شيء، فهو الواحد القهار الباقي بذاته
، وهذا القول لا يجترىء عليه ذو عقل بل هو خرق لقضايا العقول، وإثم كبير لا يقادر قدره،
قال تعالى «وَلَقَدْ صَرَّفْنا» كررنا وبيّنا، والتصريف أصله صرف الشيء من جهة إلى أخرى، ولكنه استعمل في التّبيين والتكرير على طريق الكناية، لأن من يحاول بيان الشيء يصرف كلامه من نوع إلى آخر لكمال الإيضاح «فِي هذَا الْقُرْآنِ» العظيم من العبر والحكم والأخبار والقصص والأمثال والحجج والآيات والبراهين، «لِيَذَّكَّرُوا» به قومك يا أكمل الرسل فيتعظوا بزواجره ويخبتوا لأوامره لأن هذا التكرار يقتضي الإذعان والركون إلى ما فيه، ولكنهم تمادوا في كفرهم «وَما يَزِيدُهُمْ» ذلك التبيين «إِلَّا نُفُوراً» ٤١ من حقك الذي جئتهم به، وصدودا عن الإيمان الذي تأمرهم به، وجحودا للكتاب الذي أنزل إليهم، وتباعدا عنك وإعراضا، وما ذلك منهم إلا تعكيس في الحق وتماد في الباطل، وقرىء (ليذكروا) بالتخفيف هنا كما قرىء في مثلها في سورة الفرقان المارة الآية ٥٧ من الذكر بمعنى التذكر ضدّ النسيان والغفلة، كما قرىء صرفنا بالتخفيف أيضا وهو مثل صرفنا بالتشديد، إلّا أنه لا يدل على التكثير «قُلْ» يا أكمل الرسل لهؤلاء المشركين في إظهار بطلان ما تفوّهوا به «لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ» بالتاء خطابا لهم وبالياء على الغيبة وكلا القراءتين جائزة هنا لأنه إذا أمر أحد تبليغ الكلام المأمور به لغيره فالمبلغ له في حال تكلم الأمر غائب، ويصير مخاطبا عند التبليغ، فإذا لوحظ الأول كان حقه الغيبة، وإذا لوحظ الثاني كان حقه الخطاب «إِذاً» إذ لو كان مع الله آلهة أخرى تعالى الله عن ذلك «لَابْتَغَوْا» لطلبوا «إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» ٤٢ طريقا لمغالبته وقهره ليزيلوا ملكه كما تفعل ملوك الأرض بعضها ببعض، ولكن ليس معه آلهة قطعا، كيف وهو رب العرش العظيم الإله الجليل الذي لا رب غيره، راجع الآية ٣٣ من سورة الرحمن في ج ٣. وهذه الآية تشير إلى برهان التمانع المذكور في قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) الآية ٢١ من سورة الأنبياء في ج ٢ كما سيأتي تفصيله فيها إن شاء الله. وقال مجاهد وقتادة إن المعنى إذا لطلبوا الزلفى إليه والتقرب لحضرته بالطاعة لعلمهم بعلوّه سبحانه عليهم وعظمته ورفعته،
وهذا كقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) الآية ٥٧ الآتية وهو إشارة إلى قياس اقتراني تقديره لو كان كما زعمتم آلهة لتقربوا إليه تعالى، وكل من كان كذلك ليس إلها فهم ليسوا بآلهة. هذا، وعلى التفسير الأول المشار به إلى برهان التمانع تكون لو امتناعية وعلى الثاني شرطية، والقياس مركب من مقدمتين شرطية اتفاقية وحملية، والوجه الأول أولى في التفسير وأنسب بالمقام.
مطلب تسبيح الأشياء وبعض معجزات الرسول صلّى الله عليه وسلم:
قال تعالى منزها نفسه المنزهة بنفسه «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ» من نسبة آلهة معه أو أولاد وصاحبة وعلا «عُلُوًّا كَبِيراً» ٤٣ لا غاية وراءه، وذكر العلو بعد وصفه سبحانه بذي العرش في أعلى مراتب البلاغة، وهذا مبالغة في البراءة والبعد عمّا وصفوه به لأنه تعالى في قصى غايات الوجود وهو الوجوب الذاتي وما يقولونه في أدنى مراتب العدم وهو الامتناع الذاتي، كيف لا وهو الذي «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ» من الإنس والجن والملائكة والطير والوحش والحيتان والنّبات والجماد بدليل قوله «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ» ولا من ذرّة يطلق عليها اسم الشيء ويمتد عليها ظل الوجود فيهن إلا يسبح بحمده منهم بلسان قاله، ومنهم بلسان حاله، لأن كل شيء يدل بإمكانه وحدوثه دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدته وقدرته وتنزهه من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث، كما يدل الأثر على مؤثره «وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ» أيها الناس وأنتم منهكون في الغي والضلال «تَسْبِيحَهُمْ» لأنكم لا يفهم بعضكم لغات بعض فكيف تفهمون لغات ما هو من غير جنسكم «إِنَّهُ» جلت عظمته «كانَ» ولم يزل بعدم معاجلتكم بالعقوبة عما يصدر منكم من القبائح «حَلِيماً» لا يستفزّه الغضب فيمهل خلقه رحمة بهم ورأفة عليهم «غَفُوراً» ٤٤ كثير المغفرة لعباده الرّاجين عفوه الراجعين إليه، ولولا هاتان الصفتان لأنزل بكم العذاب حالا واستأصلكم به.
وليعلم أن عدم فقه تسبيح الحيوانات وغيرها ناشىء من عدم صقل القلوب من رين الذنوب، وقصور النظر فيما يدل على علام الغيوب، وإلا فقد وردت أحاديث وأخبار لا تقبل التأويل بتسبيح الحصى في كفه صلّى الله عليه وسلم، روى مسلم عن جابر بن
سمرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن بمكة حجرا كان يسلّم علي ليالي بعثت، وإني لأعرفه الآن. وروى البخاري عن ابن عمر قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحوّل إليه فحنّ الجذع فمسح عليه بيده. وأخرج أبو الشيخ عن أنس قال أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بطعام ثريد فقال إن هذا الطعام يسبّح فقالوا يا رسول الله وتفقه تسبيحه؟ قال نعم، ثم قال لرجل أدن هذه القصعة من هذا الرجل، فأدناها، فقال نعم يا رسول الله هذا الطعام يسبّح، فقال أدنها من آخر، فأدناها منه فقال يا رسول الله هذا الطعام يسبّح، ثم ردّها، فقال رجل يا رسول الله لو أمرّت على القوم جميعا، فقال لا لأنها لو سكتت عند رجل لقالوا من ذنب، ردّها، فردّها. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا أصحاب محمد نعدّ الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفا، بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس معنا ماء فقال اطلبوا ممن معه فضل ماء، فأني بماء فوضعه في إناء ثم وضع يده فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، ثم قال حي على الطهور المبارك والبركة من الله تعالى فشربنا منه. قال عبد الله كنا نسمع صوت الماء وتسبيحه وهو يشرب.
وهذا ليس من خصائصه صلّى الله عليه وسلم لأن جل الأنبياء تكلم لهم الحجر، ونبع لهم الماء، وتكلمت لهم الحيوانات والموتى، ووقفت لهم الشمس وكثر لهم القليل من الطعام والشراب، وقلل لهم الكثير من الأعداء، ومن وقف على معجزاتهم وكان موقنا آمن وصدق بهم وبما يقع لأولياء الله من الكرامات الشبيهة بالمعجزات ومن لا فلا، لأنه ختم على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة وعلى قلبه رينا وصدأ حتى لا يسمع ولا يبصر ولا يعي، فلا يؤمن. أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه آمر كما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء. وأخرج أحمد عن معاذ ابن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه مر على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل، فقال لهم اركبوها سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله تعالى منه. وأخرج النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع
وقال نقيقها تسبيح. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال: ظنّ داود عليه السلام في نفسه أن أحدا لم يمدح خالقه بما مدحه، وان ملكا نزل وهو قاعد في المحراب والبركة إلى جانبه، فقال يا داود افهم إلى ما تصوّت به الضفدع، فأنصت داود فإذا الضفدع تمدحه بمدحة لم يمدحه بها أحد، فقال له الملك كيف ترى يا داود أفهمت ما قالت؟ قال نعم، قال ماذا قالت؟ قال قالت سبحانك وبحمدك منتهى علمك يا رب، قال داود لا والذي جعلني نبيه إني لم أمدحه بهذا. وأخرج أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن شهر بن حوشب من حديث طويل أن داود عليه السلام أتى البحر في ساعة فصلى فنادته ضفدعة يا داود إنك حدّثت نفسك أنك سبحت الله في ساعة ليس يذكر الله تعالى فيها غيرك وإني من سبعين ألف ضفدع كلها قائمة على رجل تسبح الله تعالى وتقدسه.
وأخرج الخطيب عن أبي حمزة قال كنا عند علي بن الحسين رضي الله عنهما، فمرّ بنا عصافير يصحن، فقال أتدرون ما تقول هذه العصافير؟ قلنا لا، قال أما اني ما أقول إنا نعلم الغيب، ولكن سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه يقول سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها وسألته قوت يومها، وإن هذه تسبح ربها وتسأله قوت يومها.
وأخرج بن راهويه في مسنده من طريق الزهري قال: أتى أبو بكر الصديق رضي الله عنه بغراب وافر الجناحين، فقال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ما صيد صيد ولا عضدت ولا قطعت وشيجة إلّا بقلة التسبيح عضاة وأخرج أبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن أبي هريرة وأبو الشيخ عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما صيد من صيد ولا وشج من وشيج إلا بتضييعه التسبيح (الوشيج شجر الرماح وعرق كل شجرة، والعضاة الشجر العظيم أو الخمط أو كل ذات شوك أو ما عظم وطال من الأشجار، وعضده بمعنى قطعه، والعضد والعضيد الطريقه من النخل جمعه عضدان كغرابان) وأخرج أبو الشيخ عن الحسن لولا ما غم عليكم من تسبيح ما معكم في البيوت ما تضاررتم. وأخرج ابن أبي حاتم عن لوط بن أبي لوط قال بلغني أن تسبيح سماء الدنيا سبحان ربي الأعلى، والثانية سبحانه وتعالى، والثالثة
سبحانه وبحمده، والرابعة سبحانه لا حول ولا قوة إلا به، والخامسة سبحان محيي الموتى وهو على كل شيء قدير، والسادسة سبحان الملك القدوس، والسابعة سبحان الذي ملأ السموات السبع والأرضين السبع عزّة ووقارا، وأمثال هذا كثير لا يحصى عدا ولا يستقصى حدا، وكلها متعاضدة في الدلالة على أن التسبيح قاليّ بلسان العقلاء، حالىّ بلسان غيرهم، وهو جائز شرعا لأنه من قبيل خرق العادة، حتى أن العارفين قالوا إن السالك عند وصوله إلى بعض المقامات المعلومة عندهم يسمع تسبيح الأشياء بلغات شتى، وقال الشيخ الأكبر قدس سره: إن المسمى بالجماد والنبات له عندنا أرواح بطنت أي خفيت عن إدراك غير الكشف إياها في العادة فالكل عندنا حي ناطق، غير أن هذا المزاج الخاص يسمى إنسانا لا غير بالصورة، ووقع التفاضل بين الخلائق بالمزاج، والكل يسبّح الله تعالى كما نطقت به هذه الآية، ولا يسبح إلا حي عاقل عالم عارف بمسبّحه. هذا وقد جاء في الحديث أن المؤذن يشهد له مدى صوته من رطب ويابس. والشهادة لا تكون إلا بالنطق وهو مختلف كل بحسبه كما علمت، وإن الشرائع والنبوات مشحونة بما هو من هذا القبيل، ونحن زدا مع الإيمان بالأخبار الكشف، إلى آخر ما قاله. ومما يؤيد هذا ما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في دعائه للحمى يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله تعالى فلا تأكلي اللحم ولا تشربي الدم ولا تقدري في الفم وانتقلي إلى من يزعّم أن مع الله آلهة أخرى، فإني أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. وجاء عن السجاد رضي الله عنه في الصحيفة في مخاطبة القمر ما هو ظاهر بأن له شعورا، واستفاض عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى النيل كتابا يخاطبه فيه حينما كتب له عمرو بن العاص بأن أهل مصر جرت عادتهم أن يطرحوا في النيل بنتا يزينونها كالعروس في كل سنة كي يفيض، وأنه أوقف هذه العادة لورود الجواب منه فكتب له أن يمنعهم من هذه العادة السيئة وأرسل ورقة مكتوب فيها، أيها النيل إن كنت تفيض بأمر الله فافعل، وإلا فلا حاجة لنا فيك أو فيما معناه هذا وانه منذ طرحها فيه فاض وخلص أهل مصر من تلك العادة القبيحة ببركة كتاب عمر، وأنه ضرب الأرض بالدرة
صفحة رقم 505
حين تزلزلت وقال لها إني أعدل عليك، فسكنت، وأن نارا كانت تخرج من ضواحي المدينة فأرسل إليها فلم تخرج، وأن الريح أوصل كلامه إلى القادسية حتى سمعه عامله، وهو قوله على المنبر (يا ساربة الجبل) فلما سمع عرف أنه كلام عمر، فصعد الجبل فرأى العدو من ورائه «فوقفه الله تعالى عليه بما يدل على أن الله تعالى سخّر له العناصر الأربعة، فكيف برسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ ولهذا البحث صلة في تفسير الآية ٨٠ من النساء في ج ٣، وقدمنا بعض ما يتعلق فيه في الآية ١٥ من سورة النمل المارة، وذكرنا أن ما من معجزة لنبي إلّا ومثلها لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم فقد جمع عامة فضائلهم، فلا تستكثر أيها القاري على حضرته فهم تسبيح الجماد وغيره، فهو عظيم عند ربه فرق كل البشر وأحسنه:
قال تعالى «وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ» الناطق بالتسبيح والتنزيه وصرت من غاية استغراقك بمعانيه غائبا عن محافظة نفسك «جَعَلْنا» بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على الحكم الخفية «بَيْنَكَ» يا حبيبي «وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» من قومك المشركين منكري البعث المتقدم ذكرهم «حِجاباً مَسْتُوراً» ٤٥ غير مرئي نسترك به بسائق تكفلنا بحفظك وحماينك، وكمل المؤمنين بفهم رموز هذا القرآن، أما أعداؤك الكفرة فإنا تحجبهم عن فهمه والانتفاع فيه، ونمنعهم أن يدركوا ما أنت عليه من الدرجة الرفيعة وجلالة القدر عندنا، لذلك اجترءوا عليك فقالوا ساحر وكاهن ومتعلم وناقل، وإنما اعتدوا على منصبك العظيم بذلك لجهلهم بمقامك الكريم، وحسدا لما أوتيته من الفضل عليهم، قال سعيد بن جبير لما نزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) جاءت امرأة أبي لهب ومعها حجر والنبي صلّى الله عليه وسلم مع أبي بكر فلم تره، فقالت لأبي بكر أين صاحبك لقد بلغني أنه هجاني، فقال لها أبو بكر والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله، ولم يقل لها ها هو معي أو غير ذلك، وهو جواب على خلاف السؤال مثله في قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) الآية ٨٩ من البقرة ومثله كثير في ج ٣. فرجعت وهي تقول قد كنت جئت بهذا الحجر لأرضخ
فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خمير؟؟؟ خلق الله كلهم دع ما ادعته النصارى في نبيهم وأحكم بما شئت فيه مدحا فيه واحتكم
رأسه، فقال أبو بكر لرسول الله ما رأتك، قال لم يزل ملك بيني وبينها. راجع سورة المسد المارة تجد ما هو أوضح من هذا، واحتج أصحابنا في هذه الآية على أنه يجوز أن تكون الحاسّة سليمة ويكون المرئي حاضرا لا يرى بسبب أن الله تعالى يخلق فيها مانعا يمنع من الرؤية، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان حاضرا وحاسة هذه المرأة سليمة ولكنها لم تره، وقد أخبر الله تعالى أن عدم الرؤية للحجاب المستور الذي جعله بينه وبينها، ولا معنى للحجاب المستور إلا الذي يخلقه الله في عيون الرائي ما يمنعه من الرؤية وهو حاضر، وإذا كان الله تعالى جعل الحجاب الذي هو حائل غير مرئي، فكيف بالمحجوب؟ على أن كثيرا من الأشياء موجودة حسا غير مرثية كحركة الظلّ وفلكة المغزل، والمروحة عند شدة حركتها، راجع الآية ٩٥ من سورة الفرقان المارة، ولكن هذا غير ذلك «وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً» أغطية كثيرة جمع كنان بمعنى الغشاء «أَنْ يَفْقَهُوهُ» لئلا يقفوا على كنه معانية ويعرفوا حقيقة مبانيه أي أنا منعناهم عن فهمه «وَ» جعلنا «فِي آذانِهِمْ وَقْراً» ثقلا وصمما عظيما مانعا من سماعه سماعا يليق به لسابق علمنا أنهم لن ينتفعوا به وبمن أنزله، وذلك لأنهم لا يلقون له بالا ولا يتدبرون المراد منه، وهذه التمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشئون المنزل عليه وفرط نبوّ قلوبهم عن فهم القرآن وإيذان بأن ما تضمّنه القرآن من التسبيح في غاية الظهور، بحيث لا يتصور عدم فهمه إلا لمانع قوى يعتري المشاعر فيبطلها، وتنبيه على أن حالتهم هذه أقبح من حالتهم السابقة، ولهذا جعل الله هذا المانع في عين حمالة الحطب لئلا يجعل أذاها لحضرة الرسول تنفيذا لوعده له بالحفظ من أذى قومه «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ» بأن قلت لا إله إلا الله ولم تقرنه بذكر آلهتهم التي يزعمونها، وكلمة وحده اسم موضوع موضع المصدر أي إذا أقررت ربك بالذكر «وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» ٤٦ من سماع ذكر انفراد الإله الواحد وهربوا هروبا كراهية ذلك وما قيل ان الضمير في (ولّوا) يعود إلى الشياطين لا يصحّ، لعدم سبق ذكر لها بل يعود للمشركين السابق ذكرهم، فجعله يعود إلى غيرهم مخالف لسياق الكلام، وما جاء عن ابن عباس من الخبر في هذا لا يصح ونظير هذه الآية
صفحة رقم 507
الآية ٤٦ من سورة الزّمر في ج ٢، قال تعالى «نَحْنُ أَعْلَمُ» يا حبيبنا «بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ» من اللغو والاستخفاف والهزؤ بك وبكتابك والتكذيب لك وله «إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ» وهذا تأكيد الوعيد بالإخبار بأنه كما يقع الاستماع منهم يتعلق به علم الله «وَإِذْ هُمْ نَجْوى» يتسارون بينهم بأن ما يسمعونه منك سحر وكهانة وأساطير الأولين، وانك ساحر وكاهن أو مجنون أو تعلمته من الغير أو اختلفته من نفسك ثم يتجاهرون به فيقول بعضهم لبعض ما ذكره الله يقول «إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ» أقيم المضمر مقام المظهر عنا مع وصفهم بالظلم للدلالة على أن تناجيهم هذا باب عظيم
من أبوابه «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» ٤٧ يا سادة قريش أي إذا كنتم تريدون الاتباع فرضا ما تتبعون إلا رجلا سحر فجنّ وكانوا يعتقدون أن ذلك بتأثير السحر وهو معروف عندهم، لأن الشرائع السابقة جاءت به، وقد عرفوه من أهل الكتاب ووجوده حق عند اهل السنّة والجماعة، وانهم يريدون بأنه صلّى الله عليه وسلم سحر فصار مطبوبا مخدوعا يأكل ويشرب مثلكم، ويريد أن يتفضل عليكم بما يتلوه من ذلك السحر من غير أن يمتاز عليكم بشيء. روي أنه صلّى الله عليه وسلم كان حين يريد إبلاغ قومه ما أنزل عليه من كلام ربه يقوم عن يمينه رجلان من بني عبد الدار، وعن يساره رجلان منهم، فيصفّقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار لئلا يفهم الناس ما يقول، قاتلهم الله، ومن هنا اقتدي بعض نواب الأمة حينما يسمعون خطيبا من معارضيهم فيما لا يرومونه تراهم يصيحون ويضربون بأيديهم على الرحلات ويصفقون ويصفرون أيضا، فلا حول ولا قوة إلا بالله تشابهت قلوبهم، وفي هذه الآية مما يدل على التهديد والوعيد ما لا يخفى، قال تعالى «انْظُرْ» يا أكمل الرسل «كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ» مما وصموك به من السحر وغيره وما شبهوا ما تتلوه عليهم من وحينا بأساطير الأولين وغيرها مع علمهم أنك وكتابك على خلاف ذلك، «فَضَلُّوا» في هذا التمثيل والتشبيه والوصف عن منهاج المحاجة، والطريق الأقوم والحقيقة الناصعة لميلهم إلى الضلال والاعوجاج «فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» ٤٨ إلى الحق السوي والطريقة المستقيمة بل يتهافتون إلى أضدادها، ويسلكون السبل المهلكة، ويخبطون في أقاويلهم الأباطيل الظاهر كذبها لكل أحد، وفي هذه