
الشيطان بحيث يوسوس إليهم ويدعوهم إلى أشياء يظنون أن ذلك خير لهم، وأبدًا يلقي إليهم ما يقع عندهم أن ذلك أنفع لهم ويحبب إلى كل مذهبًا يقع عنده هو الحق؛ فيقع بذلك الإفساد وإبقاء العداوة بينهم أبدًا هذا دأبه وشأنه يجبر كلا إلى جهة، ويري كل أحد جهة غير الجهة التي أرى الآخر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (٥٤)
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: (أَعْلَمُ بِكُمْ): بمصالحكم، وما لا يصلح لكم في الدُّنيَا والآخرة.
والثاني: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ): بما تسرون وما تعلنون، وما تعلمون وتفعلون، وإلا: لا شك أنه أعلم بنا منا.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن يشأ يرحمكم فينجيكم من أذى هَؤُلَاءِ، أو إن يشأ يعذبكم فيسقطهم عليكم.
والثاني: إن يشا يرحمكم، فيهديكم إلى دينه، ويوفقكم لسبيله، أو إن يشأ، يترككم ويخذلكم، ولا يهديكم إلى سبيله، ولا يوفقكم لدينه.
وقوله: (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ): يحتمل الرحمة في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا: هو أن يوفقهم على الطاعة، ويعينهم على ذلك وفي الآخرة: ينجيهم ويدخلهم الجنة. وأما التعذيب في الدنيا: أن يخذلهم ويتركهم على ما يختارون، وفي الآخرة يعذبهم في النار بالذي اختاروا في الدُّنيَا.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لم نجعلك حفيطا على ردهم وإجابتهم وعلى صنيعهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وكيلا، أي: ثقيلا بأعمالهم، أي: لا تؤخذ أنت بصنيعهم؛ كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، وكقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)، أي: مسلطًا عليهم وقاهرًا لهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (٥٥)

يحتمل ما ذكرنا: أنه أعلم بمصالحهم ومفاسدهم، وما يسرون وما يعلنون، ويحتمل غير هذا؛ جوابًا لقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، وقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
يقول - واللَّه أعلم - (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، أي: أعلم بمن يصلح للنبوة والرسالة، وبمن لا يصلح، ومن هو أهل لها أومن ليس بأهل لها.
أو يقول: أعلم بمن في السماوات والأرض، أي: عن علم بما يكون منهم أنشأهم لا عن جهل، أو أعلم بهم من أنفسهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ - (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ).
مثل هذا لا يكون إلا في نازلة، لكنه لم يذكر النازلة التي عندها نزلت، ثم اختلف فيما ذكر من تفضيل بعض على بعض:
قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه أعطى كلًا شيئًا لم يعط غيره؛ من نحو ما ذكر أنه كلَّم موسى، واتخذ إبراهيم خليلًا، وأعطى عيسى إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وهو روح منه وكلمته، وأعطى سليمان ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وأعطى داود زبورًا، وأعطى سيدنا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن بعث إلى الناس كافة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومثله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: فضل بعضًا على بعض في الدرجة والمنزلة والقدر عنده.
فالأول: يكون التفضيل في الآيات والحجج، والثاني: في أنفسهم: في المنزلة والقدر.
ويحتمل ما ذكر من تفضيل بعض على بعض في الآيات والحجج.
ويحتمل في كثرة الأتباع: يفضل بعضهم على بعض بكثرة الأتباع.
والثالث: يفضل بعضهم على بعض في القيام بشكر ما أنعم عليه وصبره على ما ابتلاه به. والرابع: [..... ]
وعلى قول المعتزلة: لا يكون لأحد فضيلة عند اللَّه إلا باستحقاق منه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّّ -: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا).
جميع كتب اللَّه: زبور؛ لأن الزبور هو الكتاب. وقد ذكرنا أنا لا ندري لأية نازلة ذكر هذا، ولا يحتمل ذكر مثله على الابتداء والاستئناف، لكن فيه أن التفضيل والمنزلة إنما يكون من عند اللَّه، ومن عنده يستفاد لا بتدبير من أنفسهم واستحقاق؛ حيث قال: (انْظُرْ