آيات من القرآن الكريم

إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا
ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ ﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ

وقد انطوى فيها تلقين مستمر المدى أيضا. فقد اقتضت حكمة الله تعالى ألا يمنع متاع الدنيا ووسائلها عن الناس وأن يكون ذلك في متناولهم فإذا شاء أن ييسر لأحد نصيبا وحظّا فليس معناه أنه راض عنه وإنما معناه أنه تحت الاختبار فعليه ألّا يكتفي بذلك ويغتر وينشغل به عن التفكير في العواقب وأن يفكر في الآخرة ويسعى في سبيل النجاة من أهوالها ونيل رضاء الله ونعيمه فيها بالإيمان والعمل الصالح.
وواضح أن الآيات بهذا الشرح المستلهم من روح الآية والنصوص القرآنية الأخرى لا تتضمن تقبيح الاستمتاع بالحياة الدنيا وزينتها وإنما تتضمن التحذير من الاستغراق فيها استغراقا ينسى صاحبه التفكير في العواقب والقيام بواجباته نحو الله والناس.
وجملة وَهُوَ مُؤْمِنٌ في الآية الأولى هي قيد تنبيهي سبق وروده في الآية [١١٢] من سورة طه. ونبهنا على ما انطوى فيه من مغزى هام. فنكتفي بهذه الإشارة.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٢ الى ٣٩]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١)
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦)
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩)

صفحة رقم 373

(١) مخذولا: لا نصير له ولا مؤيد.
(٢) واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة: واخفض لهما جناحك متذللا من فرط رحمتك بهم.
(٣) الأوابين: التائبين الراجعين إلى الله.
(٤) وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا:
بمعنى إذا لم تستطع مساعدتهم فورا وتأخرت في ذلك انتظارا ليسر تنتظره من الله فعليك أن تطيّب قلوبهم بالقول.
(٥) مغلولة إلى عنقك: مقيدة. والجملة كناية عن شدة الإمساك والتقتير.
(٦) محسورا: أصل الحسر بمعنى الكشف. والحسرة هي انكشاف ما كان مانعا من الغمّ. وقيل إن الحسر هو الكلال والعجز. والكلمة على كل حال بمعنى فناء جميع ما في اليد والعجز والحسرة بعد ذلك.
(٧) يبسط: يوسع.
(٨) يقدر: يضيق ويقتر ولعلّ معناها اللغوي هو أن الرزق أحيانا يكون بحساب وقدر محدود. وفي القرآن آيات تذكر مقابل ذلك أن الله يرزق من يشاء بغير حساب.

صفحة رقم 374

(٩) الإملاق: الفقر والعجز عن الإعالة.
(١٠) خطأ: ذنبا وإثما.
(١١) إنه كان منصورا: إن له حق النصر والقصاص وليس له الإسراف في الانتقام.
(١٢) القسطاس المستقيم: الميزان المضبوط السليم من الغش.
(١٣) أحسن تأويلا: هنا بمعنى أحسن عاقبة، من الأيلولة.
(١٤) ولا تقف ما ليس لك به علم: من القيافة وهي تتبع الأثر. ومعنى الجملة لا تتدخل فيما ليس لك به علم وشأن.
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد ﷺ وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.

صفحة رقم 375

وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع. لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إلخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله تعالى أعلم قصد الإشارة إلى النظام

صفحة رقم 376

الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلَّا... وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [٣٧] وسورة سبأ [٣٦] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [٣١] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [٣٣] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل وإنما يقتلون غيره من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لا سيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق. حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة

صفحة رقم 377

جاهلية ظالمة وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ على محمل آخر أيضا حيث قالوا إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لولي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة
ويلفت النظر خاصة:
(١) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات. مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
(٢) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله. في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألّا يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً في الآية [٢٤] قد نسخت باية سورة التوبة هذه ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا

صفحة رقم 378

معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
(٣) إلى استعمال كلمة حَقَّهُ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة للرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
(٤) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السواد الأعظم من خلق الله مرتكسين في الحرمان والجوع والمرض. وتقرير كون ذلك من وساوس الشياطين المؤدية إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.
(٥) إلى ما في جملة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) من تقرير كون نيات الناس وأخلاقهم هي المقياس لتصرف الله عز وجل نحوهم بالرحمة والنقمة مما قررته آيات عديدة بأساليب متنوعة مرّت أمثلة منها ومما فيه حثّ على الصلاح وتحميل الناس مسؤولية ما يقع عليهم.
(٦) إلى التعليم الرباني الجميل في حالة تعذر مساعدة المحتاج فورا وهو التصرف معه بالحسنى وتطييب خاطره وبعث الأمل فيه إلى فرصة أخرى ييسر الله فيها من رحمته ما يساعد على مساعدته.
(٧) إلى الأسلوب اللاذع القوي في النهي عن الخيلاء والزهو والكبر والغرور. فمهما بلغ المرء من أمر فهو إنسان كسائر الناس! ولن يخرق الأرض

صفحة رقم 379

بقدمه ولن يطاول الجبال برأسه. وأحرى به أن يعرف حده ويقف عنده وأن يعترف للآخرين بإنسانيتهم المماثلة لإنسانيته.
(٨) إلى الأمر بالوفاء بالعهد والتنبيه إلى أن الإنسان مسؤول عن عهده أمام الله. ولقد تكرر هذا الأمر بأساليب مختلفة في القرآن المكي ثم المدني. ووصل الأمر في ذلك إلى أن نزلت آية تأمر المسلمين بالوفاء بعهودهم مع الكفار حتى لو استصرخهم عليهم مسلمون تحت سلطانهم على ما جاء في آية سورة الأنفال هذه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. (٧٢)
(٩) إلى أن الوصايا قد انصبت على النهي عن كل ما فيه شذوذ عن توحيد الله عز وجل وعقوق للوالدين، وعدوان على دماء الناس وأموالهم وأعراضهم وظلم للضعفاء (ويمثلهم فيها اليتامى) وغدر ونكث للعهود، أو الذي فيه إسراف وتبذير وخيلاء. وهذا يلحظ في سلسلة سورة الفرقان حيث يؤيد هذا ما قلناه في سياق تفسير الآيات [٣١- ٣٣] من سورة الأعراف وهو أن القرآن قد جرى على خطة بيان المحظورات وحسب، وأباح ما عداها مما ليس فيه شرك وإثم وإسراف وبغي وغدر وظلم.
ويلفت النظر بخاصة إلى ما تضمنته الآيات مما يصح أن يسمى حكمة التشريع من بيان نفع ما أمرت بفعله وضرر ما نهت عنه وفي هذا خطاب للعقل وتنبيه للضمير. وهو ما تكرر كثيرا في الأوامر والنواهي القرآنية.
ولقد علقنا في مناسبة سابقة على ما أعارته حكمة التنزيل لحق اليتيم وماله وحالته من عناية وأوردنا طائفة من الأحاديث في ذلك فلم نر ضرورة إلى التكرار بمناسبة ما جاء في الآيات من التنبيه على وجوب رعاية مال اليتيم.
ولقد أورد المفسرون في سياق هذه السلسلة أحاديث نبوية مختلفة الرتب في

صفحة رقم 380

توكيد وتوضيح ما احتوته من أوامر ووصايا ربانية منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد، وقد رأينا أن نجاريهم فنورد بعض ما ورد في كتب الصحاح منها كأمثلة للتساوق بين التلقين القرآني والتلقين النبوي. ففي صدد برّ الوالدين روى مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «رغم أنفه ثمّ رغم أنفه ثمّ رغم أنفه.
قيل يا رسول الله من قال من أدرك والداه عنده الكبر أحدهما أو كلاهما ثمّ لم يدخل الجنّة»
«١» وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال «رضا الرّبّ من رضا الوالد وسخط الرّبّ من سخط الوالد» «٢».
وفي صدد البرّ بالأرحام وذوي القربى روى البخاري ومسلم حديثا عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «من سرّه أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» «٣» وروى البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال «قال النّبي ﷺ لا يدخل الجنّة قاطع رحم» «٤».
وفي صدد وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ أورد ابن كثير حديثا قال إنه في الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر قالت «قال رسول الله ﷺ أنفقي هكذا وهكذا، ولا توعي فيوعي الله عليك، ولا توكي فيوكي الله عليك».
وفي صدد وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى أورد ابن كثير حديثا عن مالك الطائي عن النبي ﷺ قال: «ما من ذنب بعد الشّرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا تحلّ له».
وفي صدد وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ روى البخاري ومسلم عن عبد الله ابن مسعود قال: «قلت يا رسول الله أيّ الذنب أعظم، قال أن تجعل لله ندّا وهو

(١) التاج ج ٥ ص ٤ و ٦.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه ص ٩ و ١٠.
(٤) المصدر نفسه.

صفحة رقم 381

خلقك، قلت ثمّ أيّ قال أن تقتل ولدك حشية أن يطعم معك» «١».
وفي صدد وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ روى البخاري وأبو داود عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما» «٢». وروى النسائي عن النبي ﷺ قال: «لزوال الدّنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم» «٣».
وفي صدد الوفاء بالعهد روى الأربعة عن عبد الله بن عمرو أن النبي ﷺ قال:
«أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلّة منهنّ كانت فيه خلّة من نفاق حتّى يدعها إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» «٤». وروى الشيخان والترمذي عن عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال: «لكلّ غادر لواء يوم القيامة يعرف به يقال هذه غدرة فلان» «٥».
وفي صدد وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال «قال رسول الله إيّاكم والظّنّ فإنّ الظّنّ أكذب الحديث، ولا تحسّسوا ولا تجسّسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» «٦» وروى الترمذي عن عطية السعدي عن النبي ﷺ قال: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا ممّا به البأس» «٧» وروى أبو داود والترمذي عن أبي برزة الأسلمي عن النبي ﷺ قال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم فإنّ من اتبع

(١) التاج ج ٣ ص ٤.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) ج ٤ ص ٣٩.
(٥) ج ٥ ص ٤١.
(٦) المصدر نفسه ص ٢٧. [.....]
(٧) المصدر نفسه ص ١٦٦.

صفحة رقم 382

عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتبع الله عورته فضحه في بيته» «١» وحديث رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن علي بن الحسين عن النبي ﷺ قال: «إنّ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» «٢».
وفي صدد وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً روى الشيخان عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: «بينما رجل يمشي قد أعجبته جبّته وبرداه إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل في الأرض حتّى تقوم السّاعة» «٣» وروى الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي ﷺ قال: «ألا أخبركم بأهل الجنّة، كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه، ألا أخبركم بأهل النّار كلّ عتلّ جوّاظ مستكبر» «٤».
تعليق على صرف جملة وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ إلى أقارب النبي صلى الله عليه وسلم
روى المفسر الشيعي الطبرسي في مناسبة آية في نفس صيغة هذه الآية في سورة الروم وهي الآية [٣٨] عزوا إلى مجاهد والسدي من علماء التابعين أن هذه الآية هي خطاب للنبي ﷺ خاصة ليعطى أقاربه حقوقهم التي جعلها الله لهم في الغنائم والفيء. وروى عن أبي سعيد الخدري من أصحاب رسول الله ﷺ أن النبي لما نزلت الآية أعطى فاطمة فدكا «٥» وسلّمها إليها. وعن أبي جعفر وأبي عبد الله من الأئمة الاثني عشر مثل ذلك. ثم روى أن المأمون ردّ فدكا إلى بني فاطمة بناء على هذه الروايات. وروى الطبري عن ابن الديلم في سياق تفسير سورة الإسراء أن علي بن الحسين رضي الله عنهما قال لرجل من أهل الشام «أما تقرأ في سورة

(١) التاج ج ٥ ص ٢٨.
(٢) التاج ج ١ ص ٦٩.
(٣) التاج ج ٣ ص ١٤٧.
(٤) التاج ج ٥ ص ٢٩ وهناك أحاديث كثيرة من بابها في كتب الصحاح وفي كتب التفسير وبخاصة في تفسير ابن كثير.
(٥) فدك من مستعمرات اليهود التي أفاءها الله على رسوله.

صفحة رقم 383

إسرائيل «١» وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ فقال له وإنّكم للقرابة التي أمر الله أن يؤتى حقّها قال نعم». والمصحف الذي اعتمدناه ذكر في عنوان سورة الإسراء أن آية الإسراء التي نحن في صددها مدنية. وهذا ما تفيده الرواية المروية عن أبي سعيد الخدري أيضا وليس شيء من كل ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة. ولقد توقف الطبري في ما أورده عن ابن الديلم وقال إن الصواب أن الجملة هي خطاب للمؤمنين عامة لحثّهم على إعطاء ذوي قرباهم ما لهم من حقوق بالإضافة إلى المسكين وابن السبيل. ولقد أورد ابن كثير الرواية المروية عن أبي سعيد الخدري وقال إنها أشبه أن تكون من وضع الرافضة وإن الآية مكية، وفدك إنما فتحت في السنة السابعة بعد الهجرة. ثم صرف الجملة إلى المؤمنين عامة. مثل الطبري، ومعظم المفسرين السنيين صرفوها إلى المؤمنين عامة كذلك. وهو الصواب.
ويزيد في وجاهة وفي غرابة صرف الجملة إلى أقارب النبي ﷺ أن الجملة لم ترد منفردة في الآية بل جاءت مع ذكر المسكين وابن السبيل ومع النهي عن التبذير.
وأعقبتها آية وصفت المبذرين بإخوان الشياطين. وآية أمرت بتطييب نفوس هذه الفئات إذا ما تعذر مساعدتها ماديا في الحاضر. والآية بعد منسجمة كل الانسجام في السياق نظما وموضوعا ومشابهة في الأسلوب للآيات المكية. وآية سورة الروم المماثلة لها مثلها تماما. ولا يذكر أحد أنها مدنية. وآية سورة الروم التي يسوق الطبرسي الروايات في مناسبتها منسجمة كل الانسجام مع سياقها أيضا. ونرجح بل نعتقد أن رواية مدنية آية الإسراء ملفقة لتعضيد ذلك الصرف لأنه يكون أكثر غرابة بل مستحيلا في حالة مكية الآية، لأن معظم أقارب النبي ﷺ كانوا في العهد المكي كفارا فضلا عن أن صرف جملة ذَا الْقُرْبى في آيات الفيء والغنائم محل نظر على ما سوف نشرحه في سياق هذه الآيات. والمشهور أن فاطمة رضي الله عنها راجعت أبا بكر رضي الله عنه ليعطيها فدكا إرثا عن رسول الله لأنها كانت فيئه.
فقال لها ليس أحب إليّ من ذلك لولا أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا نورث ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمد من هذا المال، ثم قال والله لا أدع أمرا رأيت

(١) سورة إسرائيل اسم ثان لسورة الإسراء.

صفحة رقم 384
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية