آيات من القرآن الكريم

وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ

في أنهار الجنة».
فهؤلاء ومن كان مثلهم حجة على أهل زمانهم، وشهيد عليهم «١».
٦- القرآن الكريم تبيان لكل شيء من أصول التشريع والحلال والحرام، والشرائع والأحكام، ومبادئ الحياة الإنسانية، قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام ٦/ ٣٨].
وذلك يدل على أنه لا تكليف من الله تعالى إلا ما ورد في هذا القرآن، أي إما جملة وتفصيلا، وإما جملة فقط. أما الأدلة الأخرى كالإجماع وخبر الواحد والقياس، فقد دل القرآن الكريم ذاته على حجيتها، كما هو معروف في علم أصول الفقه. وكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيان الكتاب، فمن ثم كان تبيانا لكل شيء، كما قال الزمخشري.
أجمع آية في القرآن للخير والشر والوفاء بالعهد والهداية والإضلال
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٠ الى ٩٦]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤)
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦)

(١) تفسير القرطبي: ١٠/ ١٦٤

صفحة رقم 210

الإعراب:
تَوْكِيدِها مضاف إليه، وهو مصدر وكّد، ويقال: أكّد في وكّد، والواو هي الأصل، والهمزة بدل منها كما كانت في «أحد» وأصلها «وحد».
أَنْكاثاً منصوب على المصدر، وعامله نَقَضَتْ لأنه بمعنى: نكثت نكثا، أو حال.
تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ حال من ضمير تَكُونُوا.
أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ في موضع نصب على تقدير: كراهة أن تكون أمة، أو لئلا تكون أمة.
وتَكُونَ تامة، وأُمَّةٌ فاعلها. وهِيَ أَرْبى.. مبتدأ وخبر، والجملة في موضع رفع، صفة أُمَّةٌ. وهاء بِهِ تعود على العهد، وقيل: التكاثر.
البلاغة:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ.. مقابلة حيث جمع بين الأمر بثلاثة، ونهى عن ثلاثة. وإيتاء ذي القربى خاص بعد عام للاهتمام به. وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها تشبيه تمثيلي، شبّه تعالى من يعاهد ثم ينقض عهده بالمرأة التي تغزل غزلا ثم تنقضه.

صفحة رقم 211

فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها فيه استعارة القدم للرسوخ في الدين والتمكن فيه، لكون الثبات يكون عادة بالقدم، ثم شبه الانحراف عن الحق بزلل القدم، وهو تشبيه المعنوي بالانزلاق الحسي بطريق الاستعارة.
يُضِلُّ وَيَهْدِي بينهما طباق، وكذا بين يَنْفَدُ وباقٍ.
المفردات اللغوية:
بِالْعَدْلِ قال ابن عطية: العدل: فعل كل مفروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم، والإنصاف وإعطاء الحق. والإحسان: فعل كل مندوب إليه «١».
وذكر البيضاوي أن العدل: التوسط في الأمور اعتقادا، كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر، وعملا كالتعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب، وخلقا كالجود المتوسط بين البخل والتبذير. والإحسان: إحسان الطاعات، وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل، أو بحسب الكيفية، كما
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان عن عمر: «الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك».
والخلاصة: إن العدل: الإنصاف، والإحسان: إتقان الأعمال والتطوع بالزائد عن الفرائض، ومقابلة الخير بأفضل منه، والشر بأقل منه.
وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى إعطاء القرابة حقهم من الصلة والبر، وخص ذلك بالذكر اهتماما به والْفَحْشاءِ كل قبيح قولا أو فعلا، ويشمل الزنى والسرقة وشرب المسكرات والطمع ونحو ذلك من المذموم وَالْمُنْكَرِ ما أنكره الشرع واستقبحه العقل السليم، كالكفر والمعاصي من الضرب الشديد والقتل وغمط حقوق الناس، ونحو ذلك وَالْبَغْيِ ظلم الناس، والاستعلاء عليهم وتجاوز الحد، وخصه بالذكر اهتماما، كما بدأ بالفحشاء اهتماما بها لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تتعظون.
جاء في المستدرك عن ابن مسعود: وهذه أجمع آية في القرآن للخير والشر. وكانت سبب إسلام عثمان بن مظعون رضي الله عنه، ولو لم يكن في القرآن غير هذه الآية، لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة للمؤمنين.
بِعَهْدِ اللَّهِ العهد: كل ما يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه الوعد والبيع والأيمان وغيرها وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ نقض اليمين: الحنث فيها، والأيمان هنا: مطلق الأيمان أو أيمان

(١) البحر المحيط: ٥/ ٥٢٩

صفحة رقم 212

العهد تَوْكِيدِها توثيقها كَفِيلًا شاهدا ورقيبا بالوفاء، حيث حلفتم به، والجملة حال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ في نقض الأيمان أو العهود، وهو تهديد لهم.
نَقَضَتْ أفسدت أو فكت غزلها من بعد إبرام وإحكام غَزْلَها ما غزلته من صوف ونحوه، وهو مصدر بمعنى المفعول مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ متعلق بنقضت، أي من بعد إحكام له وإبرام أَنْكاثاً جمع نكث: وهو ما ينكث بمعنى منكوث وهو المنقوص، أي يحل فتله وينقض بعد غزله. وهي امرأة حمقاء من مكة، كانت تغزل طول يومها، ثم تنقضه. تَتَّخِذُونَ أي لا تكونوا مثلها في اتخاذكم أيمانكم مكرا وخديعة دَخَلًا أي فسادا ومكرا وخديعة، وأصل الدّخل: ما يدخل في الشيء، وليس منه، والمراد أن يظهر المرء الوفاء بالعهد ويبطن النقض.
أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أي لأن تكون جماعة هِيَ أَرْبى أكثر وأوفر عددا. والمناسبة: أنهم كانوا يحالفون الحلفاء، فإذا وجدوا أكثر منهم وأعز، نقضوا حلف أولئك، وحالفوهم.
إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ يختبركم الله بما أمر به من الوفاء بالعهد، لينظر المطيع منكم والعاصي، أو يختبركم بكون أمة أربى، لينظر: أتفون بالعهود أم لا؟ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ في الدنيا من أمر العهد وغيره، بأن يعذب الناكث ويثيب الوافي وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هذه المشيئة مشيئة اختيار على مذهب أهل السنة أُمَّةً واحِدَةً أهل دين واحد، متفقين على الإسلام وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي أنه تعالى جعل ناسا للشقاوة أو الضلال وهم من لم يأخذوا بأسباب الهدى، وكان في سابق علم الله أنهم لو تركوا وأنفسهم لما فعلوا إلا الضلال والفساد والبهتان، وجعل ناسا آخرين للسعادة وهم من اهتدوا بآيات الله، وعلى هذا النحو خلق الضلال والهدى، أما الإضلال فبالخذلان لمن اختار الكفر، عدلا، وأما الهداية فبالتوفيق لاختيار الإيمان والدوام عليه، فضلا.
وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هذا سؤال توبيخ وتبكيت يوم القيامة، لا سؤال تفهم، فهذا منفي في آيات أخرى، مثل: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن ٥٥/ ٣٩].
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ كرره تأكيدا، وهو تصريح بالنهي عنه بعد التضمين، تأكيدا ومبالغة في قبح المنهي فَتَزِلَّ قَدَمٌ أي أقدامكم عن محجة الإسلام، وإنما وحد ونكر للدلالة على أن زلل قدم واحدة عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟! بَعْدَ ثُبُوتِها استقامتها عليه السُّوءَ العذاب في الدنيا بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي بصدودكم عن الوفاء بالعهد، أو بصدكم غيركم عنه لأنه يستن بكم وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة.
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي ولا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسوله عرضا يسيرا من الدنيا، بأن تنقضوه لأجله. والمناسبة: أن قريشا كانوا يعدون بوسائل الإغراء ضعاف المسلمين

صفحة رقم 213

ويشترطون لهم على الارتداد أن يكافئوهم إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي إن ما عند الله من النصر والغنيمة في الدنيا، والثواب في الآخرة هو خير لكم مما يعدونكم من عطاء في الدنيا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كنتم من أهل العلم والتمييز، وتعلمون ذلك، فلا تنقضوا. والخلاصة: إن هذه الآية تحذير من نقض أيمان مخصوصة، وهي نقض عهد رسول الله على الإيمان به، واتباع شرائعه، طمعا في خيرات الدنيا ومغرياتها.
ما عِنْدَكُمْ من أعراض الدنيا وأمتعتها يَنْفَدُ يفنى أو ينقضي وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته باقٍ دائم لا ينفد وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا على الوفاء بالعهود وأذى الكفار ومشاق التكاليف أَجْرَهُمْ ثوابهم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بجزاء أحسن من أعمالهم، وقال السيوطي: أحسن بمعنى حسن هنا.
سبب النزول:
نزول الآية (٩١) :
وَأَوْفُوا: أخرج ابن جرير عن بريدة قال: نزلت هذه الآية في بيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج ابن جرير عن مزيدة بن جابر أن الآية نزلت في بيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان من أسلم يبايع على الإسلام، فقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ..
الآية، فلا تحملنكم قلة محمد وأصحابه، وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وإن كان في المسلمين قلة، وفي المشركين كثرة.
نزول الآية (٩٢) :
وَلا تَكُونُوا: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي حفص: كانت سعيدة الأسدية حمقاء، تجمع الشعر والليف، فنزلت هذه الآية: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها.
المناسبة:
بعد أن أفاض الله تعالى في وعد المتقين ووعيد الكافرين، وأكد الترغيب والترهيب، أتبعه بأوامر جامعة لأمهات الفضائل، وأصول الأخلاق الاجتماعية،

صفحة رقم 214

وأنواع التكاليف المفروضة والنوافل، وهي العدل والإحسان والوفاء بالعهود.
أما آية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ فهي- كما قال ابن مسعود- أجمع آية في القرآن للخير والشر، وسأذكر الحديث كله. وقال عنها قتادة: ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به، ويستحسنوه، إلا أمر الله به، وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدّم فيه، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامّها. ولهذا
جاء في الحديث الذي أخرجه الطبراني وأبو نعيم والحاكم والبيهقي عن سهل بن سعد: «إن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها».
وقال الحافظ أبو يعلى في كتاب معرفة الصحابة عن علي بن عبد الملك بن عمير عن أبيه، قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأراد أن يأتيه، فأبى قومه أن يدعوه، وقالوا: أنت كبيرنا، لم تكن لتخفّ إليه، قال: فليأته من يبلّغه عني ويبلّغني عنه، فانتدب رجلان، فأتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالا له: نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك من أنت، وما أنت؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أما من أنا؟ فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا فأنا عبد الله ورسوله.
قال: ثم تلا عليهم هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية.
قالوا: ردّد علينا هذا القول، فردده عليهم حتى حفظوه، فأتيا أكثم، فقالا: أبى أن يرفع نسبه، فسألنا عن نسبه، فوجدناه زاكي النسب، وسطا في مضر- أي شريفا- وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعهن أكثم قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها- مساوئها-، فكونوا في هذا الأمر رؤساء، ولا تكونوا فيه أذنابا «١».
وقد ورد في نزولها حديث حسن طويل رواه الإمام أحمد، مفاده أنها كانت سببا في إسلام عثمان بن مظعون، وموجزه: أن عثمان بن مظعون كان جليس

(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٥٨٢ وما بعدها.

صفحة رقم 215

النبي صلّى الله عليه وسلّم وقتا، فقال له عثمان: ما رأيتك تفعل فعلتك الغداة، قال:
وما رأيتني فعلت؟ قال: شخص بصرك إلى السماء، ثم وضعته على يمينك، فتحرفت عني إليه، وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك، قال: أو فطنت لذلك؟ أتاني رسول الله آنفا، وأنت جالس، قال: فماذا قال لك؟ قال لي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ.. الآية قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي، وأحببت محمدا صلّى الله عليه وسلّم. ورواه ابن أبي حاتم من حديث عبد الحميد بن بهرام مختصرا.
وأخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أعظم آية في كتاب الله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ. وأكثر آية في كتاب الله تفويضا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق ٦٥/ ٢- ٣]. وأشد آية في كتاب الله رجاء: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر ٣٩/ ٥٣].
وعن عكرمة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية، فقال له:
يا ابن أخي، أعد عليّ، فأعادها عليه، فقال له الوليد: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن رضي الله عنه: أنه قرأ هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية، ثم قال: إن الله عز وجل جمع لكم الخير كله، والشر كله في آية واحدة، فو الله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله تعالى إلا جمعه وأمر به، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئا إلا جمعه وزجر عنه.

صفحة رقم 216

التفسير والبيان:
هذه الآيات دعائم الحياة الإسلامية وركائز المجتمع الإسلامي، فالآية الأولى يأمر الله فيها عباده بالعدل والإنصاف بصفة مطلقة في كلّ شيء، في التّعامل، والقضاء والحكم، وشؤون الدّين والدّنيا، وسلوك الإنسان مع نفسه ومع غيره، بل وفي الاعتقاد، فلا يعبد بحقّ وعدل غير الله الخالق الرّازق النافع، والآلهة المزعومة من أصنام وأوثان وكواكب وملائكة وأنبياء وأولياء وزعماء لا تستحق شيئا من العبادة والتقديس، قال ابن عباس في آية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ:
شهادة أن لا إله إلا الله.
روى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال: صف لي العدل، فقلت: بخ، سألت عن أمر جسيم، كن لصغير النّاس أبا، ولكبيرهم ابنا، وللمثل منهم أخا، وللنساء كذلك، وعاقب الناس على قدر ذنوبهم، وعلى قدر ذنوبهم، وعلى قدر أجسامهم، ولا تضربنّ لغضبك سوطا واحدا، فتكون من العادين.
ويندب الله تعالى إلى الإحسان، والإحسان في العبادة: هو كما في
حديث عمر في الصحيحين: «أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
والإحسان في الجزاء العقاب بالمثل واستيفاء الحق في القتل والجرح عن طريق القصاص (المعاملة بالمثل). والإحسان في وفاء الحقّ أو الدين: أداؤه من غير مماطلة، أو مع الزيادة غير المشروطة المتبرع بها.
وأفضل الإحسان وأعلاه الإحسان إلى المسيء،
فقد أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم به: «وأحسن إلى من أساء إليك تكن مسلما».
وقال عيسى بن مريم عليه السّلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك.
وروى البخاري في تاريخه أن علي بن أبي طالب مرّ بقوم يتحدّثون،

صفحة رقم 217

فقال: فيم أنتم؟ فقالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أو ما كفاكم الله عزّ وجلّ ذاك في كتابه إذ يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ فالعدل: الإنصاف، والإحسان: التّفضل، فما بقي بعد هذا؟
وقال سفيان بن عيينة: العدل في هذا الموضع: هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا، والإحسان: أن تكون سريرته أحسن من علانيته، والفحشاء والمنكر: أن تكون علانيته أحسن من سريرته.
ويأمر الله في هذه الآية بإيتاء ذي القربى أي بصلة الأرحام والأقارب، بالزيارة والمودة والعطاء والتّصدق عليهم، كما قال تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء ١٧/ ٢٦]، وقد خصّه بالذّكر مع أنه داخل في الإحسان للاهتمام به والعناية بشأنه.
وبعد أن أمر تعالى بثلاثة نهى عن ثلاثة فقال: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، والفحشاء: الشيء المحرم كالزّنى والسّرقة وشرب المسكر وأخذ أموال النّاس بالباطل.
والمنكر: ما قبّحه الشّرع والعقل، وظهر من الفواحش من فاعلها، كالقتل والضرب بغير حق، وازدراء الناس وغمطهم حقوقهم، قال تعالى: قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف ٧/ ٣٣].
والبغي: ظلم النّاس والاعتداء عليهم
جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن أبي بكرة: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدّنيا، مع ما يدّخر لصاحبه في الآخرة، من البغي، وقطيعة الرّحم».
والخلاصة: العدل: أداء الواجب، والإحسان: الزيادة فيه، والفحشاء والمنكر والبغي: تجاوز حدود الشّرع والعقل.

صفحة رقم 218

يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي يأمركم بما يأمركم به من الخير، وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشّر، لتتعظوا وتتذكروا وتعملوا بما فيه مرضاة الله تعالى، فقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ليس المراد منه التّرجي والتّمني، فإن ذلك محال على الله تعالى، فوجب أن يكون معناه: أنه تعالى يعظكم لإرادة أن تتذكّروا طاعته، وهو يدلّ على أنه تعالى يريد الإيمان من الكلّ.
وبعد أن ذكر الله تعالى كلّ المأمورات والمنهيات في الآية الأولى على سبيل الإجمال، خصص بعضها بالذّكر، فبدأ بالأمر بالوفاء بالعهد، فقال تعالى:
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ.. أي ووفوا بالعهود والمواثيق، وحافظوا على الأيمان المؤكدة، وعهد الله: كلّ ما يجب الوفاء به، من تطبيق أحكام الإسلام، وكلّ عهد يلتزمه الإنسان باختياره، والوعد من العهد، كما قال ابن عباس.
ثم أكّد الله تعالى ضرورة الوفاء بالعهد بقوله: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها.. أي واحذروا نقض العهود وأيمان البيعة على الإسلام بعد توثيقها باسم الله. وأكّد ووكّد لغتان فصيحتان. والمراد بالأيمان هنا: هي الدّاخلة في العهود والمواثيق، أي أيمان العهد أو الأحلاف المعقودة، لا الأيمان التي هي واردة على حثّ أو منع.
روى أحمد ومسلم عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدّة»
يعني في نصرة الحق والقيام به، والمعنى: أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التّمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.
وهذا مثل حلف الفضول الذي ذكره ابن إسحاق فقال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه، حتى تردّ عليه مظلمته. فسمّت

صفحة رقم 219

قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي حلف الفضائل. وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أي شهيدا.
ثمّ جعل الله تعالى نفسه رقيبا على العهود لتأكيد احترامها: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ أي إنه مطّلع ومراقب كلّ ما تفعلونه في العهود، من البرّ بها أو النّقض لها، ومحص ذلك عليكم، ومجازيكم على أفعالكم، ثوابا ورضا في حال البرّ والوفاء، وعقابا وسخطا في حال النّقض والعبث والإخلال بأحكام المعاهدة.
وهذا وعد للطائع، ووعيد وتهديد للمخالف الذي ينقض عهده بعد توكيده.
ثم أكّد الله تعالى حرمة العهد مرّة ثالثة فقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ... أي ولا تكونوا في نقض العهود والمواثيق كالتي نقضت غزلها بعد إبرامه. قال عبد الله بن كثير والسّدّي: هذه امرأة خرقاء كانت بمكّة، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه. واسمها: ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة.
أو هو مثل لمن نقض عهده بعد توكيده كما قال مجاهد وغيره، فمن نقض العهد كان كمن نقض الغزل بعد فتله وإبرامه، فهو ليس من فعل العقلاء، وإنما في زمرة الحمقى. والأنكاث: الأنقاض.
تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ.. أي تجعلون أيمانكم على الوفاء بالعهد خديعة ومكرا وتغريرا بالطرف الآخر، من أجل أن تكون جماعة أقوى وأكثر عددا وعدّة من جماعة أخرى، بل عليكم الوفاء بالعهود والحفاظ عليها.
فقوله تعالى: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ معناه أنكم تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم، ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم، غدرتم، فنهى الله عن ذلك، لينبّه بالأدنى على الأعلى، أي إذا نهاكم عن الغدر في هذه الحالة، فلأن ينهى عنه مع التّمكن والقدرة بطريق الأولى. وأربى: أكثر.

صفحة رقم 220

والمقصود: النّهي عن العود إلى الكفر بسبب كثرة الكفار وكثرة أموالهم.
ومن أمثلة الوفاء بالعهد: أن معاوية كان بينه وبين ملك الروم أمد، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل، حتى إذا انقضى، وهو قريب من بلادهم، أغار عليهم، وهم غارّون- غافلون- لا يشعرون، فقال له عمرو بن عنبسة: الله أكبر يا معاوية، وفاء لا غدر،
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من كان بينه وبين قوم أجل، فلا يحلنّ عقدة حتى يمضي أمدها»
فرجع معاوية رضي الله عنه بالجيش.
إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أي إنما يعاملكم معاملة المختبر، بأمره إياكم بالوفاء بالعهد، لينظر أتغترون بالكثرة والقلّة أم تراعون العهد؟! وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ.. أي وليبينن لكم ربّكم يوم القيامة ما كنتم تختلفون فيه، من أمر الإيمان والكفر، والوفاء بالعهد والنّقض، فيجازي كلّ عامل بعمله من خير أو شرّ، وهذا إنذار وتحذير من مخالفة ملّة الإسلام، التي من أهمّ أحكامها وجوب الوفاء بالعهد.
والله قادر على جمعهم على الإيمان وعلى الوفاء بالعهد، فقال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً.. أي ولو شاء الله لجعل الناس على ملّة واحدة أو دين واحد، بمقتضى الفطرة والغريزة، فتصبحون كالملائكة مخلوقين على منهج الطاعة والانقياد لأمر الله تعالى، فلا اختلاف ولا تباغض ولا شحناء، وإنما وفاق بينكم.
ولكن حكمة الله اقتضت خلقكم متفاوتين في الكسب، كسب الإيمان والتزام الأحكام، مختارين الاعتقاد والعمل، فيضلّ من يشاء ممن سبق في علمه أنه سيختار الضّلال، ويهدي من يشاء ممن علم في الأزل أنه سيفعل الخير ويختار الإيمان.

صفحة رقم 221

وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي ثم يسألكم يوم القيامة سؤال حساب وجزاء، لا سؤال استفهام، عن جميع أعمالكم، فيجازيكم عليها خيرا أو شرّا.
ونظير الآية كثير في القرآن، مثل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس ١٠/ ٩٩]، ومثل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود ١١/ ١١٨- ١١٩].
وبعد أن حذّر الله تعالى في الآية الأولى عن نقض العهود والأيمان على الإطلاق، حذّر في قوله: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها، وهي أيمان البيعة للنّبي صلّى الله عليه وسلّم على الإسلام.
والمعنى: يحذر الله تعالى عباده وينهاهم عن اتّخاذ الأيمان دخلا، أي خديعة ومكرا، تغرون بها الناس، لئلا تزل قدم في الضّلال بعد ثبوتها على الاستقامة والإيمان. وهذا مثل لمن كان على الاستقامة، فحاد عنها، وزلّ عن طريق الهدى، بأيمان حانثة مشتملة على الصّدّ عن سبيل الله لأن الكافر إذا رأى المؤمن قد عاهده، ثم غدر به، لم يعد يثق بالدّين، فانصدّ بسبب الغدر عن الدّخول في الإسلام.
وَتَذُوقُوا السُّوءَ.. أي وتذوقوا العذاب السّيء الشديد وهو القتل والأسر في الدنيا، بسبب صدّكم عن سبيل الله لأن الدخول في الدّين، ثم الخروج منه، مشجع للآخرين بالبعد عن الإسلام.
وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أي ولكم عقاب شديد في الآخرة، جزاء المخالفة والانضمام لفئة الأشقياء الضّالين.
أي إنكم إن نقضتم العهد وقعتم في مفاسد ثلاثة:

صفحة رقم 222

١- البعد عن منهج الاستقامة والنّأي عن طريق الهدى، بعد الثّبات فيهما.
٢- تحمّل سوء العذاب في الدّنيا بالقتل والأسر وسلب الأموال وهجر الأوطان.
٣- العقاب في الآخرة جزاء الإعراض عن جادّة الحقّ والإعراض عن أهله.
ثم حذّر الله تعالى عن نقض العهد بالمعاوضات فقال: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي لا تعتاضوا عن الأيمان المحلوفة بالله عرض الحياة الدّنيا وزينتها، فإنها قليلة.
إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي لو خيرت للإنسان الدّنيا بحذافيرها، لكان ما عند الله هو خير له، أي جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به، وهو خير أيضا من ذلك العرض القليل في الدّنيا.
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم تعلمون التّفاوت بين خيرات الدّنيا وبين خيرات الآخرة.
ووجه الخيرية: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ أي إن متاع الدّنيا أو نعيمها ينقضي ويفرغ ويزول، وإن طال الأمد، وما عند الله من ثواب في الجنّة باق خالد لا انقطاع ولا نفاد له، فإنه دائم لا يحول ولا يزول.
وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا.. أي والله لنجازي ونثيب الصابرين الذين صبروا على أذى المشركين وأحكام الإسلام التي تتضمن الوفاء بالعهود، بأحسن أعمالهم ونتجاوز عن سيئها، وهو ثواب عظيم، ووعد حسن بمغفرة السّيئات.
فقه الحياة أو الأحكام:
حدّدت هذه الآيات دعائم المجتمع المسلم في الحياة الخاصة والعامة، للفرد والجماعة والدولة.

صفحة رقم 223

فأمرت الآية بأوامر ثلاثة، ونهت عن نواه ثلاثة، تعتبر محاسن الأخلاق.
أما الأوامر: فهي التزام العدل، والإنصاف بأداء الواجبات والفرائض، وفعل الإحسان وهو الزيادة والتّفضل، أو النافلة المستحبة فوق الفرض والواجب، وإيتاء ذي القربى أي صلة الأقارب والأرحام. وإنما خصّ ذا القربى لأن حقوقهم أوكد، وصلتهم أوجب.
قال ابن عطية: العدل: هو كلّ مفروض من عقائد وشرائع في أداء الأمانات، وترك الظلم والإنصاف، وإعطاء الحقّ. والإحسان: هو فعل كلّ مندوب إليه فمن الأشياء ما هو كلّه مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أنّ حدّ الإجزاء منه داخل في العدل، والتّكميل الزائد على الإجزاء داخل في الإحسان.
وقسم ابن العربي العدل ثلاثة أقسام: عدل مع الله، وعدل مع النفس، وعدل مع الناس، فقال:
العدل بين العبد وبين ربّه: إيثار حقّه تعالى على حظّ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزّواجر والامتثال للأوامر.
وأما العدل بينه وبين نفسه: فمنعها مما فيه هلاكها قال الله تعالى:
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى وعزوب الأطماع عن الاتّباع، ولزوم القناعة في كلّ حال ومعنى.
وأما العدل بينه وبين الخلق: فبذل التّضحية، وترك الخيانة فيما قلّ وكثر، والإنصاف من نفسك لهم بكلّ وجه ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل، لا في سرّ ولا في علن، والصّبر على ما يصيبك منهم من البلوى، وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذى.

صفحة رقم 224

وأما النّواهي الثلاثة: فهي عن الفحشاء والمنكر والبغي. والفحشاء:
الفحش، وهو كلّ قبيح من قول أو فعل كالزّنى والغيبة. والمنكر: ما أنكره الشّرع بالنّهي عنه، وهو يعمّ جميع المعاصي والرّذائل والدّناءات على اختلاف أنواعها، وأخطرها الشّرك. والبغي: هو تجاوز الحدّ، كالكبر والظّلم والحقد والتّعدّي. وخصّ بالذّكر، بالرّغم من دخوله تحت المنكر، اهتماما به لشدّة ضرره. ومن معاني
الحديث: «لا ذنب أسرع عقوبة من بغي»
«الباغي مصروع»، وقد وعد الله من بغي عليه بالنّصر، وفي بعض الكتب المنزلة:
لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكّا.
وتضمّنت هذه الآية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
والآية الثانية خصصت بالذّكر الأمر بالوفاء بالعهد، لخطورة العهود والمواثيق. وعهد الله: لفظ عام يشمل جميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة.
وأكّدت الآية حرمة العهود والمواثيق بعدّة مؤكّدات: أولها النّهي عن نقضها حتى تنتهي مدّتها، بعد تشديدها وتغليظها، وإشهاد الله عليها. وإنما قال تعالى: بَعْدَ تَوْكِيدِها للتّفرقة بين اليمين المؤكّدة بالعزم وبين لغو اليمين.
ثمّ مثّل لنقضها بصورة المرأة الحمقاء التي تنقض غزلها إنقاضا بعد إبرامه وفتله، ثمّ شنّع على النّاقضين باتّخاذ الأيمان خديعة ومكرا وغشّا وتغريرا، ثمّ قبّح البواعث والأهداف من الغدر ونقض العهد تأييدا لقوّة قبيلة كثيرة قوية، وتحلّلا من عهد القبيلة الضّعيفة القليلة العدد، والعدد، فقال تعالى: لا تنقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى، أو أكثر أموالا، فتنقضون أيمانكم، إذا رأيتم الكثرة والسّعة في الدّنيا لأعدائكم المشركين.

صفحة رقم 225

ثم نبّه الله تعالى أن العهود ابتلاء واختبار، وأن الله تعالى سيبيّن الحقائق يوم القيامة في الاختلاف من البعث وغيره.
ثم ذكر تعالى أنه قادر على جعل الناس على ملّة واحدة هي ملّة الإيمان، والاجتماع على الوفاء بالعهود.
ولكنه تعالى يوفق بهدايته من يشاء فضلا منه عليهم، ويضلّ من يشاء بخذلانه إياهم لاختيارهم سبيل الضّلال، عدلا منه فيهم، وسيسأل الجميع عن أفعالهم.
ثم بالغ تعالى في النّهي عن عقد الأيمان والعهود المنطوية على الخديعة والفساد، فتزلّ قدم بعد ثبوتها، أي عن الإيمان بعد المعرفة بالله، وهذا استعارة لمستقيم الحال، الذي لا يوفي بالعهد، فيقع في شرّ عظيم.
ثمّ توعّد تعالى المخادعين في الأيمان والعهود بعذاب في الدّنيا، وعذاب عظيم في الآخرة. وهذا الوعيد الشديد فيمن نقض عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن من عاهده، ثمّ نقض عهده، خرج عن الإيمان، وذاق السّوء في الدّنيا: وهو ما يحلّ بهم من المكروه.
ثم حذّر الله تعالى من المتاجرة بالأيمان والعهود، فنهى عن الرّشاوى وأخذ الأموال على نقض العهد، فقال تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدّنيا، وإنما كان قليلا وإن كثر لأنه مما يزول، فهو إذن قليل.
ثم بيّن تعالى الفرق بين حال الدّنيا وحال الآخرة، بأن كلّ ما في الدّنيا ينفد ويتحوّل، وما في الآخرة وما عند الله من مواهب فضله ونعيم جنته لا يزول، لمن وفّى بالعهد، وثبت على العقد.

صفحة رقم 226
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية