
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (٣٣)
والحق ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئ مُسْلِمٍ إِلا فِي ثَلاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ زِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أوْ قَتْلِ نَفْسٍ بغَيرِ حَقٍّ ".
حرم اللَّه قتل النفس بغير حق؛ إذ في إباحته ذهاب ما قصد من إنشاء هذا العالم، وفي التحريم حياة الأنفس، وفي إباحة الزنى ذهاب المعارف وجهالتها، وفي تحريمه: حياة المعارف وإبقاؤها. والوصول إلى الحكمة والعلوم التي يطلب بعضهم من بعض؛ إذ لا يعرف أهل الحكمة من غيرهم؛ ففي ذلك ذهاب العلوم والحكمة.
وفي القتل على الذين - إذا استبدله - حياة الذين؛ لأن من تفكر قتل نفسه إذا ترك الذين - أعني دين الإسلام - ورجع عنه، لم يترك دينه الإسلام، ومن تفكر رجمه بالزنى - امتنع عن الزنى وتركه، ومن تفكر أنه يُقْتَل إذا قَتَلَ غيرَهُ - امتنع عن قتله؛ ولذلك قال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ).
فَإِنْ قِيلَ - في المرأة إذا ارتدت عن الإسلام -: إنها لا تقتل.
قيل: لأنه ليس في قتلها حياة الذين؛ لأن النساء أتباع للرجال في الدِّين؛ لأنهن يسلمن

بإسلام أزواجهن ويصرن ذمة بذمة الأزواج؛ فإذا كان كذلك - فليس في قتلهن حياة؛ ألا ترى أنه روي أنه فلانًا أسلم وأسلم معه كذا وكذا نسوة؟! واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ): والحق ما ذكرنا، وقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ) يحتمل بالإسلام، أو بالذمّة بإعطاء الجزية، وإلا بالحق: ما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا).
قيل: سلطانًا، أي: تسلطًا وقهرًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سلطانًا، أي: حجة على القتل فيما يستوجب به القصاص.
ثم ذكر أنه جعل لولى القتيل سلطانًا، ولم يذكر أي ولي؛ فيشبه أن يكون المراد من الولي الذي يخلف الميت في التركة، وهم الورثة؛ إذ هو حق كغيره من الحقوق؛ فذلك إلى الورثة، فعلى ذلك حق الدم، فكأنه قال: ومن قتل مظلومًا قد جعلنا لورثته سلطانًا، أي: حجة فيما يستوجب. وفي ظاهر هذه الآية دلالة أن للواحد من الورثة القيام باستيفاء الدم؛ إذ لو كان للكل الاستيفاء لدخل في ذلك الإسراف الذي ذكر: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)؛ إذ لو ضر به كل الورثة لصار في ذلك مثله، وقد منعوا عن ذلك، فإذا كان ما ذكرنا كان في ذلك دلالة لقول أبي حنيفة - رحمه اللَّه، حيث قال -: إن الورثة إذا كان بعضهم صغارًا وبعضهم كبارًا كان للكبار أن يقوموا بالاستيفاء دون أن ينتظروا بلوغ الصغار، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يقتل غير قاتل؛ وذلك إذ كان من عادة العرب قتل غير القاتل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) أي: لا يجاوز الحد الذي جعل له في القصاص من المثلة والقطع والجراحات.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)، أي: في القتل الأول؛ حيث قتل نفسًا بغير حق، فذلك إسراف؛ كما قال: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا).

وقوله: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) هذا يحتمل أن يكون خاطب به ولي القتيل فقال: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)، أي: لا يُجاوز الحد الذي جعل له؛ على ما روي: " إذَا قَتَلْتَ فَأَحْسِنِ القَتْلَ "، والثاني خاطب به القاتل: يقول له لا تقتل؛ فإنه إسراف، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن المقتول كان منصورًا بالولي ينصره الولي؛ بقوله: (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا). ويحتمل منصورًا بالمسلمين، أي: على المسلمين وغيرهم دفع ذلك الؤشل عنه؛ هذا على تأويل من يتاول في قوله: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) - قَتْلَ غير قاتل وليه، أو يزيد في جراحاته، ويمثل مثلًا بقول: احذروا ذلك؛ فإن على المسلمين دفع ذلك عنه، أو كان منصورًا في الآخرة.
وفي ظاهر هذه الآية دلالة أن القصاص واجب بين الأحرار والعبيد، وبين أهل الإسلام وأهل الذمة؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)؛ فكانت أنفس أهل الذمة والعبيد داخلة في هذه الآية؛ لأنها محرمة وفيه ما ذكرنا أن للكبير من الورثة قتله، وإن كان فيهم صغار.
وروي أن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتل قاتل أبيه فلانًا، وفي الورثة صغار لم يدركوا يومئذ.
ويحتمل أن يكون (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) في ظاهر هذا: أن القاتل هو كان منصورًا، ثم