وأصل السعي المشي السريع دون العدو وفوق الهرولة، ويستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا وأكثره يستعمل في الأفعال المحمودة قال الشاعر:
أن أجز علقمه بن سعد سبعة | لا أجزه ببلاء يوم واحد |
قال تعالى مخاطبا حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلم «انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» في هذه الدنيا بالرزق والجاه والعمل والشرف بحسب مراتب العطاء وتفاوت أهله «وَلَلْآخِرَةُ» الآتية «أَكْبَرُ دَرَجاتٍ» ٢١ في الفضل من درجات الدنيا وأعظم تفاوتا فيها «وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» ٢١ من الدنيا، والفرق بين تفضيل الدنيا وتفضيل الآخرة كالفرق بين دركات جهنم ودرجات الجنة، وكالفرق بين الدنيا والآخرة، فعلى الراغب في التعالي بالدنيا أن تشتد رغبته في تعالي الآخرة أيضا، لأنها ذات مقام أبدي والدنيا مزرعة الآخرة فلها يعمل العاملون، وفيها فليتنافس المتنافسون، وقيل في المعنى:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا | ندمت على التفريط في زمن الزرع |
حرب وأولئك المشايخ من قريش، فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم وكان قد أوصى لهم، فقال ابو سفيان ما رأيت كاليوم قط (أي اهانة وحقارة)، إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا، فقال سهيل وكان أعقلهم أيها القوم إني والله قد أرى الذي في وجوهكم فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، دعي القوم ودعيتم (يعني للإسلام ورفض الكفر) فأسرعوا الإجابة وأبطأتم، أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشدّ عليكم فوتا من باب عمر الذي تنافسون عليه. قال في الكشاف هذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة؟ ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعدّه الله لهم في الجنة اكبر وأعظم. لقد أنفق والله سهيل وأخفق ابو سفيان وأنا أقول لقد صدق جار الله فيما قال واسأل الله ان يحقق قوله فيه المبين في الآية الأولى من هذه السورة قال تعالى مخاطبا لرسوله ايضا بما يريده من قومه «ولا تجعل» أيها الإنسان بكل حال من الأحوال «مع الله» الذي لا إله غيره «إلها آخر» مما تسول لك نفسك الخبيثة إلهيته ومما يوسوس لك الشيطان عدوك ربوبيته وهو ليس بشيء يستحق ان تسميه ربا وإلها لأن الإله هو القادر على كل شيء والرب هو الخالق لكل شيء ومربيه ومن دونه من الأوثان عاجزة عن كل شيء، والعاجز لا يصلح ان يكون إلها ولا يجدر أن يتخذ ربا، فإذا فعلت هذا وأطعت هواك فيه «فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً» محقرا موبخا مخزيا «مَخْذُولًا» غديم النضير والمعين من كل أحد ومن كل شيء فتجمع على نفسك الخذلان من الله تعالى والذم من ذوي العقول، إذ اتخذت محتاجا مثلك لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ومن لا يقدر على جلب النفع لنفسه ودفع الضر عنها كيف يرجى منه أن ينفع غيره ويدفع عنه، فجزاؤك أيها الجاعل إلها مع إله السموات والأرض لا يصلح قط للألوهية وإشراكه مع من له الكمال الذاتي الخالق الرازق المنعم. الذمّ في الدنيا والآخرة على عملك هذا الذموم والخذلان التام، إذ لا تجد من يتصرك من العذاب الذي يحل بك، ولا من يعينك على دفعه، ولا من يؤازرك على رفعه الا من هو كافر مثلك، قد زيّن له سوء عمله وهو عاجز عن اجتناب ماحل به مثلك، فتلاوم أنت وإياه على
صفحة رقم 465
ما فاتكم من العمل الصالح المؤدي لخلاصكم من الله، قال تعالى «وَقَضى رَبُّكَ» أمر وحكم وأراد «أَلَّا تَعْبُدُوا» أيها الناس أحدا ولا شيئا «إِلَّا إِيَّاهُ» وحده وهذا الحصر يفيد وجوب العبادة له تعالى منفردا، وتحريم عبادة غيره مطلقا لأن العبادة غاية التعظيم المنعم بالنعم العظام على عابديه جلت ذاته المقدسة فلا تليق إلا لمن هو في غاية التعظيم ولما كانت عبادته هي المقصودة وما خلق الخلق إلا لأجلها قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية ٥٦ من سورة الذاريات في ج ٢ قدمها على كل شيء.
مطلب في برّ الوالدين والحكم الشرعي بذلك:
ولما كان حق الإحسان على العبد بعد طاعة الله تعالى لأبويه اللذين هما السبب الظاهري بوجوده اتبع الأمر بعبادته بالإحسان إليهما فقال «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» ما فوقه احسان إلا عبادة الملك الديان وحده، وذلك بأن تبرّوهما برّا لا مزيد عليه، وتتلطفوا بهما تلطفا لا نهاية له إلا الموت، فتخدمونهما وتقضوا حوائجهما وتعطفوا عليهما برغبة املا برضاء الله المترتب على رضائهما. واعلموا أيها الناس «إِمَّا» أصلها إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا للمعنى «يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ» هو منتهى الشيخوخة الذي قد تحوجهما إليك أيها الولد لما يلمّ بهما «أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما» من حالة الضعف والعجز والهرم فيلتجئان عندك آخر عمرهما كما كنت ضعيفا مبدأ عمرك ملتجئا في حضانتهما، يحنيان عليك بشفقتهما، ويحملان الأذى من تحتك، فلا ينامان حتى تنام، ولا يأكلان حتى تأكل، ولا يستريحان حتى تستريح، ويتمنيان أن يصيبهما كل ما قدر عليك من أذى، وأن تكون معافى لا تصيبك شوكة عن طيب نفس ورغبه منهما، فإذا صارا إليك واحتاجا لعنايتك فيجب أن تقوم لهما بهذه الأمور الخمسة إذا أردت رضاء الله ونظره إليك، أولها «فَلا تَقُلْ لَهُما» إذا كلفاك بشيء مهما كان «أُفٍّ» وهذه الكلمة كناية عن عدم التضجر مما يقولانه لك لأنها كلمة تضجر وكراهية، وأصلها إذا سقط عليك تراب ونفخته عنك تقول أف، ثم توسعوا بها الى كل مكروه، أي ولا تتضجّر منهما أو من فعلهما أو قولهما أو مما يطلبانه منك ولو بمثل هذه الكلمة، بل عليك
أن تتلقى أمرهما برحابة صدر وطلاقة وجه ولين جانب وخفض كلام وتحسين قول لأن النهي عن هذه الكلمة يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قولا وفعلا وإشارة ورمزا قياسا جليسا، إذ يفهم ذلك بطريق الأولى، ويسمى مفهوم الموافقة ودلالة النص وفحوى الخطاب، وقيل يدل على ذلك حقيقة ومنطوقا في عرف اللغة كقولك فلان لا يملك النقير أو الفتيل أو القطمير فإنه يدل كذلك على أنه لا يملك شيئا قليلا ولا كثيرا. واعلم أنه لو يوجد فيما يخاطب به البشر كلمة يعرف أهل الدنيا على اختلاف لغاتهم أنها تدل على أقل من هذا المعنى لذكرها الله تعالى حفظا لحق الوالدين من أن يصل إليهما ما يكدرهما الثاني «وَلا تَنْهَرْهُما» تزجرهما بغلظة وشدة (وهذا معنى النهر) أي لا تزجرهما مما يتعاطيانه مما لا يعجبك أو تكره ما يريدانه منك وان كان ولا بدّ من ان تقول لهما لا تفعلا كذا مما يكون عدم فعله ضروريا فقل لهما ألا تتركان هذا ألا تعرضان عنه، لأنه كما إنك ممنوع من التضجر بالقتيل والكثير ممنوع أيضا من إظهار المخالفة لهما في القول والفعل والرد عليهما والتكذيب لهما والكذب عليهما، ولهذا روعي هذا الترتيب وإلا فالمنع من التأفيف يدل على المنع من النهر بطريق الأولى فيكون ذكره بعده عبثا، وحاشا كلام الله منه الثالث «وَقُلْ لَهُما» عند المخاطبة أو التكليف بشيء ما أو التعدي عليك لغرض ما «قَوْلًا كَرِيماً» ٢٣ جميلا لاشراسة فيه ولا اكفهرار، بأن تقول يا أبتاه يا أماه مراعيا معهما حسن الأدب، لان مناداتهما باسمهما من الجفاء، وأن يصدر جوابك لهما عن لطف ومنة وعطف، وان تقف أمامهما وقفة المأمور بين يدي الآمر، ولا تقل هاء بل لبيكما وسعديكما، قال ابو الهداج لسعيد بن المسيب كل ما ذكره الله تعالى في القرآن من برّ الوالدين فقد عرفته إلا قوله تعالى (قَوْلًا كَرِيماً) فما هذا القول الكريم؟ فقال ابن المسيب قول العبد المذنب للسيد الفظ. أي يكون بغاية من الرقة والأدب ونهاية من الخضوع والتذلل، قال الراغب كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم، الرابع «وَاخْفِضْ» أمر الله تعالى الولد بخفض الجانب لوالديه ليتسارع بالانقياد لما يريد انه منه دون تردد، أي تواضع واخشع وألن «لَهُما جَناحَ الذُّلِّ» بأن
صفحة رقم 467
تجعل نفسك ذليلة أمامهما زيادة في التأدب. واعلم ان خفض الجناح مأمور به لكل أحد قال تعالى لحضرة الرسول (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) الآية ٨٩ من سورة الحجر في ج ٢، فكيف بالوالدين؟ وهذا اللين المطلوب منك لهما كائن «مِنَ الرَّحْمَةِ» عليهما أي لا يكون خفض جناحك لهما خوفا او رياء او مداهنة او غير ذلك، بل لكمال الرأفة بهما وخالص الشفقة عليهما كما كانا كذلك لك في صغرك حين كنت مفتقرا إليهما إذ آل افتقارهما إليك، ولا
تمنعهما شيئا أحبّاه.
واعلم أن احتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه غاية الضراعة والمسكنة، فيحتاج إلى أشد رحمة وأفرط رأفة ولله در الخفاجي إذ يقول:
يا من أتى يسأل عن فاقتني | ما حال من يسأل من سائله |
ما ذلة السلطان إلا إذا | أصبح محتاجا إلى عامله |
وأن تدعو لهما، وتتواضع لهما، وتلين جانبك لهما حينما يكلمانك أو تجاربهما، وأن لا تزجرها، وأن تخاطبهما باللطف وتحترمهما غاية الاحترام، هذا وقد بالغ جل شأنه في التوصية بهما إذ شفع الإحسان إليهما بعبادته وتوحيده سبحانه، وجعل ذلك كله قضاء مبرما عليه، وحث حضرة الرسول على ذلك أيضا، فقد روى ابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلم ورجح الترمذي وقفه قال: رضاء الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين. وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد وكان المسلمون إذ ذاك بحاجة إليه، فقال أحيّ والداك قال نعم، قال ففيهما فجاهد.
فجعل صلّى الله عليه وسلم القيام بأمورهما خيرا له من الجهاد وأعظم أجرا عند ربه. وجاء في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال لو علم الله تعالى شيئا أدنى من الأف لنهى عنه، فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة، وليعمل البارّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار. ورأى ابن عمر رجلا يطوف بالكعبة حاملا أمه على رقبته فقال يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال لا ولا بطلقة واحدة، ولكنك أحسنت والله تعالى يثيبك على القليل كثيرا. وروى مسلم وغيره لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعنقه. وعنه عليه الصلاة والسلام إياكم وعقوق الوالدين فإن الجنة يوجد ريحها من مسيرة ألف عام ولا يجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء إن الكبرياء لله رب العالمين. قدّم في هذا الحديث العاق على قاطع الرحم لأن العقوق أعظم لاشتماله على قطع الرحم وعدم احترام الأبوين الذين وصّى الله ورسوله بهما ومخالفتهما مخالفتهما، ولا أعظم منها وزرا. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريره قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك ثم أمك ثم أباك، ثم أدناك فأدناك؟
أي الأقرب فالأقرب منك. وروى مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه، قيل من يا رسول الله؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة أي بسبب برّهما. وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله
تعالى؟ قال الصلاة لوقتها، قلت ثم، قال برّ الوالدين، قلت ثم، قال الجهاد في سبيل الله. وعن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فضيّع ذلك الباب أو احفظه- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح- وروى البيهقي في الدلائل والطبراني في الأوسط والصغير بسند فيه من لا يعرف عن جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أبي أخذ مالي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم فاذهب فأتني بأبيك فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول إذا جاء الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه، فلما جاء الشيخ قال له النبي صلّى الله عليه وسلم ما بال ابنك يشكوك تريد أن تأخذ ماله، قال سله يا رسول الله هل أنفقه إلا على عماته وخالاته أو على نفسي؟ فقال صلّى الله عليه وسلم ايه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك، فقال الشيخ والله يا رسول الله ما يزال الله تعالى يزيدنا بك يقينا، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي، فقال قل وأنا أسمع فقلت:
غذوتك مولودا وصنتك يافعا | تعلّ بما أجني عليك وتنهل |
إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت | لسقمك إلا ساهرا أتململ |
كأني أنا المطروق دونك بالذي | طرقت به دوني فعيني تهمل |
تخاف الرّدى نفسي عليك وإنها | لتعلم أن الموت وقت مؤجل |
فلما بلغت السن والغاية التي | إليها مدى ما كنت فيها أؤمل |
جعلت جزائي غلظة وفظاظة | كأنك أنت المنعم المتفضل |
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي | فعلت كما الجار المجاور يفعل |
تراه معدا للخلاف كأنه | برد على أهل الصواب موكل |
قرن عبادته بالإحسان إليهما، وقال في الآية ١٤ من سورة لقمان (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) الآية في ج ٢، فقد قرن شكره بشكرهما أيضا إيذانا بعظيم حقهما وإعلاما بأن من لم يحسن إليهما لم يعبد الله، ومن لم يشكرهما لم يشكر الله، فالسعيد من وفق لبرهما والشقي من عقهما. ولهذا البحث صلة في تفسير الآيتين الآنفتي الذكر فراجعهما. هذا والأم مقدمة في البرّ على الأب لزيادة حقها ولضعف جانبها، فهي مستوجبة للإحسان زيادة على الأب، فعلى العاقل الموفق أن يبذل جهده ووسعه ببرهما، ولتكن معاملة الإنسان لمثله باللطف وللضعيف بالإحسان، وللمريض بالعطف، وللفقير بالمعونة، وللجاهل بالتعليم، وللعالم بالأدب، وللعامل بالعمل، وللمخترع بالتشجيع، وهكذا لكل بما يناسبه. واعلم أنه لا يختص البر بالحياة فقط بل يكون بعد الموت أيضا، فقد روى ابن ماجه أن رجلا قال يا رسول الله هل بقي من برّ أبوي شيء أبرهما به؟ بعد موتهما فقال نعم الصلاة عليهما، أي الدعاء والاستغفار لهما وإيفاء عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما. وروى هذا الحديث ابن حبان في صحيحه بزيادة قال الرجل ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه، قال فاعمل به. وأخرج البيهقي عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وانه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله تعالى بارّا. وأخرج عن الأوزاعي قال بلغني أن من عقّ والديه في حياتهما ثم قضى دينا إن كان عليهما واستغفر لهما ولم يستب لهما، كتب بارّا، ومن برّ والديه في حياتهما وقام بواجبهما كما ينبغي حتى ماتا مدينين وكان مقتدرا على أداء دينهما ولكنه استنكف ولم يستغفر لهما واستبّ لهما كان عاقا. وأخرج هو أيضا وابن أبي الدنيا عن محمد بن النعمان يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قال من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب برّا. وروى مسلم أن ابن عمر رضي الله عنهما لقيه رجل بطريق مكة فسلم عليه ابن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار فقلت أصلحك الله تعالى إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير، فقال إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إنّ أبرّ البرّ صلة الولد أهل ودّ أبيه.
صفحة رقم 471
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بردة رضي الله عنه قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال أتدري لم أتيتك؟ قال قلت لا، قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده، وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاه وودّ فأحببت أن أصل ذلك. وجاء في الخبر احفظ ودّ أبيك. وإذا عرفت هذا فاعلم أن العقوق من الكبائر لأن حضرة الرسول عده منها، والعقوق هو أن يؤذي والديه أو أحدهما بما لو فعله مع غيره كان محرّما من جملة الصغائر، أما إذا طالب الولد والديه بدين لا يكون عقوقا لأنه لو فعله مع غيرهما لا يكون حراما، أما طلب حبسه لأجل الدين فمن العقوق، كما أنه لو طلب حبس المعسر فإنه لا يجوز ومجرّد الشكوى منهما لا تعد عقوقا لأن إقامة الدعوى على الغير بحق جائزة، وقد شكا بعض ولد الصحابة آباءهم إلى رسول الله ولم ينهه، وهو الذي لا يقر على باطل، أما بنهرهما وزجرهما فمن الكبائر لثبوت النهي عنه نصا كما مر عليك، ومخالفة أمر الوالد فيما إذا فعله لحق بالولد ضرر أو يغلب على ظنه لحوق الضرر لا يعدّ عقوقا ولا مخالفة بل
عليه الطاعة والامتثال فيما عدا ذلك. ومن الكبائر أن يسافر الولد ويترك أبويه أو أحدهما بلا نفقه مع قدرته وحاجتهما، أما السفر إلى حج الفرض وطلب العلم فلا يحق للوالدين المنع إذا تأمنت نفقتهما من مالهما أو ماله، وإن مخالفتهما في هذين لا يعدّ عقوقا ولا يكون فعله كبيرة، أما إذا لم يؤمن نفقتهما مدة ذهابه وإيابه فلا يجوز له الذهاب مطلقا، لأن حقهما أقدم من غيره، وإن فعل كان عاقا ومخالفا ومرتكبا الكبائر، وإذا خالفهما فيما لا دخل لهما فيه ولا ضرر فيه عليهما ولا عليه فلا شيء عليه البتة، إلا أن عدم المخالفة أولى لئلا يحقدا عليه، وإذا فعل فعلا يسبّب ضررا إليهما فيحرم عليه ذلك، لأن إضرار هما والتسبب لإضرارهما حرام ولو كلف الوالد ابنه طلاق زوجته التي يحبّها فلم يمتثل فلا إثم عليه، لأن هذا من خصائصه ولا ضرر يلحقهما منه رأسا ولا تسببا، وإذا كان يقدر أن يصبر عن زوجته فطلقها امتثالا لأمر والديه أو أحدهما فهي فضيلة له يثاب عليها، كما يأثم الوالدان إذا تسببا لطلاقها بلا سبب شرعي، فقد روى ابن حبان في صحيحه أن رجلا أتى
أبا الدرداء فقال إن أبي لم يزل بي حتى زوّجني امرأة وإنه الآن يأمرني بطلاقها، قال ما أنا بالذي آمرك أن تعقّ والديك، ولا بالذي آمرك أن تطلق زوجتك، غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، سمعته يقول الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ على ذلك إن شئت أو دع. وروى أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها، فأبيت، فأتى عمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال صلّى الله عليه وسلم طلقها. هذا إذا طلب طلاقها لمطلق كراهتها، وأما إذا كان لأمر يتعلق بالغيرة أو بالدين أو بالآداب فلا بد من الامتثال.
أما أوامره التي لا حامل لها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه بحيث لو عرضت على ذوي العقول لعدوها عبثا أو متساهلا فيها، فلو خالفهما فيها فلا إثم عليه، وينبغي للولد أن لا يتضجر من هكذا أوامر فلو تضجر أو قطب وجهه لقاءهما أو لم يقم لهما حينما يأتيانه بحضور الناس كان عقوقا لهما مؤاخذ عليه، لأنه أكثر من الأف التي نهاه الله عنه، ولا يقال إن الوالدين إنما طلبا بزواجهما تحصيل اللذة لأنفسهما لا لقصد الولد، لأنه إنما لزم منها وجود الولد ودخوله في عالم الآفات والمخالفات، فلا فضل لهما عليه ولا منّة، كما أن أحد المسمّين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول له أنت أدخلتني في عالم الكون والفساد وعرضتني للموت والفقر والعمى والزمانة.
وقيل لأبي العلاء المعري ولم يكن ذا ولد ما نكتب على قبرك فقال اكتبوا عليه:
هذا جناه أبي عليّ... وما جنيت على أحد
وقال في ترك التزوج وعدم الولد:
وتركت فيهم نعمة العدم التي... سبقت وصدت عن نعيم العاجل
ولو أنهم ولدوا لنالوا شدة... ترمي بهم في الموبقات الآجل
وقال ابن رشيق:
قبح الله لذة لشقانا... نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفقر فإيجادنا علينا بلاء وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم منّة أم والدك؟ فقال الأستاذ أعظم منّة
لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي حتى أوقفني على نور العلم، وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى عالم الكون والفساد. فانظر هداك الله إلى هؤلاء وأمثالهم الذين ينظرون إلى ظواهر الأمور ويتركون بواطنها والثمرة المطلوبة منها دون تروّ بالمراد الحقيقي الذي من أجله يكون الشيء وهم حكماء تأخذ الناس عنهم ويضربون بأقوالهم الأمثال، وإذا أجلت النظر فيما ذكروه وأنعمت الفكر فيما سطروه في هذا لوجدته طيشا، فلو أنهم قالوا إن الزواج يحفظ النفس من الوقوع في الزنى المنهي عنه شرعا وإن الزواج بقصد ردع النفس عن تعدي حدود الله، وأن الولد جاء بالعرض ولا كل زواج يأتي بالولد، وكم من ولد شرف آباءه في الدنيا والأخرى ونفعهم فيها: لكان أولى وأجدر بمقالهم، وان الذين يتزوجون للذة فقط لبسوا من المتدينين المتمسكين بالدين، بل من الذين يتبعون أهواءهم، وشهواتهم، وهؤلاء غير مقصودين ولا معدودين من الرجال الذين هم رجال بالمعنى الوارد في الآية ٣٧ من سورة النور في ج ٣، فإذا كانوا يحطون أنفسهم إلى درجة أهل الأهواء فلا بدع أن يقولوا ما قالوا، وإلا فيكون قولهم هذا من اللغو الذي يجب أن يمرّ فيه العاقل مر الكرام، راجع الآية ٧١ من سورة الفرقان المارة. واعلم هداك الله إذا قلنا هب أنه أول الأمر كان المطلوب منه لذة الوقاع كما يتقولون أليس الاهتمام بإيصال الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات، إذ لو كان الإدخال في عالم الكون والفساد والتعريض للأكدار والأفكار دافعا لحق الوالدين لزم أن يكون دافعا لحق الله تعالى، لأنه سبحانه هو الفاعل الحقيقي، فلو شاء لما كان الولد. على أن السنّة في الزواج لأهل السنة أولا طلب الولد لتكثير النسل، ثانيا كسر جماح الشهوة، ثالثا تحصين النفس عن التعدي لحدود الله من الزنى ودواعيه، لا للذة فقط، لأن من يقتصر في أمر الزواج على اللذة فقط فليس بكامل، وهذه الأسباب الثلاثة عبارة عن طلب الشيء للمنفعة، ولا ينكرها عاقل متبصر. هذا وإن إنكار حق الوالدين إنكارا لأجلّ الأمور (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) الآية ٤٠ من سورة
صفحة رقم 474
النور في ج ٣، قال تعالى «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ» من بر الوالدين والاهتمام بما يجب لهما من التوقير والاحترام وغيره، ومن العقوق والتقصير وسوء الأدب وغيره في حقهما «إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ» حقيقة مريدين البر بهما وإصلاح شأنهما أو تكونوا طالحين قاصدين العقوق بهما ومخالفتهما وإهمالهما، أما إذا فرط منكم حال حالة الغضب أو الغفلة مما لا يخلو البشر منه وقد أدى إلى أذاهما معنى ومادة، ثم رجعتم إلى الله فتبتم واستغفرتم الله مما وقع منكم واسترضيتم والديكم بشتى الوسائل «فَإِنَّهُ» الإله الحليم التواب «كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً» ٢٥ فيدخلكم في واسع رحمته ويعفو عنكم، لأنه يحب عبده المنيب الأواب. واعلم رعاك الله أن في هذه الآية العظيمة وعدا بالخير من الله لمن أضمر البر والإحسان لوالديه، ووعيدا لمن أضمر لهما الكراهية والاستثقال، وما قاله ابن جبير إن معنى هذه الآية هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ بها قول مقيد لهذه الآية المطلقة وإن بقاءها على إطلاقها أولى لتشمل كل تائب مما وقع منه في حق والديه قليلا كان أو كثيرا، بادرة أو مقصودة، على أن الجاني على أحد أبويه التائب من جنايته توبة خالصة يدخل فيها، لأن معنى الأواب على ما قاله سعيد بن المسيب الذي يذنب ثم يتوب، وعنه أنه الرجاع إلى الخير. وقال ابن عباس الأواب الرّجاع إلى الله فيما يحزنه وينوبه، فلم يقيده في البادرة. وقيل إنه من صلّى بعد المغرب والعشاء يعدّ من الأوابين، وهذه الصلاة تسمى صلاة الأوابين، فقد روى ابن ماجه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال من صلّى بين المغرب والعشاء عشرين ركعة بنى الله له بيتا في الجنة. وروى ابن نضر أن من صلّى ست ركعات بعد المغرب قيل أن يتكلم غفر له ذنوب خمسين سنة أي من
الصغائر. كما جاء في شرح هذا الحديث في كتاب مصباح الظلام للشيخ محمد بن عبد الله الجرداني، وورد فيه أيضا من صلّى ركعتين بعد المغرب وقرأ فيهما بالمعوّذتين لم يرمد وقد جربته فوجدته، وجاء في الصلاة بعد المغرب أحاديث كثيرة رتب عليها أجر كبير لفاعلها أعرضنا عنها اكتفاء بما ذكرنا خشية التطويل، وقد ألمعنا إلى ما يتعلق به في الآية ٣٠ من سورة ص المارة فراجعها تجد ما يقرّ العين من ذوي العقيدة والإيمان.
مطلب في التصدق والتبذير والإسراف والرد بالأحسن:
قال تعالى «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» من نفقة وزيادة عطف، قدّم الله تعالى حق الوالدين لأنهما الأصل، ثم عقبهما بالفروع المحارم، لأن الإنفاق عليهم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب صلة وصدقة وتسمية هذا الإتيان من قبل الله حقا يشعر بإلزام القريب الموسر الإنفاق على قربيه المعسر العاجز على طريق الوجوب، وهذا الحكم الشرعي في ذلك، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ٢٩ من سورة الروم في ج ٢ نظير هذه الآية، وهذه الآية بالنسبة لما قبلها فيها من أنواع البديع ومحسنات الكلام التعميم بعد التخصيص، لأن الوالدين يدخلان في القربى لغة ولم يتناولهما عرفا، ولذا قالوا في باب الوصية المبنية على العرف لو أوصى لذوي قرابته لا يدخل أبواه، وجاء في المعراج من قال لأبيه قربي فقد عقّه. واعلم أن هذا الحق لا ينحصر في النفقة بل يشمل حسن المعاشرة والرحمة والتوقير، لأن اللفظ عام والآية معطوفة على ما قبلها الشاملة لسائر الحقوق المانعة بجميع أنواع العقوق، وما قيل إن هذه الآية خاصة بحضرة الرسول وأن الله أمره بها ليؤتى أقاربه، أو أنها لما نزلت دعا فاطمة رضي الله عنها فأعطاها فدكا مناف لعموم الآية، لأن فدكا في المدينة وهذه الآية مكية، فضلا عن أنه لا قرينة فيها على التخصيص البتة، ومما يؤيد عدم الإختصاص هو أن فدكا لم تكن إذ ذاك تحت تصرف المصطفى صلّى الله عليه وسلم وكانت طلبتها إرثا بعد وفاته. أما ما قاله الحسن بأن هذه الآية مدنية فيصحّ على قوله ما قيل في سبب نزولها، وحينئذ يراد بالحق هنا الزكاة المفروضة، إلا أن سياق الآية يدل على أنها مكيّة كورتها على قول الجمهور والله أعلم، «وَالْمِسْكِينَ» الذي لا مال له ولا كسب وهو عاجز، أما الفقير فالذي لا يكفيه كسبه، وقيل بالعكس راجع الآية ٧٨ من سورة الكهف في ج ٢، «وَابْنَ السَّبِيلِ» المسافر الذي انقطع عن أهله ولو كان غنيا في بلده، أي أعط أيها الغني مما أعطاك الله هذين الصنفين أيضا بعد أبويك وقرابتك مما زاد على حاجتك من مالك بقدر ما يسد حاجتهما «وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» ٢٦ بمالك وتسرف فيه، بأن تعطيه من لا يستحقه
أو تصرفه في غير مصارفه الشرعية أو تتجاوز الحد اللازم في الإعطاء والصرف ولو على خاصّتك ونفسك، فإن ذلك من التبذير المنهي عنه «إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ» أموالهم المفرقين لها في غير حلها ومحلها «كانُوا» في تبذيرهم هذا «إِخْوانَ الشَّياطِينِ» أعوانهم ورفقاءهم في كفران النعمة مماثلين لهم في صفات السوء من إعطاء المال لمن لا يستحقه، أو صرفه في غير حله، أو إعطائه بقصد الصيت والسمعة والرياء «وَكانَ الشَّيْطانُ» ولم يزل، لأن كان تأتي للدّوام والاستمرار إلى أجل معلوم كما هنا وإلى ما لا نهاية له كقوله تعالى: (وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) الآية ١٥٦ من سورة النساء في ج ٣ وأمثالها كثير، وتأتي للزمن الحاضر فقط مثل كان زيد غنيا، «لِرَبِّهِ كَفُوراً» ٢٧ هو وإخوانه من الإنس يبالغون في كفران النعمة لأنهم يصرفون ما أنعم الله به عليهم من القوى والأموال إلى غير ما خلقت لها وللمعاصي والإفساد في الأرض وإضلال الناس عن طريق الهدى، وحملهم على الكفر بالله تعالى وجحود نعمه الفائضة عليهم وتبذيرها في غير محلها، وهذا التخصيص بمقابل الشكر الذي هو صرف النعم إلى ما خلقت إليه، وما قيل إن هذا الكفر المذكور بهذه الآية جاء على ما يقابل الإيمان ليس بشيء لمخالفته المقام وسياق الآيات.
وإنما الله سمى الإنفاق لهذين الصنفين حقا لأن أهل مكة قبل الإسلام كانوا افترضوا على أنفسهم إنفاق شيء من أموالهم لنشر الصيت، وكان التصدق مفروضا على الأمم السابقة وكان أهل مكة ينفقون هذا القسم للسمعة والملاهي والطرق التي لا خير فيها، فأمر الله رسوله في هذه الآية بإنفاق هذا الحق لأهله الذين ذكرهم، وهذا قبل نزول آية الزكاة المفروضة، أما بعد نزولها فيكون منها وعلى القدر الذي سنه حضرة الرسول كما سيأتي في الآية ٢٢١ من سورة البقرة والآية ٥٩ من سورة التوبة في ج ٣ وغيرها من السور المدنية. واعلم أن التبذير هو كل إنفاق بغير محله كما علمت مما مرّ عليك، وأصله في اللغة التفريق مأخوذ من إلقاء البذر في الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه، وشرعا إنفاق المال في غير حقّه مما هو تجاوز في موقع الحق وجهل بكيفيته، أما الإسراف فهو التجاوز في الكمية وجهل بمقدار الحق، وكلاهما مذموم، قال مجاهد لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا. وقد أنفق بعض
المحققيين نفقة في خير فاكثر، فقال له صاحبه لا خير في السّرف، فأجابه كثر الله أحبابه: لا سرف في الخير، وهذا صحيح إذا كان في أهله وعن غنّى ويحسن نية.
قال تعالى «وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ» أيها الغني القريب «عَنْهُمُ» عن أقاربك الفقراء المحتاجين العاجزين والمساكين المعدمين والفقراء وأبناء السبيل المقطوعين لضيق ذات يدك أو لأمر أخطرك فأوجب إغضاءك عنهم حياء وكان ذلك منك «ابْتِغاءَ» طلب ورجاء «رَحْمَةٍ» رزق «مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها» تتوقعها وتترقب حصولها ومجيئها لتعطيهم منها «فَقُلْ لَهُمْ» عند ما تريد انصرافهم أو ردهم «قَوْلًا» جميلا لا تأنيب فيه عليهم ولا كسر لخواطرهم «مَيْسُوراً» ٢٨ لينا وعدهم وعدا تطيب به خواطرهم كأن تقول لهم إن لنا مالا سيحضر أو دينا سنقبضه قريبا ونخصكم به، وادع لهم بما فيه اليسر لك ولهم، وتقدم معنى أمّا بالآية ٢٣ المارة، وأنث الضمير في ترجوها باعتبار اللفظ لأنه سمّى الرزق رحمة وهو يعود إليها ووضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سببا للابتغاء مسبّب عنه فوقع السبب الذي هو الابتغاء موضع المسبب الذي هو الفقد. هذا وما قيل إن هذه الآية نزلت بمهجع وبلال وصهيب وسالم وخبّاب الذين كانوا يسألون حضرة الرسول أحيانا ما يحتاجونه وأنه لا يجد ما يعطيهم فيعرض عنهم حياء ويمسك عن القول، أو أنها نزلت في أناس من مزينة جاءوا يستحملون حضرة الرسول فقال لهم (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) الآية ٩٤ من التوبة في ج ٣، إذ ظنوا أن ذلك من غضب رسول الله، لا وجه لهما ولا حقيقة، لأن هذه السورة مكية وتلك الحادثتين وقعتا في المدينة، وإنما هذه الآية عامّة في كل أحد ولا يخصصها ما قيل إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا سئل شيئا ليس عنده صرف وجهه الشريف وسكت، لأن هذه الحالة شأن كل عاقل منصف، فكيف لا تكون بأكمل الناس عقلا وإنصافا، فهي شاملة لحضرة الرسول وأمته الخيرية على الإطلاق كالآيات التي قبلها. جاء عن الإمام مالك رحمه الله أنه كان لا يري أن يقال للسائل إذا لم يعطه شيئا رزقك الله تعالى أو نحوه، لأن ذلك مما يثقل على السائل ويكره سماعه، ولا ينبغي أن يذكر اسم الله تعالى لمن لا يهش له، وهذا القول ردّ لقول من فسر القول الميسور بأن يقال للسائل رزقك
الله وأعطاك الله، وهو قول مفترى بعيد لصون اسم الله تعالى ممن لا يبتهج بسماعه، ولذلك فسّرنا القول الميسور بالدعاء للفقير باليسر فقط والكلام اللين، وعليه فالأولى أن يقال للسائل ممن لا يريد أن يعطيه ائت بوقت آخر تحاشيا لذكر اسم الله عند من لا يحب سماعه في هذا الباب، فإذا جاء ولم يكن عنده شيء فليقل لم يتيسر لي ما أعطيكم. هذا وقد استدل بعض المفسرين أن في قوله تعالى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ) دليل على النهي عن الإعراض فيكون المعنى إن أردت الإعراض عنهم ولم ترغب أن تعطيهم (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً) بأن تعدهم بالعطاء والانتظار لوقت آخر يتيسر لك الإعطاء فيه ولا تقطع أمله فيك وتلطف به بكلام ليّن ووجه منطلق وخفض جانب، وقدمنا في سورة الضحى ما يتعلق بهذا البحث فراجعه، قال تعالى «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ» أيها الغني الموسع عليك «مَغْلُولَةً» هذا تمثيل لمنع البخل والشح كما قاله بعض المفسرين، لأن البخل يكون في مال الرجل البخيل، والشحّ يكون في مال غيره فهو أقبح من البخل، وهو مبالغة في ذم عدم الإعطاء، وقوله تعالى (إِلى عُنُقِكَ) أي لا تمسك يدك عن الإعطاء فتجعلها كالمربوطه في عنقك «وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ» تمثيل للإسراف في العطية أي لا تعطه جميع ما عندك «فَتَقْعُدَ» إن فعلت ذلك «مَلُوماً» على الإسراف من نفسك لندمك على فقد ذات يدك بسبب طيشك، وعند الناس تلام أيضا على تضييع كل ما في يدك من المال، لأنهم لا يحمدونك على فعلك هذا، ولا يحبذونه لك، وهو عند الله مذموم أيضا، لأنه لا يحبّ المسرفين، راجع الآية ٢٠ من الأعراف المارة ولا يرضى لعباده ما لا يحبه «مَحْسُوراً» ٢٩ متحسرا على ما فرط منك مغموما على لوم نفسك ولوم الناس لك وبقائك صفر اليدين مخالفا لأمر الله تعالى الموجب الأمر بالاقتصاد في النفقة، راجع الآية ٦٦ من سورة الفرقان المارة، لأن هذين النّهيين يوجبان على الرجل أن يسلك سبيلا وسطا بين الإفراط والتفريط، وهذا هو الجود الممدوح والاقتصاد المطلوب وخير الأمور أوساطها، قال ابن الوردي:
بين تبذير وقتر رتبة | وكلا هذين إن زاد قتل |
من اقتصد، وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، وتقول العامة من دبّر ما جاع، ومن رقع ما عري، وصبرك على نفسك خير من صبر الناس عليك. وروى أنس مرفوعا التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل، والهم نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين. وقيل حسن التدبير مع العفاف خير من الغنى مع الإسراف، وقيل أن قوله تعالى (ملوما) راجع إلى قوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ) الآية المارة، وقيل البخيل ملوم حيثما كان، وقوله تعالى (محسورا) راجع إلى قوله تعالى (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) الآية، وهذا وجيه كي يكون قوله تعالى (فتقعد) بيانا لقبح الأمرين، لأنه منصوب بجواب النهيين، تدبر. وهذه الآية عامة مطلقه يدخل في عمومها حضرة الرسول وغيره من الأمة كافة، وما ورد عن جابر قال بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس إذ أتاه صبي فقال إن أمي تستكسيك درعا، فقال من ساعة إلى ساعة يظهر كذا فعد إلينا، فذهب إلى أمّه فقالت قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل صلّى الله عليه وسلم داره ونزع (الدرع) قميصه وأعطاه وقعد عريانا، وأذن بلال، وانتظروا فلم يخرج عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة، فنزلت هذه الآية لا يصح جعله سببا لنزول هذه الآية، لأنها مكية بالاتفاق والحادثة مدنية بدليل تأذين بلال رضي الله عنه، لأن مكة لا أذان فيها ولا جماعة إذ ذاك، وقد تتبع هذا الخبر وليّ الدين العراقي فلم يجده في شيء من كتب الحديث بلفظه هذا، وعلى فرض صحته لا يصح أن يكون سببا للنزول لما علمت، وقد أخرج بن مردويه عن ابن مسعود قال جاء غلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إن أمي تسألك كذا وكذا، فقال ما عندنا اليوم شيء، قال فتقول لك اكسني قميصك، فخلع قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت حاسرا فنزلت، وأخرج ابن أبي حاتم عن النهال بن عمرو نحوه، وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن سيار أبي الحكم قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بزّ من العراق وكان معطاء كريما فقسمه بين الناس، فبلغ ذلك قوما من العرب فقالوا نأتي النبي فنسأله، فوجدوه قد فرغ منه، فأنزل الله هذه الآية. وهذا أيضا لا يصح لأنه حينما كان بمكة لا يأتيه شيء من العراق ولا من غيره، ولم يؤمر بالقتال والغزو وأخذ
صفحة رقم 480