آيات من القرآن الكريم

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا
ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ ﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ

الغنائم وغيرها إلا بالمدينة، وكذلك لا يصح سببا للنزول ما قيل إنه عليه السلام أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيبنة بن حصن الفزاري مثله، فجاء عباس ابن مرداس وقال:
أتجعل نهبي ونهب البعيد... بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس... يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما... ومن يخفض اليوم لا يرفع
فقال صلّى الله عليه وسلم يا أبا بكر اقطع لسانه، أعطه مائة من الإبل. وكانوا جميعهم من المؤلفة قلوبهم لأن النهب والفيء لم يكن في مكة، لهذا فإن ما اعتمد عليه بعض المفسرين من هذه الأخبار في كونها سببا للنزول غير صحيح، وان الآية مطلقة كما ذكرنا عامة شاملة.
مطلب بسط الرزق وقبضه ووأد البنات وما يتعلق فيه:
قال تعالى «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ» يوسعه ويكثره «لِمَنْ يَشاءُ» من عباده مؤمنا كان أو كافرا لا لكرامته ولا لمحبته «وَيَقْدِرُ» يضيق ويقلل ويقتر على من يشاء لا لهوانه ولا لبغضه ولا لبخل من الجواد عليه، تعالى الله عن ذلك بل لمصالح يقتضيها هو يعلمها وحكم تتعلق بها مشيئته، لأن مقاليد الرزق بيده جل جلاله، وهذه الآية كالعلة لقوله تعالى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ) كأنه قيل إن أعرضت عنهم لفقد ما تعطيهم (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً) ولا تهتم لذلك فإن عدم التوسعة عليك ليس لهوان منك عليه، وإن ما يعرض لك في بعض الأحيان من ضيق المال الذي يحوجك إلى الإعراض ليس إلا لمصلحة وحكمة، وعليه فتكون الآية (وَلا تَجْعَلْ) إلخ كالإعتراض بين هذه الآية والتي قبلها وكالتأكيد لمعنى ما تقتضيه حكمة الله عز وجل «إِنَّهُ كانَ» قديما ولم يزل ولن يزال «بِعِبادِهِ خَبِيراً» بمصالحهم السرية الخفية «بَصِيراً» بحوائجهم العلنية الظاهرة التي منها بسط الرزق وقبضه، لأنهما أمران مختصان به، وما على العبد إلّا أن يقتصد في الإنفاق والإعطاء فيفعل ما عليه ويترك ما على الله بطريق التفضل إلى الله.
قال تعالى «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ» مخافة الفقر والفاقة، قال الشاعر:

صفحة رقم 481

وإني على الإملاق يا قوم ماجد أعد لأضيافي الشواء المصهّبا
وهذا النهي بحسب ظاهر الآية عن قتل الذكور والإناث، لأن لفظ الولد يتناولهما، لكن الشائع أن الجاهليين كانوا يئدون البنات فقط مخافة النهب والسبي أو مخافة أن يأخذن غير كفؤ وذلك جار عندهم، ومنهم من يئد مخافة العجز عن الإنفاق، فنهى الله في هذه الآية من كانت هذه عادتهم عن ذلك، وعليه فيكون المراد بالأولاد البنات، وبالقتل الوأد خشية العار والقتل مخافة الفقر والله أعلم.
وأصل الخشية خوف يشوبه تعظيم ويكون عن علم بما يخشى منه، «نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» هذا ضمان من الله تعالى لرزقهم وتعليل للنهي عن قتلهن، أما النهب والسبي فهو أمر قسري وكل ما يقسر عليه لا عار فيه، كما أن ما يكره عليه لا يتم؟؟؟ فيه، أما الكفاءة فهي في الإسلام متقاربة ولو فرض عدم توفرها، فإنه لا يستوجب القتل وقد أجاز الشرع للولي طلب فسخ النكاح فيها كما أجاز له الإقرار عليها، وإذا كان الله تعالى تعهد بالرزق فلا ينبغي أن يخشى من الفقر لإطعام العاجزات عن طلب الرزق، وسيأتي في الآية ١٥٠ من سورة الأنعام في ج ٢ في نظير هذه الآية تقديم ضمير الأولاد على ضمير المخاطبين عكس ما في هذه الآية وذلك التقديم للإشعار بأصالتهم في افاضة الرزق، وعارض هذه النكتة في آية الأنعام تقدم ما يستدعي الاعتناء بشأن المخاطبين، لأن الباعث على القتل فيها الإملاق الناجز، ولذلك قيل من إملاق، وهنا الإملاق المتوقع، ولذلك قيل فيها خشية إملاق، فكأنه قيل نرزقهم من غير أن ينقص من رزقكم شيء فيعتريكم ما تخشونه ونرزقكم أنتم أيضا رزقا إلى رزقكم «إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً» لذلك السبب المزعوم المبتني على قلة يقينكم بالرازق وترهمكم ذلك «كَبِيراً ٣١» إثمه عظيما تخطره، والإثم والخطأ بمعنى واحد، ومن قرأ خطا بفتح الخاء والطاء أراد أنه لغة في الخطء بكسر الخاء وسكون الطاء مثل مثل مثل وحذر وحذر، لأنه من خطأ يخطىء، وعليه يكون المعنى أن قتلهم غير صواب، والمقام لا يناسبه، لأن غير الصواب لا يوصف بالكبر عادة، وإنما وصف الله تعالى قتلهم بالكبر لأن السبب الذي توخوه منهي عنه ولا أساس له في الشرع، فكان قتلهم بناء على ذلك السبب الواهي أعظم عند الله من

صفحة رقم 482

قتلهم عفوا، لأن فيه عدم الاعتماد على الله تعالى في أن يرزقهم وإطاعة للشيطان فيما يلقيه في قلوبهم من خوف الفقر، قال تعالى (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) الآية ١٢٩ من البقرة في ج ٣، وقال تعالى (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً) الآية ٢٥ من سورة النساء في ج ٣، فانظروا أيها الناس أيهما تختارون، اتباع الله المتكفل بأرزاقكم، أم الشيطان الذي يخوفكم الفقر، وإنما كان قتلهن أعظم وزرا من القتل العفو لأن القتل يقع عادة بين الناس لعداوة أو انتقام، أو حالة المقابلة بالغزو وغيره، وليس فيه عدم الاعتماد على الله، تأمل قول الفائل:

لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة فليس ينقصها التبذير والسرف
وإن تولت فأحرى أن تجود بها فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
قال تعالى «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى» نهى الله تعالى عن قربانه فضلا عن إتيانه مبالغة في التجنّب عنه والتباعد عن التعرض لأسبابه من الإشارة واللمس والغمز والقرص والقبلة والعضّ حتى النظرة الثانية إذا كانت الأولى غير مقصودة، لأن النظر هو أول مبادثه، ولذلك نهى الله تعالى المؤمنين والمؤمنات عنه كما سيأتي في الآيتين ٣١ و ٣٢ من سورة النور في ج ٣، «إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً» قبيحة فظيعة زائدة عن حد الشرع لما فيها من التعدي الشنيع على الغير وتضييع النسب، ومن لا نسب له ميت حكما «وَساءَ سَبِيلًا» ٣٢ ذلك السبيل لأن الالتقاء بطريقة الزنى يسبب انقطاع النسل وهو سبب خراب العالم لأن المجتمع الإنساني لا يقوم إلا بالنكاح المسبب عنه كثرة النسل قال صلّى الله عليه وسلم تناكحوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم. ولهذه الحكمة أبيح تعدد الزوجات لأن في الكثرة عز ومنعة وقوة وسيطرة على أعداء الله وفي عدمه القلة الناشئ عنها الذلة والضعف والمسكنة للإعداء، قال صلّى الله عليه وسلم إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كاظلة، فإذا تاب ونزع رجع إليه. وفي رواية الشيخين لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. أي متوغل الإيمان في قلبه إذ يمنعه عنه، أما من كان يدعي الإيمان أو الإسلام دون التقيد بأحكامهما فلا يمنعانه من ارتكاب جميع المحرمات لأنهما صوريّان، والله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم، وقال صلّى الله عليه وسلم إياكم والزنى فإن فيه ست خصال، ثلاث

صفحة رقم 483

في الدنيا وثلاث في الآخرة، فأما التي في الدنيا فنقصان الرزق ونقصان العمر والبغض في قلوب الناس، وأما الثلاث التي في الآخرة فغضب الرب وشدة الحساب ودخول النار، ولهذا نهى عن قربانه فضلا عن مباشرته والعياذ بالله، ولما جاء في الخبر، العين تزني بالنظر واليد تزني باللمس والرجل تزني بالمشي والقلب يشتهي الوقاع والفرج يصدق أو يكذب، أي يصدق هذه الجوارح إذا باشر بالزنى فعلا ويكذبها إذا ردع نفسه فلم يباشره، ولا يخفى أن الزنى من الكبائر، وقدمنا في الآية ٣١ والآية ٧٢ من سورة الأعراف والآية ٦٨ من سورة الفرقان المارتين ما يتعلق بالزنى واللواطة والسحاق وما يتفرع عنها، فراجعها. واعلم أن الزنى على مراتب أعلاها اي أعظمها وزرا بالمحارم لما جاء في صحيح الحاكم أنه صلّى الله عليه وسلم قال من وقع على ذات محرم فاقتلوه والمحرمات معلومات بالنص راجع الآية ٢١ فما بعدها من سورة النساء في ج ٣، ثم بحليلة الجار، ثم بالأجنبية، ثم في مكان حرام كمكة والمدينة والقدس، ثم في زمن معظم كرمضان وعشر ذي الحجة والمحرم وليالي الولادة والإسراء والمعراج والبراءة والقدر والعيدين، ثم بالأجنبية على سبيل القهر لاوليائها، والإكراه لها، ثم بالأجنبية التي لا والي لها على الرضاء منها أو غير رضاء، ثم بالمسبلة، وزنى الثيب الأيّم أقبح من البكر والأعزب، بدليل اختلاف الحدّ، وزنى الشيخ أفظع من زنى الشاب لكمال عقل الأول، وزنى الحر والعالم أفظع من زنى القن والجاهل للسبب نفسه، وهو الكمال فيهما دونها، والزنى أكبر جرما من اللواطة وان كانت اللواطة فحش منه لما فيه من اختلاط الأنساب ولأن الشهوة داعية إليه، ولهذا البحث صلة في نفس الآية ٣٥ الآية.
مطلب في القتل والولي الذي له حق القصاص ومراتب الزنى واللواطة:
قال تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ» قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد «إِلَّا بِالْحَقِّ» استثناء مفرغ أي لا تقتلوها أبدا لسبب من الأسباب إلا بسبب واحد هو الحق، وذلك بأسباب ثلاثة أن يكفر بالله بعد الإيمان أو يزني بعد الإحصان أو يقتل نفسا عمدا، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله واني رسول إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس

صفحة رقم 484

والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة. وما ذهب إليه الأمام مالك والشافعي رحمهما الله من قتل تارك الصلاة كسلا وما قاله الإمام احمد من أن من تركها جاحدا فرضيتها فإنه يقتل فلا قول فيه، أما في غير الجحد فلا، ولا يجوز الإفتاء فيه فقد جاء بالحديث لأن يخطىء الإمام بالعفو أحبّ إلي من أن يخطىء في العقوبة.
لأنه لا يجوز قتل رجل يقول ربي الله إلا بأمر صريح من الشارع لا شك فيه ولا معارض له، لأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أفقده الاستدلال، وأما ابو حنيفة رحمه الله فإنه يختار حبس التارك لها كسلا وتهاونا حتى يصليها، أما جحدا فإنه يقتل إجماعا بلا خلاف، وما قاله بعض المحققين من قتل اللوطي فلم تجمع عليه الأمة ولم يرد به نص قاطع من آية قرآنية أو حديث متواتر، وما قيل ان الحصر منقوض بجواز قتل الصائل فيقتل منقوض، لأن قتل الصائل قصد منه الدفع لا القتل، والمراد بالقتل هنا ما يكون مقصودا بنفسه، فإذا أفضى الدفع الى القتل فيكون أيضا بحق، لأنه لو لم يقتله لقتله، والدفاع عن النفس والمال والعرض مشروع، فقد ورد قاتل دون مالك، قاتل دون عرضك، قاتل دون نفسك، فيكون قتالا بحق إذا أدى الحال إليه ولم يقدر على حفظ ماله ونفسه وعرضه من القتل إلا بالقتل، ولهذا فإن القانون المدني عد القتل دفاعا عن النفس معفوا من العقوبة استنباطا من تلك الأدلة، وهكذا كل قانون يقبله العقل السليم مأخوذ من الشرائع السماوية «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً» منكم أيها الناس دون اقتراف ذنب ولا سبب من هذه الأسباب الثلاثة، والصائل متعد غير مظلوم فلا يدخل في هذه الآية.
قال العلماء إن من عليه القصاص يقتص منه ولا يفيده قول الولي أنا أمرته بذلك، وهذا المظلوم الذي قتل عمدا بغير حق يوجب قتله أو يبيحه «فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» قويا بأن جعلنا له حق التسلط على قتل القاتل والاستيلاء عليه وإجباره بالقصاص منه أو أخذ الدية بالعفو عنه إن شاء الولي، ولا تتعين الدية إلا بعد العفو، فيجوز أخذها حينئذ كما في قتل الخطأ، لأن القتل العمد لا دية فيه بل القصاص والكفّارة، والمقتول خطأ مقتول ظلما أيضا، إذ لم يقترف جناية تستوجب قتله، إلا أنه لا إثم على قاتله لقوله صلّى الله عليه وسلم رفع عن أمتي ثلاث: الخطأ والنسيان

صفحة رقم 485

وما استكرهوا عليه. وشرعت الكفارة في قتل الخطأ لعدم التثبت واجتناب ما يؤدي إليه، ومن قال إن المرأة لها دخل في طلب القصاص فقد فسّر الولي بالوارث، والصحيح أن لا دخل لها في ذلك، لأن القرآن جاء بلفظ الولي وهو لفظ مذكّر لا تدخل فيه المرأة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآيتين ٩٢ و ٩٣ من سورة النساء في ج ٣ إن شاء الله «فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ» فيتجاوز الحد الشرعي بأن يمثل في القاتل أو يقتل اثنين بدل واحد أو يقتل غير القاتل، راجع تفسير الآية ١٥ المارة في هذا البحث، إذ كان الناس قبل شريعة إبراهيم عليه السلام يؤاخذون القريب بقريبه كما هو الحال الآن في أعراب البادية، إذ يقتلون من عثروا عليه من أقارب القاتل، وقد لا يكتفون بقتل واحد إذا كان المقتول وجيها ويتحرون الوجيه والشريف من أبناء عشيرة القاتل الأبرياء فيقتلونهم وهم غافلون، وهذا غاية في الظلم والتعسف ولا حول ولا قوة إلا بالله «إِنَّهُ كانَ» ولي المقتول «مَنْصُوراً» ٣٣ على القاتل لاستيفاء حقه منه قصاصا، وقد أمر ولي الأمر بنصرته ومعاونته على استيفاء حقه، وهذه أول آية نزلت في القتل وهو من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، وهذه الآية والتي قبلها ٣٢ و ٣٣ مدنيتان على قول الحسن والجمهور على أنها مكيتان وسياقهما يؤيد مكيتهما.
مطلب المحافظة على أموال اليتيم والوفاء بالعهود:
قال تعالى «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ» الذي مات أبوه، أما الذي ماتت أمه فهو عجي، والذي مات أبواه فهو لطيم، وفي النهي عن قربانه المبالغة في النهي عن أخذه كما لا يخفى على بصير، ثم استثنى جل شأنه من عموم أخذ مال اليتيم حالات بينها بقوله عز قوله «إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» لنفس اليتيم من الخصال التي تعود عليه بالنفع والحظ من طرق تنميتها وحفظها والإنفاق عليه منها بلا تقتير ولا إسراف، وبغير هذه الجهات الثلاث وما يقاربها فقد حرم الله قربان ماله، فكيف بأخذه وأكله، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) الآية ١٠ من سورة النساء في ج ٣، ولا استثناء في الأكل وإنما هو في القربان فقط لما فيه من النفع لليتيم كما علمت،

صفحة رقم 486

ويجب على وليه أو وصيه المحافظة عليه وعلى ماله بكل إخلاص وصدق «حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ» ليستكمل قواه ويصير أهلا للتصرف بماله، بأن يبلغ رشيدا ويجرّب في الأخذ والعطاء والبيع والشراء إن كان من أهله، ولا يكون ذلك إلا بعد بلوغه إحدى وعشرين سنة من عمره على أصح الأقوال، لأن أقل الأشد ثمانية عشرة سنة، وأكثره ثلاثون راجع الآية ١٤ من سورة القصص المارة، فإذا لم يبلغ رشيدا فلا يسلم إليه ماله ولا يمكن من التصرف به ولا من قربانه بغير الصور الثلاث، لأنه مقيد ببلوغه وكماله، أما إذا بلغ رشيدا وجرّب جاز للولي والوصي أن يسلمه ماله وملكه، راجع الآية ٥ من سورة النساء في ج ٣، ويسن مراقبته من قبلهما وإرشاده لما به سداده، وإذ ذاك يسقط الوجوب عنهما ويخرج عن كونه يتيما راجع الآية ٩ من النساء أيضا في ج ٣. وليعلم أن أكل مال اليتيم من الكبائر بدليل الوعيد فيه المار ذكره أعلاه قليلا كان المأكول أو كثيرا فلا يتقيد بمقدار نصاب السرقة المستوجبة للقطع، لأن الآيات والأحاديث الواردة في النهي عنه جاءت مطلقة عامة لم تقيد بقليل أو كثير ولم تخصص أيضا، ولا يجوز قيدها وتخصيصها إلا بدليل سمعي، ولا يوجد، لذلك فإن مرتكب أكل مال اليتيم مهما كان قليلا يستحق العذاب والوعيد المترتب عليه، اللهم إلا التافه الذي يتسامح فيه عادة كشربة ماء وحبّة فاكهة ملقاة في الأرض أو ذوق الطعام لمعرفة نضجه وطعمه، وقد توصل في هذا الزمان والعياذ بالله بعض القضاء المكلفين بحفظه إلى أكله بوسيلة حفظه وتنميته، عاملهم الله بعدله وأذاق الخائن منهم جزاء أكله، ولله در القائل في أمثالهم:

قضاة زماننا أضحوا لصوصا عموما في البرايا لا خصوصا
أباحوا أكل أموال اليتامى كأنهمو رأوا فيها نصوصا
فدعنا يا أخي من أناس باعوا دينهم بيعا رخيصا
قال تعالى «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ» الذي عاهدتم الله عليه أزلا يوم أخذه عليكم في عالم الذّر من التزام أوامره واجتناب نواهيه، وما عاهدتم عليه الناس من أقوال وأفعال، وكل ما التزمتم به أنفسكم للغير وكلفكم به الله في هذه الدنيا، والوفاء

صفحة رقم 487

بالعهد هو القيام به والعمل بمقتضاه والمحافظة عليه وعدم نقضه، لأنه الغدر بعينه «إِنَّ الْعَهْدَ» وضع جل شأنه الظاهر موضع المضمر لكمال الاعتناء، وإلا لقال «إنه» لأن الضمير يعود على العهد المذكور قبله «كانَ مَسْؤُلًا» ٣٤ عنه في الدنيا ومكلف بالقيام به ومؤاخذ عليه في الدنيا والآخرة، وتقدم كيفية أخذ العهد من قبل الله في الآية ١٧٢ من سورة الأعراف المارة. واعلم أن الإخلال بالعهد من الكبائر، فقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه عدّ من الكبائر نكث الصفقة أي الغدر بالمعاهدة، وصرح شيخ الإسلام العلائي بأنه جاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه سماه كبيرة، وقال بعض المحققين إن العهد هنا هو التكليفات الشرعية، والوفاء به حفظ ما يقتضيه القيام بموجبه. ويقال وفي بالتخفيف والتشديد وأو في بالمزيد وكلها بمعنى واحد، إلا أن التشديد في الثاني يدل على التكثير والمبالغة والمزيد أي الأخير فيه زيادة حرف وزيادة البناء تدل على زيادة المعنى. واعلم أن العهود باعتبار المعهود والمعاهد بكسر الهاء وفتحها ثلاثة أنواع: الأول بين الله وعباده، والثاني بين العبد ونفسه، والثالث بين الناس بعضهم لبعض. وكل واحد باعتبار الموجب له جهتان جهة أوجبها العقل وهو ما ذكر الله تعالى معرفته في الإنسان فيتوصل إليه إما يبدهية العقل أو بأدنى نظر واستدلال عليه، يؤيده قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) الآية ١٧٢ من الأعراف المارة، وجهة أوجبها الشرع وهو ما دلّنا عليه كتاب الله تعالى أو سنة نبيه، فذلك ستة أضرب، وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو يلزم بالتزام الإنسان إياه، والثاني أربعة أقسام:
فالأول واجب الوفاء به كالنذور المتعلقة بالقرب، مثل أن يقول علي أن أصوم كذا وكذا إن عافاني الله من مرضي هذا أو أتصدق بكذا، الثاني يستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك مباح فإن له أن يكفّر عن يمينه ويفعل المحلوف عليه متى أراد، الثالث يستحب ترك الوفاء به وهو ما جاء في قوله صلّى الله عليه وسلم إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيرا منه، فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه ولا يفعل المحلوف عليه، الرابع واجب ترك الوفاء به مثل أن يقول على أن أقتل فلانا أو أغتصب ماله ونحوه، فعليه أن يعرض عن حلفه ويكفّر عن يمينه فيحصل

صفحة رقم 488

من ضرب ستة في أربعة أربعة وعشرون ضربا. وأعلم أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى على الوفاء بما عاهد وعاقد عليه لا أنه لا قدرة له أصلا، ينقض ما عاهد وما عاقد ويقول هكذا مراد الله أو ما أراد الله أن أوفي بذلك كما تقول الجبرية، ولا أن يقول أن لي قدرة مقارنة غير مؤثرة كما هو المشهور عند الأشعرية، ولا يقول إن لي قدرة مؤثرة وإن لم يأذن الله تعالى كما يقوله المعتزلة، وإن لي اختيارا أعطيته بعد طلب استعداده الثابت في علم الله تعالى له، فللعبد في هذا المذهب اختيار والعبد مجبور فيه، بمعنى أنه لا بد من أن يكون له فعل فيه، لأن استعداده الأزلي غير المجعول قد طلبه من الجواد الكريم المطلق الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها، والإثابة والتعذيب إنما يترتبان على الخير والشر الثابت في نفس الأمر والخير والشر يدلان على ذلك مثل دلالة الأثر على المؤثر والغاية على ذي الغاية، قال تعالى: َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
الآية ٣٤ من سورة النحل في ج ٢ ومن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
هذا، وقد قال ابن المنير إن أهل السنة والجماعة عن الإجبار بمعزل لأنهم يثبتون للعبد قدرة واختيارا وأفعالا وهم مع ذلك يوحدون الله تعالى حق توحيده فيجعلون قدرته سبحانه هي الموجدة والمؤثرة، وقدرة العبد مقارنة فحسب، وبذلك يميز بين الاختياري والقسري، وتقوم حجة الله على عباده، ولهذا يعاقب العبد على فعله ويؤجر لأنه إذا فعل الشرّ كالشرب والزنى مثلا فإنه فعلهما عن اختيار ورغبة لا عن إكراه. وكراهية، ولأنه حينما فعلهما كان عالما بأنه يعذب عليهما لأن ذلك لا يعرف إلا بعد وقوع الشيء وإلا لما استحق العذاب ولا السؤال، فلا حجة للعبد بقوله مقدر علي وإنه لو شاء الله لمنعني من فعله، اقتداء بمن سبقه من الكفرة الذين يتقولون بذلك راجع الآية ١٤٠ من سورة الأنعام والآية ٣٥ من سورة النحل في ج ٢ اه. من روح المعاني للآلوسي، وليعلم أن الأمة الإسلامية خير من يراعي العهود ويحافظ عليها ويفي بالوعود ويقوم بها، وكان حضرة الرسول الأعظم هو القدوة الحسنة والمثل الأعلى لأمته في ذلك، ولهذا رأيت أن أذكر نوعا من معاهدات الصلح التي عقدها عليه الصلاة والسلام على أثر انتهاء حروبه مع أهل الكتاب وغيرهم

صفحة رقم 489

حبا في بقاء النوع الإنساني وصيانة لحياته دون احتياج إلى استخدام السلاح وإرهاق الأرواح وجنوحا للسلم وحقنا للدم، راجع الآيتين ١٠- ١١ من سورة الحجرات والآية ١٣٨ من سورة النساء والآية ٦٢ من سورة الأنفال في ج ٣. وهذا نص كتاب الصلح في معاهدة تبوك:
مطلب نص بعض معاهدات حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم:
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا منّة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنا بن رؤبة وأهل ايلية سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة الله تعالى ومحمد النبي ومن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وانه لطيّبة لمن أخذه من الناس وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر. وهذا نص الكتاب الثاني:
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا كتاب محمد لأهل أزرح وجرباء أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد رسول الله وأن عليهم مائة دينار في كل رجب واقية طيبة والله كفيل بالنصح والإحسان إلى المسلمين. وهناك معاهدات أخرى سنأتي بها عند ذكر ما يناسبها من الآيات المارة الذكر في القسم المدني إن شاء الله وخاصة عند قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الآية الأولى من سورة المائدة، وعند قوله تعالى (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) الآية ١٩ وما بعدها من سورة الرعد والآية ٢ من سورة الصف في ج ٣ والآية ٩١ من سورة النحل في ج ٢ وغيرها مما جاء فيها وجوب المحافظة على العهود والتهديد والوعيد على نقضها، وقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان. فالوفاء بالعهد من شيم النفوس الشريفة والأخلاق الكريمة والخلال الحميدة والخصال المجيدة، ومن الأمثال:
الوعد وجه والإنجاز محاسنه والوعد سحابة والوفاء مطرها. وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مطل وتعليل، وقد ذم الله القض في الآيات ٩٠ فما بعدها من سورة النحل المنوه بها آنفا، وليعلم أن النقض من الغدر والبغي وقال صلّى الله عليه وسلم أعجل الأشياء

صفحة رقم 490

عقوبة البغي. وقال المكر والخديعة والخيانة في النار. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثلاث من كن فيه كن عليه وورد: ثلاث رواجع أي ترجع على المبتدئ بهن البغي والنكث والمكر قال تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) الآية ٢٤ من سورة يونس في ج ٢، وقال تعالى (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) الآية ١٠ من سورة الفتح ج ٣، وقال تعالى (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) الآية ٤١ من سورة فاطر المارة، هذا وكم أوقع الغدر في المهالك من غادر وضاقت عليه من موارد الهلكات فسيحات المصادر وطوقه غدره طوق خزي فهو على فكه غير قادر، وأوقعه في مظنة خسف وورطة حتف، فماله من قوة ولا ناصر. ويشهد لهذا قصة ثعلبة بن حاطب الأنصاري التي سيأتي ذكرها في الآية ١٠٥ فما بعدها من سورة التوبة في ج ٣، فلا خزي أفظع من ترك الوفاء بالميثاق، ولا سوء أقبح من غدر يسوق إلى النفاق، ولا عار أفضح من نقض العهد والميثاق وجاء في المثل لم يغدر غادر إلا لصغر همته عن الوفاء واتضاع قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم. وأكثر الشعراء في ذمّه فقال بعضهم:

غدرت بأمر كنت أنت جذبتنا إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد
وهو أصناف بحسب النتائج، فمنه الخلف بما يعد من الصغائر كالوعد بإعطاء شيء ثم النكول عنه، وبالمجيء إلى مكان ثم الخلف به، ومنه ما يكون من الكبائر كالإخلال بمعاهدات الصلح والهدنة الموقتة والمبايعة للإمام، ومن الكبائر الخروج على الإمام بعد المبايعة له أيضا بغير وجه شرعي يخالف نص المبايعة، قال تعالى «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ» أتموه وأعطوه وافيا لا تنقصوه «إِذا كِلْتُمْ» للمشتري أيها الباعة «وَزِنُوا» إذا وزنتم لغيركم ولأنفسكم من غيركم «بِالْقِسْطاسِ» القبان ومثله الميزان «الْمُسْتَقِيمِ» العدل السوي كان الموزون ذهبا أو حطبا، وقد اكتفى جل شأنه باستقامة الوزن عن الأمر بإيفائه، لأن الوزن عند استقامة ما يوزن به لا يتصور الجور فيه غالبا، بخلاف الكيل فإنه كثيرا ما يقع التطفيف فيه مع استقامة الكيل، لهذا ذكر الاكتفاء بإيفائه عن الأمر بتعديله.

صفحة رقم 491

مطلب الكيل والميزان والذراع... وما يتعلق بهما:
وقد جاء في الآية ٨٤ من سورة الأعراف المارة (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ)
وفي الآية ٨٤ من سورة هود (أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) الآية في ج ٢، لأن الإيفاء لا يتصور بدون تعديل المكيال، وقدمنا في سورة الشعراء المارة في الآية ١٨٢ بأن كلمة القسطاس من التي قيل فيها إنها غير عربية في الأصل، وذكرنا هناك بأنها وغيرها في الأصل عربية واستعملها الأجانب لأن الله تعالى قال (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) وذكرنا أيضا بأنه لو فرض جدلا ومحالا بأنها في الأصل ليست بعربية فقد عربت ونطق بها العرب قبل نزول القرآن، فوجدوها فيه على هذا لا يقدح بعربيتها في القرآن أيضا لأنها بعد التعريب والسماع في فصيح كلام العرب استعمالها صارت عربية، فلا حاجة لإنكار عربيتها أو ادّعاء التغليب، أو أن المراد عربي الأسلوب، أو أنها من نوارد اللغات كما يقال في بعض الشعر إنه من نوارد الخاطر إذا وافق قول من قبله. هذا، وقد تبدل سينه صادا كما تبدل صاد الصراط سينا وكذلك المستقيم وشبهه من الألفاظ، لأن السين تخلف الصاد وبالعكس في بعض المواضع راجع تفسير الآية ٥ من سورة الفاتحة المارة، «ذلِكَ» الإيفاء والاستقامة في الكيل والوزن «خَيْرٌ» لكم أيها الناس في الدنيا لأنه يسبب الرغبة في معاملتكم يجلب لكم النفاء الجميل «وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» ٣٥ في الآخرة، وأجمل عاقبة لما يترتب عليه من الثواب، وأصل التأويل رجوع الشيء إلى الغاية المرادة منه علما، كما في قوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) الآية ٨ من آل عمران في ج ٣، أو فعلا كما في قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) الآية ٥٣ من سورة الأعراف المارة وقول الشاعر:
وللنوى قبل يوم البين تأويل وليعلم أن نقص الكيل والوزن من الكبائر على ما يقتضيه الوعيد الشديد الوارد في الآيات والأحاديث، ولا فرق بين القليل والكثير، فالتفاوت لا شك قليل والعذاب عظيم كبير، ألا فلينتبه الغافلون وليتأملوا قوله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) الآتية آخر الجزء الثاني، ومن يرد السلامة ويحذر يوم الندامة فليوف الكيل وليرجح الميزان ليكون آمنا من مظنة السوء في الدنيا والعذاب في الآخرة، وهنا لا تسامح في التّافه، ولا عبرة لمن قال إن غصب ما دون ربع

صفحة رقم 492

الدينار لا يكون كبيرة، ويقيس عليه التطفيف، لأن هذا من مقاييس إبليس التي مرت لك في الآية ١٢ من الأعراف، ولا محل لها هنا، لأن الآية أوجبت الوفاء بالكيل والميزان، والله تعالى يقول (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) الآية ٨٣ من هود في ج ٢، فكل نقص مهما كان تافها يعد مخالفة لكلام الله، ومخالفة كبيرة عظيمة لا يختلف فيها اثنان، على أن الغصب ليس مما يدعو قليله إلى كثيره، لأنه يكون على سبيل القهر والغلبة بخلاف التطفيف فتعيين التنفير منه بأن كلا من قليله وكثيره كبيرة أخذا بما قالوه في شرب القطرة من الخمر إنه كبيرة وإن لم يوجد فيها مفسدة وهو السكر وزوال العقل واللغو والتأثيم لأن قليله يدعو إلى كثيره، ومثل التطفيف في الكيل والوزن النقص في الذرع وجر السلعة حالة الذرع، ويوشك أن لا يكاد في هذا الزمن كيال أو وزان أو ذراع يسلم من نقص إلا من عصمه الله تعالى، أجارنا الله من النقص المادي والمعنوي بمنه وكرمه، قال تعالى «وَلا تَقْفُ» لا تتبع أيها الإنسان «ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» من أحوال الناس وقرىء (ولا تقفوا) بإشباع الضمة حتى ولد منها واوا، ومعنى قفا اتبع قفاه، ثم استعمل في مطلق الاتباع وصار حقيقة فيه، يقال قاف أثره يقوفه إذا قصّه واتبعه، أي لا تتبع ما لا علم لك له من أقوال الناس وأفعالهم، فتقول رأيت كذا من فلان وسمعت كذا من الآخر، وإياك أن ترمي أحدا بالظن وتغتابه في قفاه.
مطلب آداب الله الذي أدب خلقه ووصايا الصوفية واعتبار الظن والسماع في بعض الأوقات:
هذا نهي الله تعالى لكم أيها الناس من أن تحكموا بما لم تحققوا، فكيف بمن يقول رأيت وسمعت وهو لم ير ولم يسمع، فذلك البهت، وذلك الافتراء، وذلك الاختلاق، راجع الآية ١١٠ من النساء والآيتين ٦ و ١٢ من سورة الحجرات، والآية ٥٨ من الأحزاب في ج ٣، والآية ٣٦ من سورة يونس ج ٢، إذ يتدرج تحت هذا أمور كثيرة اقتصر المفسرون على بعضها، فمنهم من قال المراد فيها نهى المشركين عن القول بالإلهيات والنبوات تقليدا لأسلافهم واتباعا لليهود، وقال محمد ابن الحنفية رضي الله عنه: النهي عن شهادة الزور، وقيل المراد النهي عن القذف ورمي المحصنات الآتي ذكره في الآية ٣ فما بعدها من سورة النور في ج ٣، قال الكميت:

صفحة رقم 493

ولا أرمي البريّ بغير ذنب ولا أقفو الحواصن إن رمينا
وقيل المراد النهي عن الكذب، وقال قتادة لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر، والقول ما قاله الإمام بأن المراد العموم، لأن اللفظ عام فيتناول الكل ولا معنى للقيد والتقيد، روى البيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في الحلية من حديث معاذ ابن أنس: من قفا مؤمنا بما ليس فيه يريد شينه به حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال. وروى الترمذي والنسائي عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله صلّى الله عليه وسلم وريحانته رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إياكم والظنّ لأن الظن أكذب الحديث.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة، قلت الله ورسوله أعلم، قال ذكرك أخاك بما يكره. وفي رواية ولو بحضوره. قلت ولو كان في أخي ما أقول؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته. هذا وما جاء بأن الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام، قال أبو عمر الهيثمي لا أصل له، وقال نعم روى الطبراني والبيهقي وغيرهما الغيبة أشد من الزنى إلا أن له ما يبين معناه، وهو ما رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن جابر وأبي سعيد رضي الله عنهما إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنى، إن الرجل ليزني فيتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر الله له حتى يغفر له صاحبه.
فعلم من هذا أن أشدّية المغيبة من الزنى ليست على الإطلاق بل من جهة أن التوبة الباطنية المستوفية لجميع شروطها من الندم والإقلاع، والعزم على عدم العودة إذا وقعت قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها، وظهور دابة الأرض، مقبولة مكفرة لإثم الزاني بخلاف الغيبة فإن التوبة منها وإن وجدت فيها تلك الشروط

صفحة رقم 494

جميعها لا تقبل ولا يكفر وزرها بدون أن يستحل من المغتاب ويستعفيه عما وقع منه، وهذا قد لا يتيسر، فلهذا كانت الغيبة أشد من الزنى من هذه الحيثية لا مطلقا، وعلم من هذا أن الزاني لا يحتاج إلى الاستحلال من أولياء المزني بها إذا كان برضاها، ومنها أيضا إن كان كرها لما يترتب عليه من المفاسد التي قد تؤدي إلى قتل الزاني والمزني بها أو لهما معا، دفعا لما يلحقهم من العار ويولد فتنا وغيظا وحقدا لا تكاد تتلافى، لأن الزوج والقريب يقدم على القتل فيه بمجرد التوهم فكيف مع التحقيق، أجارنا الله من ذلك كله، وليعلم أن ثمرات الزنى قبيحة في الدنيا، يورث الفقر ويذهب بهاء المؤمن ويقصر العمر ويؤخذ بمثله من ذربة الزاني، راجع ما قدمناه في الآية ٣٢ المارة وحديث من زنى زني به، أي من غير حاجة إلى ترصد محارمه والزنى بهن خارجا عن داره، بل قد يكون في وسط داره وعلى فراشه والعياذ بالله، حفظنا الله وعصمنا بحرمة نبيه وآله. وقد اتفق أن بعض الملوك لما سمع هذا الحديث أراد تجربته وكانت له بنت في غاية الحسن والجمال، فأنزلها مع امرأة وأمرها أن لا تمنع أحدا أراد التعرض لها بأي شيء شاء وأمرها بكشف وجهها، فطافت بها الأسواق، فما مرت على أحد إلا وأطرق حياء وخجلا منها، فلما طافت بها المدينة كلها ولم يمدّ أحد نظره إليها، رجعت بها إلى دار الملك فلما أرادت الدخول أمسكها إنسان وقبلها وذهب، فأدخلتها وأخبرت الملك بذلك، فخر ساجدا لله تعالى وقال الحمد لله ما وقع مني في عمري قط إلا قبلة، وقد قوصصت بها، فنسأل الله أن يعصمنا وذرارينا من الفواحش والموبقات كلها ما ظهر منها وما بطن.
هكذا كانت الملوك وسننهم في رعاياهم، وملوك الآن على ما نحن فيه لأن الجزاء من جنس العمل، وكما تكونوا يولى عليكم، هذه عاقبة الزنى في الدنيا، أما عاقبته في الآخرة فالدخول في جهنم والعذاب الأليم فيها، أجارنا الله من ذلك. واحتج في هذه الآية ثقات القياس، لأنّ قفو للظن ولا حكم به، لأن قوله تعالى (وَلا تَقْفُ) عام دخله التخصيص وهو النهي عن العمل بالظن، وأجيب بأن الأمة أجمعت على الحكم بالظن والعمل به في صور كثيرة، منها الصلاة على الميت الذي لم يعرف ودفنه في مقابر المسلمين، وتوريت المسلم منه بناء على أنه مسلم وهو

صفحة رقم 495

مظنون فيه، ومنها التوجه إلى القبلة في الصلاة مبني على الظن وعلى اجتهادات وامارات لا تفيد إلا الظن، ومنها أكل الذبيحة بناء على أنها ذبيحة مسلم والذابح لها مظنون، ومنها الشهادة فإنها ظنية أي الشهادة الفعلية وهي القتل في الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى لأنها مبنية على النيّة وهي مظنونة، لا الشهادة القولية على الديون وغيرها فإنها لا تكون على الظن إلا في مواضع فإنها تجوز على السماع كالوقف والموت وغيرهما كما هو مدون في كتب الفقه، ومنها قيم المتلفات وأرش الجنايات فمبناهما على الظن. ومن نظر ولو بمؤخر عينه رأى أن جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء والآمال في حاصلات الزروع وغيرها، كلها مظنونة ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم: نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. فالنهي عن اتباع ما ليس يعلم قطعي مخصوص بالعقائد، وبأن الظن قد يسمى علما، قال تعالى (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) الآية ١١ من سورة الممتحنة في ج ٣، وهذا العلم بإيمانهن إنما هو على إقرارهن وهو لا يفيد إلا الظن إذ لا تعلم سرائرهن في ذلك وبأن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس كان ذلك الدليل دليلا، على أنه متى حصل ظن على أن حكم الله تعالى في هذه الصورة يساوي حكمه في محل النص، فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن واقع في طريق الحكم، وأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن. واعلم رحمك الله أنه لا شك أن القياس من الحجج المعمول بها شرعا بعد كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة، وهو لغة التقدير واصطلاحا تقدير الفرع المراد إلحاقه بالأصل في الحكم والعلة نقلا وعقلا لقوله تعالى (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) الآية ١١ من سورة الحشر، وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) الآية ١٣ من آل عمران في ج ٣ والاعتبار رد الشيء إلى نظيره. ولحديث معاذ رضي الله عنه حينما قال له صلّى الله عليه وسلم بم تقضي؟ قال بكتاب الله، قال فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله، قال فإن لم تجد؟ قال أجتهد برأيي، فقال صلّى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي به رسوله. هذا نقلا، وأما عقلا فلأن الاعتبار وهو التأمل واجب عند عدم النص فيما أصاب من قبلنا

صفحة رقم 496

من المثلات بأسباب نقلت عنهم، فنكل عنها احترازا عن مثله من الجزاء، ولا غرو أن الاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في المعلول كما بيناه في المطلب الرابع من المقدمة فراجعه، ومن أراد التفصيل فعليه بكتب الأصول، هذا وإن الأحكام المثبتة بالأقيسة كلية معتبرة في وقائع كلية مضبوطة، وإن التمسك بالآية تمسك بعام مخصوص وهو لا يفيد إلا الظن، تأمل قوله تعالى «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا» ٣٦ أي أن هذه القوى الثلاث المشار إليها في هذه الآية الكريمة كسائر الجوارح الأخر من كل إنسان مستجمع لها يسأل يوم القيامة عما اقترفتها، فالبصر يسأل عما أبصره، والسمع عما سمع، والقلب ماذا وعى ووقر فيه، وهكذا اليد والرجل والفم، أو أن الله تعالى يسأل هذه الجوارح نفسها عن صاحبها هل استعملها فيما خلقت له بأن استعمل النظر في كتاب الله وآلائه ومكنوناته، والسمع في سماع القرآن والذكر والكلم الطيب، والفؤاد هل وقر فيه النصح للمسلمين وحبهم والحميّة لهم، أم لا بأن استعملها على العكس فصرف نظره للمحارم، وسمعه للغيبة وقول السوء، وقلبه للحقد والغل والحسد للناس، واليد للبطش بغير حق،
والرجل للمشي إلى ما لا يرضي الله وما أشبه ذلك. هذا وقد أشار الله تعالى إلى هذه الجوارح بإشارة العقلاء على القول بأنها مختصة بهم تنزيلا لها منزلتهم، لأنها مسئولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها. وقال بعضهم إنها غالبة في العقلاء، وجاءت لغيرهم من حيث أنهم اسم جمع (لذا) أي لفظ أولئك اسم جمع لذا وهو أي ذا يعم القبيلين من يعقل ومن لا يعقل ومن ذلك قول جرير:

ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
مطلب ما يجب أن تبادر به الناس والوصايا العشر وغيرها:
قال تعالى «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً» فخرا وكبرا وخيلاء وتبطرا تتعاظم عليهم، وتتكابر في مشيتك على الناس وأنت منهم «إِنَّكَ» أيها الإنسان المتصف في هذه المشية المكروهة «لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ» بمشيتك هذه الممقوتة، فتتصور أنك تثقبها بشدة وطأتك كلا «وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» ٣٧ بتشامخك ومدّ عنقك وقامتك مهما تطاولت، فأنت أنت بل تتصاغر في أعين قومك،

صفحة رقم 497

وهذا تهكم في كل مختال شديد الفرح بنفسه كثير المرح على غيره، إذ يمشي مرة على أعقابه وأخرى على رءوس أصابعه، وتارة يتمايل، وطورا يتبختر بقصد تعالي نفسه الواطية، فمالك وهذا أيها الإنسان، تواضع لأنك دون ذلك وكن كما قال أبو الحسن علي بن خروف:

تنزه عن الدنيا وكن متواضعا عفيفا ولا تسحب ذيولا من الكبر
إذا كنت في الدنيا حليف تكبر فإنك في الأخرى أقل من الذر
واعلم أن قوتك مهما كانت فلن تقابل قوة الأرض ولا جثتك عظم الجبال، ومن هو أضعف من هذين الجمادين لا يليق به أن يتكبر، كان صلّى الله عليه وسلم إذا مشى يتكفأ تكفؤا أي تمايل إلى قدام كأنما ينحط من صيب، أي ينحدر من مكان عال فيحصر نظره قدامه، ومن هنا جعل السادة الصوفية العارفون النظر عند المشي إلى القدم شرطا من شروطهم حتى لا يرى شيئا من أحوال الناس، ومن أحوالهم بارك الله فيهم قولهم إذا دخلت فادخل أعمى وإذا خرجت فاخرج أخرس، وهذا هو الحكم الشرعي في المشي. ومن السنّة أن يمشي بجانب الطريق ويتجنب التضييق على المارة، ويغض بصره عن عورات الناس، ويعرض عنهم، ويوسع لهم ما استطاع، ويزيل الأذى عن الطريق من كل ما يوجب العثار والزلق، ويسلم على الناس ويقابلهم ببشاشة الوجه، والأحسن أن لا يجاوز نظره محل قدمه، وينذر الغافل والأعمى والصغير عن الوقوع في حفرة وشبهها، ويحذرهم من المرور تحت جدار مائل، ومن حية وعقرب وكلب كلب أو عقور أو جمل هائم أو رجل صائل أو سقف هائر، وبالجملة من كل ما يترقب الأذى منه أو يتوقع الضرر منه مادة ومعنى. وهذا كلثه من حق المسلم على المسلم والمعاهد والذمّي في حكم المسلم من هذه الجهات لقوله صلّى الله عليه وسلم: لهم ما لنا وعليهم ما علينا. قال تعالى «كُلُّ ذلِكَ» من- ولا تجعل إلى آخر هذه الآية- «كانَ سَيِّئُهُ» المنهي عنه من ذلك، وهو أربع عشرة خصلة، والمأمور به وهو إحدى عشرة خصلة، ثلاث مستترة وثمانية ظاهرة، فيكون المجموع المشار إليها بقوله ذلك خمس وعشرين خصلة، فتدبرها لأنا أوضحناها لك فتح الله علينا وعليك، فإذا علمتها فافعل المأمورات ما استطعت،

صفحة رقم 498

واجتنب المنهيات كلها، لأن اجتناب المنهيات أحسن عند الله من فعل المأمورات، ولهذا جاءته القاعدة الشرعية درء المفاسد مقدّم على جلب المنافع، راجع الحديث المار في الآية ٣٩، واعلم أنه كما أن المأمور به منها محبوب فالسيىء «عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً» ٣٨ مبغوضا، فعليك أن تتّقي كل ما يكرهه الله، وتفعل ما يحبه.
واعلم أن لا مجال لما تمسك به بعضهم في هذه الآية من أن القبائح لا تتعلق بها إرادة الله تعالى، لان المراد بالمكروه هنا ما يقابل المرضيّ كما ذكرنا، لا ما يقابل المراد، لقيام القاطع على أن الحوادث كلها واقعة بإرادته تعالى، وإلّا لاجتمع الضدان الإرادة والكراهة كما يزعمه بعض المعتزلة، ووصف ذلك بمطلق الكراهة، مع أن أكثره من الكبائر للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية في وجوب الكف عنها، ولهذا كان المكروه عند المتقين الكاملين مثل الحرام في لزوم الاحتراز عنه، ومن لم يعرفه تعدّى إلى دائرة الإباحة، فتدبر وتحفظ وتأدب تنج وتسلم وتربح «ذلِكَ» المقدّم تفصيله لك أيها المتدبر المتفكّر العارف «مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ» من بعض ما أنزله «رَبُّكَ» يا سيد الرسل «مِنَ الْحِكْمَةِ» التي هي أسّ علم الشرائع ومعرفة ذات الخالق والاحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد إلى آخر الدوران «وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» افتراء عليه إياك إياك، احذر من هذا أيها العاقل كل الحذر، فهو أكبر أنواع الكفر، ولهذا صدّرت الآيات الثماني عشرة بمثل ما ختمت للعلم بأن التوحيد مبدأ الأمر وآخره، ورأس كل حكمة ومنتهاها، وملاك كل أمر وعمدته، وقد رتّب عليه أولا ما هو غاية الشرك في الدنيا، إذ ختم تلك الآية بقوله (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا) ورتّب آخرا على هذه الآية ما هو نتيجته في العقبى، وختمها بقوله «فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً» من نفسك وغيرك «مَدْحُوراً» ٣٩ مبعدا من رحمة الله لأنه كفر ما وراءه كفر، والفرق بين المذموم والملوم هو أن الذي يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر مذموم، والملوم هو الذي يقال له لم فعلت مثل هذا وما الذي حملك عليه، وما استفدت منه إلا ضرر نفسك، ويعلم من هذا أن الندم يكون أولا واللوم آخرا، والفرق بين المخذول والمدحور هو أن المخذول من لم يعنه أحد وقد فوض

صفحة رقم 499

أمره لنفسه إذ لا ناصر له، والمدحور المطرود المهان المستخف به، قال ابن عباس رضي الله عنهما هذه الثماني عشرة آية في التوراة عشر آيات كانت في ألواح موسى عليه السلام، وفي الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عباس أن التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل (يعني سورة الإسراء هذه) ثم تلا ولا تجعل مع الله إلى آخر هذه الآية، أي أن غالب أحكام التوراة داخلة في هذه الآيات، أما الوصايا العشر التي هي في التوراة فهي من جملة هذه الآيات وداخلة فيها وهي مبينة تماما في الآيات ١٥٢ و ١٥٣ و ١٥٤ في سورة الأنعام في ج ٢ كما سنبينها في محلها إن شاء الله. واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة أولا عصيان بني إسرائيل وإفسادهم وتخريب بيت المقدس وتدميره وإياهم، وختمها كما سيأتي في استفزاز فرعون لهم وإرادته إهلاكهم، ونوه بالآيات التسع التي أظهرها لهم على يد موسى عليه السلام، وأنه دمّر فرعون وقومه وأورث ملكه وأرضه إلى موسى وقومه، وأن بني إسرائيل بعد ذلك كله استفزوا محمدا صلّى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة وأرادوا إخراجه منها، وحينما كان في مكة أرادوا استفزاز قريش عليه، وقالوا لهم سلوه عن الروح وأهل الكهف وعن ذي القرنين كما سيأتي تفصيله في الآية ٨ من سورة الكهف، وهذا من بعض تعنتات اليهود. وجاء ذكرهم في هذه السورة تعريضا بهم بأنهم إذا لم يؤمنوا بمحمد سينالهم ما نال فرعون، لأنهم أرادوا بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلم ما أراد فرعون بموسى وأصحابه، وجاء هذا البحث هنا استطرادا بسبب ذكر التوراة وما فيها راجع الآية ١٦٦ من الأعراف المارة. قال تعالى «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ» اختصكم «بِالْبَنِينَ» واختارهم لكم «وَاتَّخَذَ» هو لنفسه جلت نفسه «مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً» مع أنهنّ أدنى حالا من الذكور «إِنَّكُمْ» أيها الكفرة المختارون لأنفسكم الأحسن «لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً» ٤٠ في حق المتّصف بالكمال المنزه عن اتخاذ الولد، وتجرءون على هذا ولا تخشون عظمته بأن ينزل بكم أعظم العذاب. نزلت هذه الآية بالمشركين القائلين إن الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك، وإنما وصف الله قولهم هذا بالعظيم لأنه لا أعظم منه، إذ جعلوه جل جلاله من قبيل الأجسام السريعة الزوال المحتاجة إلى بقاء النوع بالتوالد، وهو ليس كمثله

صفحة رقم 500
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية