
هذا الاعتبار يحتمل وجهين:
أحدهما: أنكم تقرون: أن اللَّه هو خالق السماوات والأرض، وخالقكم، فخلق السماوات والأرض على الابتداء، وخلق سائر الخلائق على الابتداء بلا احتذاء، تقدم وسبق - أعظم وأكبر من خلق من دونه، فمن قدر على إنشاء ذلك، فهو على إنشاء أمثالكم وإعادتكم أقدر، وإعادة الشيء في عقولكم أهون وأيسر من ابتدائه.
والثاني: تعلمون أنه خلق السماوات والأرض، وخلقكم أيضًا، فلم يخلقهما للفناء خاصة؛ إذ خلق الشيء للفناء خاصة لا لعاقبة عبث ولعب؛ فدل أنه خلقكم، وخلق السماوات والأرض؛ لعاقبة، وهي البعث.
وعلى ذلك يخرج قوله: (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ) أنه كائن لا محالة.
وجائز أن يكون قوله: (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ) جوابًا لما استعجلوا من العذاب، فقال: وجعل لهم أجلًا لا يتقدم عنه ولا يتأخر.
أو أن يكون قوله: (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ).
الموت الذي به تنقضي آجالهم، لكنه لم يخلقهم للموت خاصة ولكن للعاقبة، وهو ما ذكرنا.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: " خبت " أي: سكنت: يقال: خبت، إذا سكن لهبها تخبو، فإذا سكن لهبها ولم يطفأ الجمر، قلت: خمدت تخمد خمودًا، فإذا طفئت، ولم يبق منها شيء، قيل: همدت تهمد همودًا.
وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا).
أي: نارًا تتسعر، أي: تتلهب
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: " السعير ": النار، يقال: سعرت النار: إذا أوقدتها، ويقال: نار مسعورة، أي: موقدة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا).
أي: كفرًا بالبعث، و " الظالمون " هاهنا هم الكافرون، ولو قال: فأبى الكافرون إلا ظلموا، ما كان واحدًا.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ.: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (١٠٠)
تحتمل الآية وجوهًا:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هي صلة ما تقدم من أسئلتهم، وهو قوله: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ).
وقوله: (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا).
كانوا يسألون هذه الأشياء على التعنت والعناد والاستهزاء، فأخبر أنه وإن أعطاهم ما سألوا لا ينفقون، بل يمسكون عن الإنفاق، ومن سنته: أنه إذا أعطاهم ما سألوا على السؤال، فتركوا الإيمان به والوفاء -: أنهم يهلكون، فأخبر أنهم يسألون سؤال تعنت، لا سؤال ما يتوسعون بها.
وفي الآية إثبات الرسالة؛ وهو ما بين من بخلهم وإمساكهم عن الإنفاق.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ) في قوم خاص يعلم اللَّه أنهم لو أعطوا ما سألوا لفعلوا ما ذكر، لا في كل منهم، وهو كقوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ...) الآية، وكقوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ) الآية، كان في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون فعلى ذلك الأول.
ويحتمل أن تكون الآية في قوم ضمنوا آية الإنفاق والتوسيع، وعاهدوا اللَّه على ذلك إن وسع عليهم، فأخبر أنهم لا يوفون ما عاهدوه وضمنوا؛ كقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ).
ويحتمل أن يكون هذا إخبارًا منه عن طبع الخلق وعادتهم: وذلك أنهم إذا استكثروا من الأموال وجمعوا يزداد لهم بذلك حرص على جمعها، وبخل على التوسيع والإنفاق ما لم يكن قبل الجمع والاستكثار، هذا هو المعروف في الناس، فأخبر أنهم يمسكون عن الإنفاق والتوسيع إذا ملكوا ما ذكر على ما طبع الإنسان بالبخل والتضييق عند الاستكثار ما لم يكن قبل ذلك.
وقوله. عَزَّ وَجَلَّ: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا).
يحتمل أن يكون هذا صفة كل كافر، وكذلك قوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) و (مَنُوعًا)، يكون عادتهم البخل والجزع عند المصائب.
وجائز أن يكون هذا صفة كل إنسان في الابتداء هكذا يكون، ثم بالامتحان والتجربة، يكونون أسخياء صابرين.
أو يكون يخبر أنهم لو ملكوا وأعطوا جميع ما يرزقون في عمرهم على التفاريق بدفعة واحدة مجموعًا، لأمسكوا عن الإنفاق؛ خشية الفقر في آخر عمرهم؛ إذ لا يعلمون إلى ما