آيات من القرآن الكريم

وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا
ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ

وعليه «١»، وخاطب اللَّه العربَ في هذه الآية بما تَعْرِف، وذلك أنه كان مِنْ عادتها التيمُّنُ والتشاؤم بالطَّيْر في كونها سانحةً وبارحةً، وكَثُر ذلك حتَّى فعلته بالظِّباء وحيوانِ الفَلاَ، وسمَّت ذلك كلَّه تَطَيُّراً، وكانتْ تعتقدُ أنَّ تلك الطِّيَرَةَ قاضية بما يلقي الإِنسان من خيرٍ وشرٍّ، فأخبرهم اللَّه تعالى في هذه الآية بأوجز لفظٍ، وأبلغِ إشارةٍ، أن جميع ما يلقى الإنسانُ من خير وشر قد سَبَقَ به القضاء، وألزم حظه وعمله وتكسُّبه في عنقه، وذلك في قوله عزَّ وجلَّ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، فعَّبر عن الحظِّ والعمل إِذ هما متلازمانِ، بالطائر قاله مجاهد وقتادة «٢»، بحسب معتقد العرب في التطيُّرِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً: هذا الكتابُ هو عمل الإِنسان وخطيئاته، اقْرَأْ كِتابَكَ أي: يقال له:
اقرأ كتابك، وأسند الطبريُّ عن الحسن، أنه قال: يا ابن آدم بُسِطَتْ لك صحيفةُ، ووُكِلَ بك مَلَكَانِ كريمانِ أحدهما عن يمينِكَ يكتُبُ حسناتِكَ، والآخر عن شمالِكَ يحفظُ سيئاتكَ، فأَمْلِلْ ما شئْتَ وأقلِلْ أو أكِثْر حتَّى إِذا مُتَّ طُوِيَتْ صحيفتُكَ فجعلَتْ في عنقك معَكَ في قَبْرك حتى تَخْرُجَ لك/ يوم القيامة كتاباً تلقاه منشوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً قد عَدَلَ واللَّه فيكَ، مَنْ جعلك حسيبَ نَفْسك «٣».
قال ع «٤» فعلى هذه الألفاظِ التي ذكر الحسنُ يكون الطائرُ ما يتحصَّل مع ابْنِ آدم من عمله في قَبْره، فتأمَّل لفظه، وهذا قول ابن عباس «٥»، وقال قتادة في قوله: اقرأ كتابك:
إِنه سيقرأ يومئذ من لم يكن يقرأ «٦».
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٦ الى ٢٠]
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠)

(١) أخرجه الطبري (٨/ ٤٧) برقم: (٢٢١٣٣)، وذكره البغوي (٣/ ١٠٨)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٤٢)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٠٣)، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....]
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ٤٧) برقم: (٢٢١٣٣)، وذكره البغوي (٣/ ١٠٨)، وابن عطية (٣/ ٤٤٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٠٣)، وعزاه لأبي داود في كتاب «القدر»، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٣) ذكره البغوي (٣/ ١٠٨)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٤٣)، وذكره ابن كثير (٣/ ٢٨) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٣٠٤)، وعزاه لابن جرير.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤٤٣).
(٥) أخرجه الطبري (٨/ ٤٩) برقم: (٢٢١٤١)، وذكره البغوي (٣/ ١٠٨)، وابن عطية (٣/ ٤٤٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٢٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٠٤)، وعزاه لابن جرير.
(٦) أخرجه الطبري (٨/ ٥٠) برقم: (٢٢١٤٥)، وذكره البغوي (٣/ ١٠٨)، وابن عطية (٣/ ٤٤٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٠٤)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.

صفحة رقم 457

وقوله سبحانه: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها
قرأ الجمهور «١» :«أَمَرْنَا» على صيغة الماضي، وعن نافع وابن كثير، في بعض ما رُوِيَ عنهما: «آمَرْنَا» بمد الهمزة بمعنى كَثَّرنا، وقرأ أبو عمرو بخلاف عنه: «أَمَّرْنَا» بتشديد الميم، وهي قراءة أبي عثمان النَّهْديِّ، وأبي العاليةِ وابن عبَّاسِ، ورُوِيَتْ عن علي، قال الطبري «٢» القراءة الأولى معناها:
أمرناهم بالطَّاعة، فعصَوْا وفَسَقُوا فيها، وهو قولُ ابن عباس «٣» وابنِ جبير، والثانية: معناها:
كَثَّرناهم، والثالثة: هي من الإِمارَةِ، أي ملَّكناهم على الناس، قال الثعلبي: واختار أبو عُبَيْد وأبو حاتمٍ قراءة الجمهور، قال أبو عُبَيْد: وإِنما اخترْتُ هذه القراءة، لأنَّ المعاني الثلاثةَ مجتمعةٌ فيها، وهي معنى الأمْرِ والإِمارة والكثرة انتهى.
ت: وعبارة ابن العربي «٤» : أَمَرْنا مُتْرَفِيها
يعني بالطاعة، ففسقوا بالمخالَفَة انتهى من كلامه على الأفعال الواقعة في القرآن، «والمترف» : الغنيُّ من المالِ المتنعِّم، والتُّرْفَةُ: النِّعمة، وفي مُصْحف أبيِّ بن كعب: «قَرْيَةً بَعَثْنَا أكابِرَ مُجْرِمِيها فَمَكَرُوا فيها».
وقوله سبحانه: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
، أي: وعيدُ اللَّه لها الذي قاله رسولهم، «والتدميرُ» الإِهلاك مع طَمْس الآثار وهَدْمِ البناء.
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ... الآية: مثال لقريشٍ ووعيدٌ لهم، أي: لستم ببعيد مما حصلوا فيه إِن كذبتم، واختلف في القرن، وقد روى محمَّد بن القاسم في خَتْنِهِ «٥» عَبْد اللَّه بن بُسْر، قال: وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَدَهُ على رأسه، وقال: «سَيَعِيشُ هَذَا الغُلاَمُ قرنا»

(١) ينظر: اختلاف القراء في هذا الحرف في: «السبعة» (٣٧٩)، و «الحجة» (٥/ ٩١)، و «معاني القراءات» (٢/ ٨٩)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٤٢٦)، و «إتحاف» (٢/ ١٩٥)، و «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٤٤)، و «البحر المحيط» (٦/ ١٧)، و «الدر المصون» (٤/ ٣٧٩)، و «المحتسب» (٢/ ١٥).
(٢) ينظر: «الطبري» (٨/ ٥١).
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ٥١) برقم: (٢٢١٥٠)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٤٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٣٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٠٧)، وعزاه لابن جرير.
(٤) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١١٩٦).
(٥) في الحديث: علي ختن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أي زوج ابنته.
ينظر: «لسان العرب» (ختن).

صفحة رقم 458

قُلْتُ: كم القَرْنُ؟ قالَ: مِائَةُ سنة «١» قال محمد بن القاسِمِ: فما زِلْنَا نَعُدُّ له حتى كمل مائة سنة، ثم مات رحمه الله.
والباء في قوله: بِرَبِّكَ زائدةٌ، التقديرٌ وكفَى ربُّكَ، وهذه الباء إِنما تجيء في الأغلب في مَدْحٍ أو ذمٍّ، وقد يجيء «كَفَى» دون باء، كقول الشاعر: [الطويل]... كَفَى الشَّيْبُ وَالإِسْلاَمُ لِلمَرْءِ ناهِيَا «٢» وكقول الآخر: [الطويل]

وقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ... الآية:
وَيُخْبرُني عَنْ غَائِبِ المَرْءِ هَدْيُهُ كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبِرَا «٣»
المعنى فإِن اللَّه يعجِّل لمن يريدُ من هؤلاء ما يشاء سبحانه على قراءة النون «٤»، أو ما يشاء هذا المريد على قراءة الياء، وقوله: لِمَنْ نُرِيدُ شرط كافٍ على القراءتين، وقال أبو إسحاق الفَزَارِيُّ: المعني: لِمَنْ نريدُ هَلَكَتَه «٥»، و «المدحورُ» : المهان المُبْعَدُ المذَّلل المسخُوطُ عليه.
وقوله سبحانه: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ، أي: إِرادَة يقينِ وإِيمانٍ بها، وباللَّهِ ورسالاتِهِ، ثم شرَطَ/ سبحانه في مريدِ الآخرة أنْ يَسَعى لها سَعْيَها، وهو ملازمة أعمال الخير على
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٥/ ٤٤)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٧١)، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٢) عجز بيت وصدره:
عميرة ودع إن تجهزت غاديا...
ينظر: «الإنصاف» (١/ ١٦٨)، و «خزانة الأدب» (١/ ٢٦٧)، (٢/ ١٠٢- ١٠٣)، و «سر صناعة الإعراب» (١/ ١٤١)، و «شرح التصريح» (٢/ ٨٨)، و «شرح شواهد المغني» (١/ ٣٢٥)، و «الكتاب» (٢/ ٢٦)، (٤/ ٢٢٥)، و «لسان العرب» (١٥/ ٢٢٦) (كفى)، و «مغني اللبيب» (١/ ١٠٦)، و «المقاصد النحويّة» (٣/ ٦٦٥)، وبلا نسبة في «أسرار العربيّة» ص: (١٤٤)، و «أوضح المسالك» (٣/ ٢٥٣)، و «شرح الأشموني» (٢/ ٣٦٤)، و «شرح عمدة الحافظ» ص: (٤٢٥)، و «شرح قطر الندى» ص: (٣٢٣)، و «شرح المفصل» (٢/ ١١٥)، (٧/ ٨٤)، (١٤٨)، (٨/ ٢٤، ٩٣، ١٣٨)، و «لسان العرب» (١٥/ ٣٤٤) (نهى).
(٣) البيت لزياد بن زيد العدوي، ينظر: في «الغراء» (٢/ ١١٩)، و «التهذيب»، و «اللسان» (هدى)، و «البحر» (٦/ ١٤)، و «الدر» (٤/ ٣٧٧).
(٤) قرأ الجمهور بالنون «نشاء». ونافع «يشاء» بالياء من تحت. ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٤٦)، و «البحر المحيط» (٦/ ١٨). [.....]
(٥) أخرجه الطبري (٨/ ٥٥) برقم: (٢٢١٧١)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٤٦).

صفحة رقم 459
الجواهر الحسان في تفسير القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي
تحقيق
عادل أحمد عبد الموجود
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1418
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية