آيات من القرآن الكريم

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا
ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ

جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
استعارة أي اقطعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك، وبولغ بذكر الذُّلِّ هنا ولم يذكر في قوله وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: ٢١٥] وذلك بحسب عظم الحق هنا، وقرأ الجمهور «الذّل» بضم الذال، وقرأ سعيد بن جبير وابن عباس وعروة بن الزبير «الذل» بكسر الذال، ورويت عن عاصم بن أبي النجود، و «الذل» في الدواب ضد الصعوبة ومنه الجمل الذلول، والمعنى يتقارب وينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله واستكانته ونظره ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب والحديث أن رسول الله ﷺ قال: «أبعده الله وأسحقه» قالوا من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له».
وقوله مِنَ الرَّحْمَةِ، مِنَ هنا لبيان الجنس أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالا، ويصح أن يكون لابتداء الغاية، ثم أمر الله عباده بالترحم على آبائهم وذكر منتهما عليه في التربية ليكون تذكر تلك الحالة مما يزيد الإنسان إشفاقا لهما وحنانا عليهما، وهذا كله في الأبوين المؤمنين، وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قربى، وذكر عن ابن عباس هنا لفظ النسخ، وليس هذا موضع نسخ، وقوله رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما أو من غير ذلك، ويجعلون ظاهر برهما رياء، ثم وعد في آخر الآية بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة بعد الأوبة إلى طاعة الله، واختلفت عبارة الناس في «الأوابين»، فقالت فرقة هم المصلحون، وقال ابن عباس: هم المسبحون، وقال أيضا: هم المطيعون المحسنون، وقال ابن المنكدر:
هم الذين يصلون العشاء والمغرب، وذلك أن رسول الله ﷺ سئل عن الصلاة في ذلك الوقت فقال: «تلك صلاة الأوابين»، وقيل غير هذا من المستغفرين ونحوه، وقال عون العقيلي: هم الذين يصلون صلاة الضحى، وحقيقة اللفظة أنه من آب يؤوب إذا رجع، وهؤلاء كلهم لهم رجوع أبدا إلى طاعة الله تعالى، ولكنها لفظة لزم عرفها أهل الصلاح، قال ابن المسيب هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب، وفسر الجمهور «الأوابين» بالرجاعين إلى الخير، وقال ابن جبير: أراد بقوله غفورا للأوابين الزلة والفلتة تكون من الرجل إلى أحد أبويه، وهو لم يصر عليها بقلبه ولا علمها الله من نفسه، وقالت فرقة «خفض الجناح» هو ألا يمتنع من شيء يريدانه.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)
اختلف المتأولون في «ذي القربى»، فقال الجمهور: الآية وصية للناس كلهم بصلة قرابتهم، خوطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد الأمة، وألحق في هذه الآية ما يتعين له من صلة الرحم وسد الخلة

صفحة رقم 449

والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه، قال بنحو هذا الحسن وعكرمة وابن عباس وغيرهم، وقال علي بن الحسين في هذه: هم قرابة النبي عليه السلام، أمر النبي عليه السلام بإعطائهم حقوقهم من بيت المال.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أبين، ويعضده العطف ب الْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ. وَابْنَ السَّبِيلِ هنا يعم الغني والفقير إذ لكل واحد منهما حق وإن اختلفا، «وابن السبيل» في آية الصدقة أخص، و «التبذير» إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح، وهو من البذر، ويحتمل قوله تعالى: الْمُبَذِّرِينَ أن يكون اسم جنس، ويحتمل أن يعني أهل مكة معينين، وذكره النقاش، وقوله تعالى: إِخْوانَ يعني أنهم في حكمهم، إذ المبذر ساع في فساد والشيطان أبدا ساع في فساد، وإِخْوانَ جمع أخ من غير النسب، وقد يشذ، ومنه قوله تعالى في سورة النور أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ [النور: ٣١] والإخوة جمع أخ في النسب وقد يشذ، ومنه قوله تبارك وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: ١٠] وقرأ الحسن والضحاك «إخوان الشيطان» على الإفراد، وكذلك في مصحف أنس بن مالك، ثم ذكر تعالى كفر الشيطان ليقع التحذير من التشبه به في الإفساد مستوعبا بينا، وقوله تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ، الضمير في عَنْهُمُ عائد على من تقدم ذكره من المساكين وبني السبيل، فأمر الله تعالى نبيه في هذه الآية إذا سأله منهم أحد، فلم يجد عنده ما يعطيه فقابله رسول الله ﷺ بالإعراض تأدبا منه في أن لا يرده تصريحا، وانتظار الرزق من الله تعالى يأتي فيعطي منه، أن يكون يؤنسه بالقول الميسور، وهو الذي فيه الترجية بفضل الله تعالى والتأنيس بالميعاد الحسن والدعاء في توسعة الله تبارك وتعالى وعطائه، وروي أنه عليه السلام كان يقول بعد نزول هذه الآية، إذا لم يكن عنده ما يعطي: يرزقنا الله وإياكم من فضله، ف «الرحمة» على هذا التأويل الرزق المنتظر، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة، وقال ابن زيد «الرحمة» الأجر والثواب، وإنما نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله ﷺ فيأبى أن يعطيهم لأنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم منهم نفقة المال في فساد، فكان يعرض عنهم رغبة الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم، فأمره الله تعالى بأن يقول لهم قَوْلًا مَيْسُوراً يتضمن الدعاء في الفتح لهم والإصلاح.
قال القاضي أبو محمد: وقال بعض أهل التأويل الأول، نزلت الآية في عمار بن ياسر وصنفه، و «الميسور» مفعول من لفظة اليسر، تقول يسرت لك كذا إذا أعددته، وقوله وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ الآية، روي عن قالون «كل البصط» بالصاد، ورواه الأعشى عن أبي بكر، واستعير لليد المقبوضة جملة عن الإنفاق المتصفة بالبخل «الغل إلى العنق»، واستعير لليد التي تستنفد جميع ما عندها غاية البسط ضد الغل، وكل هذا في إنفاق الخير، وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام، وهذه الآية ينظر إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل البخيل والمتصدق»، والحديث بكامله، والعلامة هنا لاحقة ممن يطلب من المستحقين فلا يجد ما يعطي، و «المسحور» المنفه الذي قد استنفدت قوته تقول حسرت البعير إذا أتعبته حتى لم تبق له قوة فهو حسير، ومنه قول الشاعر: [الطويل]

صفحة رقم 450
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز
عرض الكتاب
المؤلف
أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي
تحقيق
عبد السلام عبد الشافي محمد
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1422 - 2001
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية
لهد الوجى لم كن عونا على السرى ولا زال منها ظالع وحسير