ مَعْلُومٌ، وَكَوْنَ الْمَلَائِكَةِ كَذَلِكَ مَجْهُولٌ وَالْأَخْذُ بِالْمَعْلُومِ أَوْلَى، وَأَمَّا أَصْحَابُنَا الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَلَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى وهو أنهم يقيمون الحجة الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا مُوجِدَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا مُخْرِجَ لِشَيْءٍ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا ضَارَّ وَلَا نَافِعَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ لَا تَتِمُّ لِلْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَوَّزُوا كَوْنَ الْعَبْدِ مُوجِدًا لِأَفْعَالِهِ امْتَنَعَ عَلَيْهِمُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَخَلْقِ الْجِسْمِ. وَإِذَا عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ لَهُمْ هَذَا الدَّلِيلُ فَهَذَا هُوَ ذِكْرُ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ: فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا وَالتَّحْوِيلُ عِبَارَةٌ عَنِ النَّقْلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَمَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ يُقَالُ: حَوَّلَهُ فَتَحَوَّلَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ قَوْلُهُ: